21-يونيو-2019

إدوارد سعيد (غاري ستيفنس/ فليكر)

إنّ الخطابَ المعرفيّ عند إدوارد سعِيد، سواء في نقده لخطاب الاستشراق، أو في نقده للمنظومة الإمبريالية، أو في نقده الأدبي لكلاسيكيات الأدب الأوروبي، هو خطابٌ عابِر للأزمنة، وعابِر للجغرافيات.

 لقد نبّهنا إدوارد سعيد، من خلال كتابه الاستشراق، إلى أنّ جوهر الاستشراق ليس هو دراسة الشرق، بل هو إعادة صناعته من جديد

وإذا حاولنا تفسير سرّ هذه الطاقة التي يتمتّع بها خطابه المعرفي فإنّنا نجد بأنّ "الهاجس الإنساني" هو الذي يختفي وراء هذه الحيوية في فكره؛ بمعنى آخر، لقد كتب إدوارد سعيد انطلاقًا من رؤية إنسانوية، دافع فيها عن الإنسان المقهور ضدّ أجهزة الهيمنة التاريخية.

انتقد إدوارد سعيد، المراكز الإمبريالية في العالم الغربي، بفضح تناقضاتها الصارخة في مرجعياتها الإنسانوية التقليدية، كما أسّس لها فلاسفة النهضة والتنوير، وما يقابلها من هتك لكرامة الإنسان باستعباده وخلق عالم مبني على لامساواة جذرية، عالمٌ ممزقٌ ومشتتٌ ومنهك بفعل الحركات الاستعمارية تارة وبفعل الأنظمة النازية والفاشية التي أدخلت العالم في حربين مدمّرتين، وصولًا إلى الامبريالية الاقتصادية والثقافية التي تعصف بأركان الثقافات المحليّة باسم عولمة شاملة بدأت كتصوّر اقتصادي لتبلغ الآن مبلغًا من الخطورة أدّت إلى إعادة صياغة الإنسان وإعادة هندسة وجوده.

اقرأ/ي أيضًا: إدوارد سعيد قارئًا تاريخ الرواية العربية

اتسمت كتابات إدوارد سعيد الغزيرة والمتنوّعة، بقدر كبير من المسؤولية الأخلاقية إزاء مشكلات الإنسان، فناقش أسئلة الهويّة، والتمثيل، والثقافة، والخطاب، والعلمانية، والمثقّف، والقضيّة الفلسطينية...أي أنّه اشتغل على سؤال الإنسان الذي يتطلّع إلى التحرّر من المخيّلات الكولونيالية والإمبريالية.

لم ينقد سعيد الاستشراق – وهو الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون – بل انتقد خطاب الاستشراق؛ فلم يتوقّف نقده عند إبراز الآليات الخطابية والبنيات المعرفية للاستشراق، بل فضح تحيّز المعرفة/الخطاب للمشروعين الكولونيالي والامبريالي.

 لقد نبّهنا إدوارد سعيد، من خلال كتابه الاستشراق، إلى أنّ جوهر الاستشراق ليس هو دراسة الشرق، بل هو إعادة صناعته من جديد، من هنا جاء مصطلح الشرقنة ليفضح الآليات الخطابية للاستشراق، وهو بذلك قد عبّر عن رؤية نقدية عميقة. لقد كان أمام صورة مختلقة عن الشرق، تشكّلت منذ قرون داخل المخيّلة الأوروبية، فجاء الاستشراق ليضع هذه الصورة داخل نظام معرفي ومنهجي جدّ مُحكم.

لا ننسى أنّ صورة سعيد، هي أيضًا صورة المثقّف النقدي، الذي دافع عن رؤية مقاومة للثقافة بشكل عام، فثقافات العالم الثالث معنية بصياغة مشاريع ثقافية مقاومة للهيمنة الغربية، فلن يكون إخراج المستعمر من الجغرافيات المنهوبة كافيًا لصناعة إنسان جديد، فالمقاومة ههنا تتخذ شكل التحرّر من أصفاد نفسية وروحية وفكرية مازالت تكبّل المجتمعات المستعمَرة كنوع من عقدة نقص إزاء الآخر.

كتاب الإستشراق لـ إدوارد سعيد هو بمثابة موقفٍ سياسي شجاع إزاء المؤسّسة الامبريالية الغربية، وإزاء الواقع العربي أيضًا

إنّ كتاب الاستشراق، على حدّ تعبير توماس بريسون، هو بمثابة التأسيس للحظة اتخاذ المثقّفين العرب الكلمة لنقد المعارف التي أنتجها الأوروبيون. لكننا نضيف إلى هذا، أنّ هذا الكتاب هو بمثابة موقفٍ سياسي شجاع إزاء المؤسّسة الامبريالية الغربية، وإزاء الواقع العربي أيضًا. لقد كان سعيد مثقفًا شجاعًا وهو يخوض معاركه الفكرية والسياسية ضدّ الغرب في عقر داره، وكم نحن في أمسّ الحاجة إلى هذه الروح الشجاعة اليوم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"جدل الثقافة".. النقد في مواجهة أسئلة الكولونيالية وما بعدها

رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم