08-ديسمبر-2019

الرئيس السابق استبعد من ملفات الفساد (الصورة: الجزيرة نت)

ظلّ السؤال مرتكزًا حول محاكمة رموز السلطة الجزائرية حتى قبل استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في الثاني شباط/أفريل الماضي، ومع انطلاق محاكمة وزاراء ومسؤولين في السلطة والتماس أحكام في حقهم من طرف وكيل الجمهورية، بقي السؤال عالقًا، حول سبب استثناء الرئيس السابق من هذه المحاكمات، وهو الذي كان وراء كثير من القرارات التي يُحاكم بسببها الوزراء اليوم.

بدت المحاكمة كما لو أنها تضمّنت اتفاقًا ضمنيًا بين هيئة المحكمة والمتّهمين على استبعاد اسم بوتفليقة

بوتفليقة الحاضر الغائب

قضية تركيب السيّارت والتمويل الخفيّ للحملة الانتخابية، جرّت الكثير من الأسماء في السلطة، بما فيهم الوزيران الأوّلان أحمد أويحيى وعبد المالك السلال، الذين التمس لهما وكيل الجمهورية 15 سجنًا نافذًا، لكن المسؤول الأوّل عن كل تلك السياسات والقرارات، التي انتهت إلى خسائر كبيرة دفعتها الخزينة العمومية، هو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي ظلّ غائبًا عن المحاكمة أو مغيبًا عن تفاصيلها ولو كشاهد، رغم استدعاء شقيقه السعيد بوتفليقة بصفته شاهدًا في هذه المحاكمة.

اقرأ/ي أيضًا: أوّل رمضان دون بوتفليقة.. من فخامة الرئيس إلى فخامة الشعب

ربما تُشير القراءات الأوّلية، في تقصّد استثناء الرئيس السابق واستدعاء شقيقه السعيد، الذي تم تداول اسمه كثيرًا خلال المحاكمة، هو تأكيد حقيقة أن البلاد كانت مختطفة في فترة السبع سنوات الماضية، بسبب الوعكة الصحيّة التي ألمت بالرئيس منذ سنة 2012، وأن كثيرًا من القرارات كان وراءها شقيق الرئيس السابق.

لكن  تكرّر اسم شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة الذي حضر شاهدًا على تصريحات رجال الأعمال الذين موّلوا حملة الرئيس السابق بملايين الدينارات، لا يُسقط بالضرورة اسم رئيس الجمهورية السابق، المعني الأوّل بالحملة الانتخابية والقرارات الاقتصادية الصادرة في عهدته، مادام حاملًا  لصفة القاضي الأوّل للبلاد، والآمر الناهي في مختلف الصفقات.

بدت أطوار المحاكمة في أيّامها الأولى، كما لو أنها تضمّنت اتفاقًا ضمنيًا بين النيابة العامّة وهيئة المحكمة والمتّهمين على استبعاد اسم بوتفليقة من القضية، برغم مسؤوليته السياسية والإدارية عن كبرى القرارات في البلاد.

إدانة واضحة

رفض سعيد بوتفليقة، الإدلاء بشهادته بخصوص تمويل الحملة الانتخابية أثناء المحاكمة والإجابة على أسئلة القاضي، التي كانت تُشير إلى اتصاله مباشرة برجل الأعمال علي حداد وتكليفه بجمع أموال الحملة الانتخابية التي بلغت حوالي 800 مليار سنتيم، أي ما يعادل تقريبًا 60 مليون دولار، غير أن مدير الحملة الانتخابية، الوزير الأول السابق عبد المالك سلال، ذكر بصريح العبارة أن "كلّ المسؤولية تقع على عاتق المرشّح (هنا يقصد بوتفليقة) ونحن كنّا متطوّعين، وأنا وقّعت على حزمة من الوثائق التي تسمح بفتح حسابات خاصّة بتمويل الحملة الانتخابية، لكنّي لم أدقق أو أعرف على ماذا وقّعت".

ممّا سبق يبدو أن هناك ثلاث فرضيات، تستوجب الطرح في مثل هذه الظروف السياسية الساخنة في الجزائر، تتعلّق الأولى بالشقّ القانوني لاستدعاء الرئيس بوتفليقة، سواءً كشاهد أو متّهم، أما الثانية فتتعلق بإدارة أزمة واتفاق مبدئي بين (بوتفليقة الرئيس وقيادة الجيش)، على خلفية حراك شعبي أدى إلى تنحية الرئيس من الحكم بطريقة لم تكن متوقّعة، خصوصًا وأن كل الظروف التي هيأتها السلطة آنذاك كانت تسير نحو عهدة خامسة بتوظيف كلّ أجهزة السلطة، وأن الصفقة كانت بتنحي بوتفليقة عن كرسي الرئاسة مقابل عدم متابعته قضائيًا، أما الثالثة فتتعلّق بمراعاة الحالة الإنسانية والوضعية الصحيّة لبوتفليقة.

عناية قانونية

عدم استدعاء بوتفليقة للمثول أمام قاضي التحقيق، يطرح اليوم عدّة تساؤلات أولها ما يبرزه القانون حول ذلك، بحسب المحامي وأستاذ القانون الدستوري عبد العالي مزيان إذ قال إنّه "من مقتضيات القانون أن يستدعي القاضي الرئيس بوتفليقة لسماعه عقب تصريحات كل من سلال وحداد، خصوصًا وأن وثائق القضية تُبرز تلك الثغرات المالية التي تشير إلى أموال ومصادر تمويل الحملة الانتخابية لصالح مرشح العهدة الخامسة".

وعن استبعاد بوتفليقة الرئيس السابق من قائمة المتهمين أو الشهود، قال المحامي إن "المحكمة التي تعالج الملف برمّته أساسًا، تنتمي إلى سياسات بوتفليقة التي منهجها طيلة فترة حكمه على مدار عقدين من الزمن"، موضحًا في حديث لـ" الترا جزائر" أن "المحكمة تستبعده من أي مساءلة حول قضايا تتعلّق بفترة حكمه وتحت إدارته السياسية وتحت مسؤوليته الدستورية والقانونية، بناءً على المادة 177 من الدستور الجزائري التي لا تسمح بمحاكمة رئيس الجمهورية إلا أمام المحكمة العليا للدولة".

وأضاف مزيان، أن الدستور الجزائري ينصّ على إنشاء محكمة عليا للدولة من طرف رئيس الجمهورية منذ بداية حكمه في 1999، لكنه أقدم على تجاهل إنشائها حتى يجعل نفسه تحت عناية قانونية تمنع من مساءلته.

صفقة سياسية؟

عقدة المحاكمة، تظهر في ما أسماه الباحث في العلوم السياسية محمد طهاري بـ"المانع القانوني في قضية سياسية ولكنه يمارس عن طريق الكيل بمكيالين، فالقانون في حد ذاته يمنع مساءلة رئيس الحكومة، فكيف تمكّن القضاء من تقديم تفسيرات للقانون بخصوص رئيسي الحكومة أحمد أويحي وعبد المالك سلال، في حين تغافل عن استدعاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟".

يستوجب هذا السؤال بحسب طهاري، إجابات من طرف القائمين على السلطة القضائية في الجزائر، "لتروي عطش الجزائريين حول الملفّ الثقيل"، موضحًا لـ"الترا جزائر" أن هناك أسباب أخرى تمنع القضاة من توجيه الاستدعاء لبوتفليقة شخصًا، قد تكون مرتبطة بـ" فرضية السبب الصحّي والإنساني، خصوصًا مع تدهور حالة الرئيس منذ سنة 2012 وعدم قدرته على المشي أو التركيز الذهني، وهو في حدّ ذاته مانع إنساني بحت، ولن يفيد المحاكمة في حيثياتها".

يُعرّج الأستاذ طهاري إلى فكرة أن من يعيد قراءة التاريخ القريب جدًا، في اللحظة التاريخية الفارقة بين أولى جمعات الحراك الشعبي واستقالة بوتفليقة، يضع أمامه فرضية لا بدّ من طرحها لإثباتها أو نفيها، وتتعلّق بـ"اتفاق ضمني أو خفيٍّ بين الرئيس السابق وقيادة الأركان، كضمانات بأن يكون الرئيس بعيدًا عن أي مساءلة ومتابعة قضائية"، موضّحًا أن "وقفة المحاكمة لا يقبلها أحد في آخر العمر لرئيس الجمهورية، من حيث الشقّ الاعتباري لمنصبٍ هو الأعلى في هرم الدولة الجزائرية".

المحاكمة الأخيرة هي إدانة شاملة لسياسة حكم الرئيس بوتفليقة طيلة العشرين سنة الماضية

رغم كل هذه القراءات، إلا أنّ متابعين للشّأن السياسي في الجزائر، يرون أن الطابع الجنائي والاقتصادي لقضايا الفساد المفتوحة أمام المحكمة، هي إدانة شاملة لسياسة حكم الرئيس بوتفليقة، حتى وإن افترضنا عدم استدعائه، خصوصًا أن العام والخاص يوجّه أصابع الاتهام إلى كلّ رموز الرئيس السابق و من شارك معه من قريب أو من بعيد، ووضع يده في ملف الفساد والإضرار بالاقتصاد الجزائري، وتحطيم أعوام البناء والتشييد، وتهشيم سنوات الأمل الذي تشبث به الجزائريون بعد سنوات الدّم والدموع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عصر بوتفليقة.. من تقديس الوطن إلى تقديس الفرد

أجنحة الحكم في الجزائر.. تناقضات مقصودة