22-ديسمبر-2024
(الصورة:الترا جزائر)

(الصورة:الترا جزائر)

لم يكن الحاج مبارك بعزيز، 71 سنة، يتوقع أن الغنيمة الحجرية التي عاد بها ابن عمه راعي الماعز ذات مساء من مساءات العام 1973، ستكون البداية الحقيقية لتجارة حجارة الجيود، المصنفة أحجارًا نصف كريمة.

تنتشر هذه التجارة بشكل واسع في الخليج العربي وآسيا وأوروبا، وتباع هذه الحجارة هناك ما بين 5 دولارات إلى 1000 دولار للحجرة الواحدة

طرح ابن عمه أمام ناظريه كوكبة من الأحجار الزرقاء والحمراء تسر الناظرين، ومبلغًا من المال، تحصله من بيعها كتذكارات للسياح الأجانب، فقرّر أن يصحبه إلى الموقع الذي التقطت منه، بمنطقة " إيكعاب إملالين"، قرب بلدية بانيان، ولاية بسكرة.

 خلال الحفر عثر المنقبان على حجارة غير مألوفة، تشبه القوقعات، أو الكمأة البراقة، وخلال كسرها على طريقة الجوز الهندي تبرز داخلها ألوان كريستالية مشعة، لا بل مذهلة.

أحجار الجيود

يتذكر الحاج مبارك سنواته العشرينية تلك، قائلا لـ " الترا جزائر": " عندما استخرجت تلك الحجارة مع عدد من الأقارب، قمت بوضعها في صناديق على قارعة الطريق فتهافت عليها السواح الأجانب الذين كانوا يجوبون الجزائر في تلك الأعوام الزاهية للسياحة الجزائرية، كنا نبيعها بدينار واحد وخمسة دنانير، بحسب الحجم واللون".

أسرار باريس

قرر بعزيز وعدد من أقاربه توسيع نطاق هذه التجارة البدائية عبر البحث عن تلك الحجارة المدفونة تحت التراب، على شكل مناجم حجرية غير مستكشفة فيضيف: "كنا نمشط ربوعًا شاسعة في منطقة بانيان والأجوار، لنجلب منها تشكيلات مختلفة الألوان والأحجام، وكنا نرجع مسرورين بكميات كبيرة منها من مناطق ايكعاب إملالين، وفيسن وتامزيرت نْ ايقونديَّن و هاقليعت، و تاليليت المتميزة بالأحجار الزرقاء.

أحجار الجيود

أتذكر أن مستثمرا ثريًا في قطاع الفندقة ظل يقتنيها منا ليعيد بيعها في ولايات أخرى، قبل أن أحملها بنفسي في صناديق وأسوقها رفقة ابن عمي في العاصمة ووهران وعنابة وقسنطينة غانمًا وراءها الأموال".

كان الرجل يعتقد أن رواج تلك التذكارات صخرية المدرة للمال سببه اللمعان المبهر، وما توقع أبدًا أن تكون تلك الحجارة أكثر أهمية سوى عندما زار باريس العام 1989. قادته الصدفة إلى دكان حرفي عليم بأسرارها الكبرى.

يقول ضاحكًا: "رأيت تلك الحجارة التي أبيعها عنده، وعندما سألته عن مصدرها قال إنها من الجزائر، فضحك بعدما أخبرته أني البائع، ليطلعني بأنها تحتوي على مادة العقيق، المستخدمة في نحت الخواتيم والقلائد الأساور وغيرها، كما تنتمي لصنف الحجارة المعالجة حسب " الليتوتيرابي"، أو العلاج بالحجر، ناهيك عن استعمالات حساسة في صناعات أخرى أكثر دقة لاشتمالها على معدن الكوارتز والسليسيوم".

محاجر أرضية

تنتشر محلات عدة لبيع هذه الحجارة في المنطقة السياحية لغوفي، كتقليد بارز منذ عقود، ويطلقون عليها أحجار الجاد، أو " الجيود"، ذات الأصل اللاتيني، وهي ذات أشكال وأنواع، يدير عمار ميمون محلًا لبيع هذا النوع من الحجارة، وتشكيلات حجرية وبركانية ومستحثات مثل القواقع البحرية والقلوب الصخرية والمحارات البحرية والأحجار المستخدمة في صناعة السهام والحراب وقدح النار.

أحجار الجيود

تسألها عن مصدرها فيجيب "الترا جزائر" قائلا: " تنتشر أحجار الجيود أو الأحجار نصف الكريمة في كل الجبال الصخرية، الممتدة من خنشلة شمالًا حتى بوسعادة جنوبًا وهي تكونت جيولوجيا منذ 250 مليون سنة، ويمكن العثور على محاجرها على عمق يمتد من 50 سم حتى 17 مترًا، وهي ذات ألوان شتى ما بين الأصفر والبنفسجي والأحمر والأبيض، عندما تفتحها مثل جوزة هندية بالمطرقة أو الإزميل أو بالضغط تعثر داخلها على اللب وهو مادة الكوارتز".

طوفان نوح

أما كيف استقرت القواقع والمحارات بهذه المناطق، فيضيف المتحدث كاشفًا واحدًا من أكثر الاحتمالات تداولًا: "وهي أنها تعود لفترة طوفان سيدنا نوح الواردة في الكتب السماوية وفي نظريات علماء الجيولوجيا. حمل طوفان النبي نوح كل تلك الموجودات عبر الماء إلى مناطق عدة في كوكب الأرض، ثم استقرت بعد فوران التنور تحت الأتربة لتعاود الظهور عقب آلاف السنين جراء عوامل التعرية".

في وقت سابق كان السياح الأجانب يقتنون كل هذه أنواع الحجارة، لكن ومنذ اكتشفت السلطات الجزائرية الأغراض الهامة لهذه الموجودات الثرية معدنيًا وجيولوجيًا، أصدرت تشريعات تمنع إخراجها من الأراضي الجزائرية باعتبارها تراثا محميًا، كبحًا لعمليات التهريب التي طالت الأحجار البركانية والنيزكية والذهبية في مناطق عدة بينها الطاسيلي ناجار في جانت وإليزي وهضبة الأتاكور في تمنراست.

أحجار الجيود

   

اليوم يقتني طلبة وأساتذة وباحثو المعاهد الجامعية هذه الأنواع من الحجارة للتحليل والدراسة وإجراء التجارب، حيث تباع قطع منها بـمعدل 300 دج للوحدة، أو بأسعار جزافية تخضع للتفاوض. أمّا الأحجار نصف الكريمة فقد طرقت باب التصنيع مثلما هو حال عبد المجيد بعزيز، ابن مبارك بعزيز أحد الرواد الذين بدأوا عمليات التنقيب والتسويق لهذه القطع الصخرية في بانيان منذ نصف قرن.

زينة وعلاج

ورث عبد المجيد الاهتمام بالصنعة من والده لكنه طورها في شكل قانوني معتمد، عبر محل تجاري قار بشرفات غوفي، جنوب ولاية باتنة مختص في بيع المشغولات الحرفية وأهمها الحجارة العقيقية، حيث يقول لـ " الترا جزائر" موضحًا: " تحتوي حجارة الجيود على مادة العقيق، ولهذا الغرض أنشأت ورشة بما تعلمته من تقنيات التحويل الخاصة بالحجارة الكريمة، حيث أقوم باستخراجها بطرق تقنية من بطن القوقعة كي أنحت بواسطة أدوات يدوية منها قطعًا من العقيق الذي تزين به القلائد، التي أعرض بعضها للبيع في هذا المحل، مثل تلك المعلقة في الوسط. ويمكن استعمال ذلك في الخواتيم والسلاسل والأساور".

وإلى ذلك يضيف: " إن هذه المواد التي تكتنزها هذه الحجارة يمكن أن تشكل لوحدها سوقًا يقدر بملايير الدولارات في الدول المتطورة".

يجمع تجار هذه الأحجار البلورية التي يستخلص منها العقيق مختلف الألوان على "فوائد روحية" جمة، فهي تلقي بالسكينة في نفس مستعملها، حيث أنها توفر الطاقة الإيجابية والانشراح، وفي هذا الصدد يقول عبد المجيد: " تمتص هذه الأحجار نصف الكريمة الطاقة السلبية، وتستبدلها بالطاقة الإيجابية، وهي أيضًا ذات تشكيلات متنوعة تستخدم في الزخرفة، ولهذا فأنا أستعملها في مجال صناعة القطع الديكورية الصغيرة وفي أشجار الزينة المنزلية، وهي تشع بالراحة النفسية عندما تتم إنارتها الخافتة داخل غرف النوم، فتساعد على اكتساب النوم الهادئ و المستطيب، ففي علم العلاج بالحجر يعد الجيود حجرًا قويًا في إعادة الشحن".

أحجار الجيود

أما عمار ميمون فيضيف مدققًا: " عدد من الأطباء يستعملونه في العلاج النفسي ضمن إنطاق الطب الباطني، وهي تصدر إشعاعات ذات انعكاسات مثيرة إذا ما أنيرت بأضواء ما فوق بنفسجية. كما نصنع منها خزائن لحفظ المصاغ والمجوهرات، أو أباجورات في غرف النوم والاستقبال".

تكنولوجيا دقيقة

بالإضافة إلى ذلك يضيف عمار لـ "الترا جزائر" مدققًا: " هناك تشكيلات متنوعة للأحجار نصف الكريمة يفوق عددها العشرة، فهناك الصفراء المسننة التي يمكن أن تتميز بخاصيات أربعة كارا إلى ستة كارا، وهي تخدش الزجاج، وفيها مادة الكوارتز التي تستعمل في صناعة الساعات والرقائق الإلكترونية وغيرها من المكونات الدقيقة في عديد الصناعات المرتبطة بأجهزة الاتصالات".

يُجمع المتحدثان على أن كثيرًا من الجزائريين يجهلون استخدامات هذه المواد رغم توفرها على نطاق واسع في التراب الجزائري، خاصة في الهقار والتاسيلي والأوراس وفي الشمال الشرقي بين عنابة و سكيكدة، و في الأطلس التلي ومنطقة القبائل و تيسمسيلت و تيارت، حيث يقدر عبد المجيد بوصفه صانعا بأن 30 % من الجزائريين لديهم معارف بهذا العالم فيما يجهلها 70% منهم بصفة مطلقة.

في حين يلفت عمار إلى أمر بالغ الحيوية حيث يقول: " هناك نقص فادح في الأبحاث التكنولوجية في هذا المجال، لذلك يبدو كما لو أننا نعيش في بلد لا نعرف عنه شيئًا ولا نبذل جهدًا في استكشاف ثرواته والسيطرة عليها بغرض استغلالها في إنتاج الثروة، ولهذا السبب كان السياح يأخذون منه كميات كبيرة على مدار السبعينيات والثمانينيات".

قطعة بـ10 ملايين

وأنت تتجول في شرفات غوفي يمكنك أن تصادف باعة هذه الأحجار في كل مكان، يصففون تشكيلات متنوعة بين الحجم و الشكل و اللون، و تقدر أسعارها بين 500 دينار جزائري إلى 12.000 دينار جزائري، لكن بائعا أشار لي بأنه باع قبل أسابيع قطعة كبيرة و مزركشة فبعضها ذات ألوان بلورية مذهلة، وهي ذات أسعار متلائمة مع الحجم واللون، وتتراوح الأسعار بين 500 دينار جزائري للقطع الصغيرة فيما تتراوح المتوسطة الملونة بين رأيت واحدة ذات لون بنفسجي ثمنها 12000 دج.

حين تتجول في شرفات غوفي يمكنك أن تصادف باعة هذه الأحجار في كل مكان، يصففون تشكيلات متنوعة بين الحجم و الشكل و اللون

تتراوح أسعار هذه الصخور ما بين 5 دولارات إلى 1000 دولار، أما في منطقة غوفي فيخبرني تاجر حاذق، بأن الأسعار تتراوح بين 500 دينار جزائري بالنسبة للقطع الصغيرة، فيما تسوّق الكبيرة منها بسعر 10 ملايين سنتيم، و قد باع، قبل أيام، واحدة منها بهذا الثمن لسائح قطري من هواة جمع الصخور النادرة.

 

دلالات: