04-يوليو-2022
المصمم الفرنسي إيف سان لوران مع مجموعة عارضات (Getty)

المصمم الفرنسي إيف سان لوران مع مجموعة عارضات (Getty)

لم يحدث أن عاد إليه أبدًا، بعد أن غادر وهران والجزائر عام 1954، أكمل دراسته ورحل بزاد معرفي وفنّي مكنّاه من أن يصبح أشهر مصمم أزياء في العالم.. بهذه الكلمات تحدث الدليل السياحي الشاب بن صالح موسى عن منزل إيف سان لوران ابن وهران الذي انطلق من حي سطورة إلى العالمية.

تحكي زوايا المنزل أسرار موهبة بزغت في عالم الموضة والجمال والأزياء، إيف سان لوران الطفل العصبي العبقري الذي احتضنته وهران بسحرها وأثرت في موهبته

"الترا جزائر".. دخلت منزل الفرنسي إيف هنري دونات ماثيو لوران أحد أشهر مصممي الذين ولدوا بالجزائر، ونقلت لحظات حميمة ودافئة ظلّ يخفيها المنزل لأكثر من نصف قرن.

ما وراء سطورة؟

يشع لامعًا بألوانه وسط حي سطورة بوهران غرب البلاد،  (شارع صحراوي ‘براهيم عبد العزيز)، وهو حيّ في قلبالمدينة، يسحر الزائر بتصميمه الفريد الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية، ما جعله يتميز عن بقية المباني المجاورة له والمحيط ة به.

المصمم الفرنسي إيف سان لوران مع مجموعة عارضات (Getty)

منزل إيف سان لوران، أصبح قبلة الزوار اليوم، بعدما بثت فيه روح جديدة، وإعادة ترميم شكله الخارجي وطلائه بألوان زاهية تجمع الأبيض والأزرق والأصفر، بات وجهه مشرقا، ارتدى حلة جميلة زادها رونقا تعديل وتغيير ديكوره الداخلي.. أصبح متحفًا صغيرًا، وإقامة يمكن للمشاهير والنجوم والشخصيات المبيت فيها وقضاء ليلة أو ليالٍ بين ثنايا الذاكرة وعبق التاريخ.

ماذا يوجد بمنزل إيف سان لوران؟

بوابة سامقة الارتقاع، تتوسط المبنى، تؤدي مباشرة إلى رواق طويل في الطابق الأرضي، يمينه ويساره ثلّة من الغرف وفي سقفه مزين ثريات إضاءة وعلى الجدران أيضًا مصابيح جميلة الشكل، أمّا غرف الطابق الأرضي، بعضها مغلق، وغرفة واحدة مفتوحة للزوار موجودة على يسار الرواق، تضم ستائر حريرية وثريا وخزانة خشبية مفتوحة.

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

صعودًا إلى الطابق الأول تمرّ بسلالم من الرخام وتزين الجدران صور إيف لوران وعائلته، ومجموعة كبيرة من تصاميم الفساتين والأزياء المسرحية التي شكلّت انطلاقته الأولى في هذا المجال الفنّي ولعل من أبرزها صورة (مجموعة أزياء خاصة بالشتاء والخريف لعام 1953-1954)، صورة فستان تحت اسم (cyrano berberac acte 1 ere roxane).. وغيرها.

على يمين الطابق الأولى هناك بوابة تؤدي بك إلى ورشة الخياطة التي كان يشتغل بها إيف لوران ويقضي بها أغلب أوقاته في إبداع تصاميم أزياء.. كانت أولّها أزياء عروض مسرحية.. داخل الورشة ماكنة خياطة ليست أصلية، وصور لمجموعة أزياء صممها إيف سان روان وهو طالب في تلك المرحلة بالثانوية من بينها تصاميم تبدو بعضها بسيطة وبعضها الأخر غريبة الشكل، عاكسة الخيال الواسع لإيف سان لوران.

في الورشة يجد الزائر صور فستان السيّدة بوفاري (بطلة رواية غوستاف فلوبارت)، فستان أميرة وأميرة، فستان لسهرة الكبرى.. وغيرها، كما تحتوي الورشة على كتب باللغة الفرنسية وبعض قطع غيار ماكينات الخياطة، وجهاز راديو صغير قديم.. إلخ.

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

ذاكرة مكان

عودة إلى بهو الطابق الأول، تزينه طاولة خشبية عيها تمثال إمرأة مستقلية، وصورة (بورتريه) حقيقية لإيف سان لوران، بجانبها آلة قيتار عملاقة، وعلى امتداد الرواق المؤدي إلى غرفتي النوم ترصع الجدران وزوايا المكان صور كثيرة ومختلفة التقطها بوهران في مرحلة شبابه وطفولته، من بينها صورة له رفقة شقيقتيه، وهما تعزفان على البيانو، في حين كان جالسا على كرسي ويكتب، صور لمدينة وهران بالأبيض والأسود إبّان الاحتلال الفرنسي وتشمل كورنيش البحر وميناء المدينة وسانتا كروز، إضافة إلى جهاز تلفزيون قديم، وبعض التماثيل النحاسية الصغيرة مختلفة الأشكال والتعابير.

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

وفي غرفة واسعة الأرجاء خصصت لوالديه، وضع كرسيين ومكتب خشبي رفيع عليه ثلاث مجلدات، وهاتف عتيق ومصباح عصري، في زاوية الغرفة المحاذية للنافذة تزينها ستائر حريرية. ومقابلها خزانة خشبية يعلوها تمثال رجل في وضعية تفكير وتأمل جالس على  كتابين يكونان حذاء.

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

وبغرفة المعيشة تبرز أرائك عصرية بألوان مزركشة وبغلب عليها اللون البني والأزر ق تماشيًا وبلاط الغرفة، وتحيط الأرائك الثلاثة بطاولة زجاجية عصرية عليها كتاب وباقة أزهار، مشكلة تناغمًا ولوحة فنّية جميلة.

 وبفضاء مفتوح على غرفة المعيشة، طاولة عشاء مصنوعة من الزجاج والخشب، مع وجود ستة كراسي حمراء، وصحون فاخرة، إضافة إلى ثلاث قطع من الشمعدان تحمل شموعًا طويلة بيضاء اللون.. ما يخلق في أجواء المكان نوعًا من الرومانسية والحميمة، سيما وتحيط به صور تحكي قصصًا من جمال وهران والجزائر من خلال مواقع تاريخية وأثرية كسانتا كروز، وجبهة البحر وأزقة الباهية العتيقة وشوارعها ذات التصميم الهندسي الفريد من نوعه.. ما يشعر الزائر أنّه في حقبة الأربعينيات أو الخمسينيات من القرن الماضي.

 ومقابل طاولة الطعام، بوفي طويل، عليه مزهريتان وتمثالين من البرونز تتوسطهما ساعة كلاسيكية مصنوعة من الخشب تشبه شكل المنزل، وعلّقت فوق البوفيه، صور تسرد حكايا الباهية وهران.

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

متحف وإقامة

وحول المكان وأسراره، يقول المهندس يوسف فرنان إنّه "صمم هندسة داخلية للمنزل مست أجزاء معينة منه، وبدأت بتفكيك سقف المنزل، لتغير شكل البناء، وبعدها أنجزها أشغال بالمنزل، مع الحفاظ على هندسة قاعة الاستقبال القديمة، بما في ذلك مربعات البلاط والأبواب والنوافذ الخشبية للغرفة التي رممت بسواعد حرفيين جزائريين".

 ويضيف فرنان: "حافظنا على ذاكرة المكان وغرفة المعيشة وقاعة الأكل وغرفة المعيشة والمكتب، وبالنسبة لباقي الإقامة تم تجديدها واستحدثنا غرفتين كانتا موجودتين في السابق، غير أنّنا منحنا ديكورها طابع بريستيج وموضة لقضاء ليلة في منزل إيف سان لوران".

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

وبخصوص تأثيت محتويات المنزل، يوضح فرنان أنّها "تمت بناء على بحوث في أرشيف عائلة إيف سان لوران، وانطلاقًا من فن الديكور تواصلنا مع مختصين من وهران والجزائر العاصمة  لمحاولة خلق هذا الجو الحميم بهذا المنزل من خلال صور العائلة، صور مشوار ومسيرة سان لوران، مثلًا صور تظهر المدرسة التي تعلّم فيها في مرحلة الابتدائية، عيادة جون سايون التي ولد فيها، مدرسة الفنون الجميلة التي درس بها، وبالتالي تجعل الزائر يعيش تلك الحقبة بكل معانيها وأجوائها".

ويشير المهندس فرنان إلى أنّ "هذا المنزل عبارة اليوم عن إقامة خاصة، لزيارتها يتم حجز التذاكر على مستوى فندق ليبرتي (الحرية)، وهي مفتوحة للجمهور وزوار وهران طيلة أيام الأسبوع (باستثناء الأحد) بمعدل زيارتين في اليوم صباحًا ومساء، فيما يضم معرض أعمال سان لوران التي أنجزها بوهران حوالي 600 رسمة طوال 18 سنة التي عاشها بالمدينة، والعمل جار على إضافة إلى إضافة وعرض تصاميم أخرى".

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

وحول سان لوران وعلاقة بوهران، يلخصها المتحدث في "ولادته بالباهية، دراسته بها، وعبقريته في تصميم الأزياء ولت وبزرت في وهران، وتوجها طوال فترة عيشه بوهران بـ300 ألف تصميم، وعند مغادرته أصبح أصغر مصمم شاب في عالم تصاميم الموضة والأزياء..وانطلق كل هذا التألق من وهران، بدليل اللون الأزرق الذي يميز الواجهات في المنزل يعني لون البحر بوهران".

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

3 آلاف رسمة.. وهران ملهمة

من جهته، يقول المرشد السياحي بالمنزل موسى بن صالح إنّ "المنزل شيد في العام 1913 من طرف والديه، سان لوران ولد عام 1936، وهنا بوهران وضعت أولى خطواته في الفن والتصميم والخياطة، بحيث أبدع في رسم حوالي ثلاثة آلاف تصميم  داخل هذا النزل وهو في عمر المراهقة".

 ووفق بن صالح: الحي الذي كان يسكنه إيف لوران، كان يسكنه المعمرّون، حياته كانت عادية وكأنه في باريس، درس في المدرسة المسيحية في مرحلة الابتدائية، ثم انتقل إلى ثانوية باستور، كما درس الفنون الجميلة، وبعد حصوله على البكالوريا غادر إلى فرنسا وعمره 18 سنة.

منزل المصمم الفرنسي إيف سان لوران

يعود بن صالح في حديثه مع "الترا جزائر" إلى أنّ وضع المنزل بعد الاستقلال تغيّر نوعًا ما، حيث أصبح ملكًا لعائلة منصوري من تلمسان، والتي زارته مرّات عدة بعد أن قطنت به عائلات أخرى، ثم قام السيّد عفان بشراء هذا المنزل وبدأ في ترميمه وحرص على ذلك بشكل كبير لحبه لوهران التي ولد وكبر بها ولاهتمامه بتراث إيف سان لوران.

ويوضح بن موسى أنّه تم إعداد دراسة تقييم حول منزل إيف لوران لمراعاة كل أبعاده بمعايير ترميم دقيقة، بحيث كان العمل الأولي على جعله منزلًا جميلًا بداخله الكثير من المشاعر والسيّد عفان يوليه اهتمامًا كبيرًا.ويلفت بن صالح إلى أنّ غيف سان لوران لم يعد إلى منزل العائلة بعد مغادرته الجزائر عام 1954..

إيف سان لوران في سطور:

وفي 1 أغسطس/آب ولد إيف هنري دونات ماثيو سان لوران، بوهران، والده تشارلز سان لوران ولوسيان، كان الإبن البكر في العائلة، وله شقيقتين أصغر منه سنّا هما ميشيل وبريجيت.

تحكي زوايا المنزل أسرار موهبة بزغت في عالم الموضة والجمال والأزياء، إيف سان لوران الطفل العصبي، العبقري، الذي احتضنته وهران بسحرها وأثرت في موهبته، فقدّم وهو في عمر المراهقة نحو ثلاثة آلاف رسمة كان يجسد بعضها على الأوراق قبل الشروع في الخياطة.

شكلّت وهران جوهرة المتوسط جزءًا من حياته، كانت عالمه، جزءًا من عبقريته المتفرّد التي أوصلته إلى العالمية

عاش إيف سان لوران 71 عامًا (توفي عام 2008)، قضى منها 18 عامًا في الإبداع والدراسة وشكلّت وهران جوهرة المتوسط جزءًا من حياته، كانت عالمه، جزءًا من عبقريته المتفرّد التي أوصلته إلى العالمية.. ماركات إيفا سان روان الراقية كانت ولا تزال رائدة.