15-مايو-2018

عقباوي الشيخ

مثلما يسكنُ الفنّانَ المسرحيَّ شغفُ الممارسةِ فوق الخشبة، يسكنه شغفُ المشاركة في المهرجانات. فهي تمثّل، بالنّسبة إليه، فضاءاتٍ لإثبات الذّات ببعدها التّنافسيّ، ولبناء صداقاتٍ جديدةٍ، (لماذا تولد الصّداقة، التي تثمرها المهرجانات المسرحية عميقةً وقويّةً دفعةً واحدةً؟)، وللهروب المؤقّت من غبار الواقع الرّوتيني، خاصّة إذا كان المهرجان في دولة أخرى.

انتعشت المشاركات الخارجية للمسرحي عقباوي الشيخ في الفترة التي بات فيها المسرح الجزائري يتقشف

من هنا، تُعدّ المشاركة المتكرّرة لأحدهم في المهرجانات محلّ غبطة الآخرين له، حتّى لا أقول محلّ غيرةٍ وحسد. فيصبح مدارَ حديثِ المجالس الواقعية والدّردشات الافتراضية، بين معترف له بالجدارة ومستكثر عليه ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: مرثية لفتح النور بن إبراهيم

في السّنوات الخمس الأخيرة، بات المخرج المسرحي عقباوي الشّيخ، من خلال الفرق الثلاث التي يشتغل معها، فرقة "أسود الخشبة" في أدرار، وفرقة "تافاث آث عبّاس قندوز" من بجاية، وفرقة "إثران آيت لحسن" من تيزي وزّو، في صدارة المسرحيين الجزائريين المشاركين في مهرجانات الخارج، فهو لا يعود من مهرجان حتّى يعلن عن مشاركته في آخر، بما حوّله إلى ظاهرة في هذا الباب. وما أثار الانتباهَ إليه أكثرَ أنّ هذا الحظّ في المشاركة الخارجية انتعش في الفترة، التي تراجع فيها حظّ المسرح في الدّاخل الجزائري، بسبب أنه كان الحقلَ الثقافيَّ الأوّل، الذي طُبّقت عليه سياسة التقشّف، التي فرضها هبوط أسعار البترول (هل هو تقشّف طبيعي أم انتقام، بصفته أكثرَ الفنون، التي رفعت لواء الوعي؟).

حضرتُ بعض تلك المجالس الواقعية، وكنت طرفًا في بعض الدّردشات الفيسبوكية، التي تناولتْ مشاركات عقباوي الشّيخ في الخارج. وكنت أقول إنّه علينا ألا ننظر إلى الأمر على أنه مكسب صرف، فهو يُكلّف صاحبه أتعابًا كثيرة، ويفرض عليه مكابداتٍ سيعجز عن القيام بها معظمنا. وهو بهذا وجه من أوجه النّضال والتّضحية، في ظلّ تخلّف المؤسّسات الوصيّة عن رعاية هذه المشاركات، عكس ما يحدث في بلدان كثيرة، رغم أنّ وضعنا الماليّ أحسنُ بكثير.

سيشارك عقباوي الشّيخ ما بين 31 أيار/مايو و10 حزيران/يونيو بمسرحية "أزيز"، التي اقتبس نصَّها عبد القادر ديلمي عن نصّ "في أعالي الحبّ" للعراقي فلاح شاكر، في مهرجان "بابل" الذي تحتضنه مدينة ارجوفيشت، 80 كيلومترًا جنوب بوخارست. وتعني كلمة "بابل" في اللغة الرّومانية التنوّع، فهو يستقدم فرقًا مسرحية من جهات وتوجّهات دولية مختلفة، لتكون فرقة "أسود الخشبة" من مدينة أدرار الممثّل الجزائريّ والأفريقيّ والعربيّ الوحيد في المهرجان.

حدّثني الممثّل ورئيس الجمعية المنتجة للعرض عبد النّور فرّان قال إنّه اضطرّ إلى بيع هاتفه النّقّال وأغراضًا أخرى ليتدبّر ثمانية ملايين سنتيم، 800 دولار أمريكي بسعر البنوك الرّسمية، حتّى يُوفّر تكلفة الباص، الذّي ينقل الممثّلين من أدرار ليودعوا ملفّات التأشيرة في السّفارة الرّومانية بالجزائر العاصمة. تساءلتُ أمامه: "لماذا لا تضيف مديريات الثّقافة في الولايات إلى جملة مهامّها القيام بمرافقة مثل هذه المشاركات؟ كيف ينطبق عليها فعل "أدار الثّقافة" إذا لم تفعل هذا؟ لماذا لا يتولّى "المسرح الوطني الجزائري" مهمّة التّنسيق مع السّفارات الأجنبية، لتسهيل الحصول على التّأشيرات؟ وما الذي يمنعه من تمويل مشاركة فرقة ما في مهرجان دوليّ ما؟".

كان عبد النّور فرّان يستمع إليّ وطلائع دمعتين تشرشفان أهدابه. فقد أغلق حانوته الذي يقتات وأسرته منه، وانطلق في رحلة بحث عمّن يتكفّل بشراء تذاكر الطّائرة، لأن المهرجان المستضيف لا يفعل ذلك. قال بنبرة عزّى بها نفسه محاولًا أن يصل العزاء إلى أعضاء البعثة المتخوّفين من ألّا يتمّ الأمر: "اتصلت بولاية أدرار، عبر وسيطة مؤمنة بمسعانا، وقد وعدنا الوالي خيرًا".

قال عقباوي الشيخ الذي أسرّ لي على الهامش بكونه لم يستطع أن يطلب من بعض أعضاء البعثة مبلغ ضريبة التّأشيرة المقدّر بستّين دولارًا لأنهم لا يستطيعون ذلك، ممّا اضطرّه إلى التّصرّف: "صحيح أنّني مخرج العرض، لكنّه، بمجرّد أن ينتقل إلى الخارج، لا يمثّلني وحدي، بل يمثّل هذا أيضًا". وأشار إلى علم وطني كان يُرفرف في الجوار.

لماذا تندر الأفلام والمسلسلات والمسرحيات الجزائرية، التي يظهر فيها الشّماليّ الأشقر مع الجنوبيّ الأسمر؟

انطلق الباص الذي يقوده بّا قادة من أدرار على السّاعة الخامسة بعد الزّوال، من يوم الجمعة 11 أيار/مايو، ليصل في السّابعة من مغرب اليوم الموالي إلى مدينة بجاية، لاصطحاب الفنّانين حمزة مشمش وفاروق ميهوبي والعيفة كرّوش وعميروش سعيدون، المشاركين في العرض بين تمثيل وإنارة وصوت. بات الإداريون عند البجاويين، وقبيل الانطلاق في فجر اليوم الموالي إلى الجزائر العاصمة، اكتشفوا أن الباص يحتاج إلى صيانة. لقد قطع 1400 كيلومتر. من هذا الميكانيكيّ الذي يوفّر خدماته في الثّانية فجرًا في المدينة الجزائرية؟ هنا وجد الجماعة أنفسهم ملزمين بأن يتحوّلوا إلى ميكانيكيين، حتى لا يفوتهم موعد السّفارة على التّاسعة صباحًا.

معاناة الفرقة على الطريق

جاؤوا من بجاية وجئت أنا من قلب العاصمة، وجاء عقباوي الشّيخ من حيّ الأبيار. كان يفتح لهم أحضانه بحرارة الرّاهب الأفريقيّ الذي لم يصدّق أن كنيسته قُصدتْ أخيرًا. وكان يحمل كيسًا جمع فيه جوازات سفرهم وصورهم، التي تكفّل بطبعها بعد سحبها من الإيميلات، واستمارات معلوماتهم التي جمعها هاتفيًا. بقي أن يجدوا بقعة مناسبة ليركنوا فيها الباص، الذي لم يتعوّد على التّعامل مع الفضاء العاصمي، فوقع في منحدر لا يمكن خروجه منه إلا بعد أن يدفعوه دفعًا. كنت مشغولًا في الوقت نفسِه بتصوير اللّحظة وبرصد ردود أفعال أبناء حيدرة (أرقى أحياء الجزائر العاصمة والضامّ لمعظم السّفارات المعتمدة) وهم يُعاينون جنوبيين يدفعون باصًا يحمل ترقيم ولاية أدرار، فكانت الدّهشة تأكل عيونهم، لاختلاف ملامح الجماعة، التي توزّعتها شقرة البجاويين وسمرة الأدراريين.

اقرأ/ي أيضًا: عزّوز عبد القادر.. أن تسحب أفريقيا إلى المسرح

كيف لم تكفنا ستّون سنةً من الاستقلال الوطني لجعل هذه اللحظة المشتركة طبيعية في عيوننا؟ ما هي المنظومات المعنية بفشلنا في هذا الباب؟ لماذا تورّطت الفنون، خاصّة المسرح والسينما، في هذا المطبّ، إذ تندر الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، التي يظهر فيها الشّماليّ الأشقر مع الجنوبيّ الأسمر والجزائري النّاطق بالأمازيغية مع الجزائري الناطق بالعربية؟ في العروض الأخيرة لعقباوي الشّيخ حصل هذا.    

قبل يوم واحد، كنت أطلقت صورة في حسابي الفيسبوكي ظهرتُ فيها مع الممثل فاروق ميهوبي من بجاية والممثلة مبروكة سرقمة من أدرار، وأرفقت الصّورة بالتّعليق التّالي: "ثلاثتنا جزائريون. ليست ميزة، فلكلّ جنسية ما تفخر به. غير أن السّؤال الذي علينا نحن الجزائريين أن نواجهه بصرامة: متى نضيف تعدّد ألواننا وملامحنا وأعراقنا ولغاتنا وطقوسنا وجغرافياتنا إلى جملة ما نفخر به، في إطار حقيقيّ من المواطنة؟".

كان عقباوي الشيخ قد التقى القنصل الرّومانيّ سابقًا، فكانت إجراءات دخول الفرقة إلى مقرّ السّفارة يسيرةً. وفي القاعة الصّغيرة المخصّصة للاستقبال، حيث كان كلّ واحد يصعد على حدة إلى قاعة في الطّابق الثاني للردّ على جملة من الأسئلة مرفوقًا بموظّف يخلط الفرنسية بالإنجليزية في الجملة الواحدة، اكتشفت أن الممثلة مبروكة سرقمة تخلّت عن موعد مناقشة مذكّرة تخرّجها في الجامعة الأفريقية، والممثل عبد القادر خيراني تخلّى عن اختبارات نهاية السّنة في الجامعة نفسها، وتقني الإضاءة العيفة كرّوش ترك أمّه طريحة الفراش، وتقني الخشبة إلياس مسعودي تخلّى عن مقابلة مصيرية في كرة القدم.

 متى نضيف تعدّد ألواننا وملامحنا وأعراقنا ولغاتنا وطقوسنا وجغرافياتنا إلى جملة ما نفخر به، في إطار حقيقيّ من المواطنة؟

اقرأ/ي أيضًا: "عزيزي طرزان".. حين يُسقط المسرح أقنعة المجتمع

غادرنا مقرّ السّفارة الرّومانية إلى ساحة حيدرة، حيث ركن بّا قادة باصه العجيب، لتبدأ رحلة العودة من الجزائر العاصمة إلى بجاية، ومنها إلى أدرار. سألت نفسي: هل أنت مستعدّ لأن تخوض الرّحلة يا بوكبّة، وأنت لم تنم منذ ثلاثة أيام، ولا تملك في جيبك ما يضمن لك الطعام وما جاوره؟ (كان هذا حال معظم الجماعة). ثم تذكّرت كلّ الذين عبّروا لي سابقًا عن استكثارهم على عقباوي الشّيخ وجماعته المشاركة في المهرجانات الدّولية، فرقص أمامي المثل الشّعبي الجزائري: "اعمل مثل جارك أو حوّل باب دارك".

 

اقرأ/ي أيضًا:

رولا حمادة: ممثلة ونقطة على السطر

دحو فرّوج: لنحرّرْ مسرح الطفل من سذاجتنا