03-مايو-2020

الفنان إيدير (تصوير: بلال بن سالم/Getty)

يعتمر قبعة  الفيدورا الكلاسيكية، ويسير واهن الخطى كرجل بلغ السبعين من العمر وأخذت الأسقام تحوم حوله، لا تفارقه ابتسامته التي يأخذها معه أينما ذهب، يتذكّر سيرة الشاب الذي غادر قريته آث يني صغيرًا، نحو ديار السعادة بالعاصمة، ثم نحو باريس. يحتضن معه قيثارته التي عاشت معه عقودًا من الحلم، ذلك الشاب الذي درس الجيولوجيا، واشتغل لفترة بإحدى الشركات النفطية.

كان إيدير مسكونًا بعالم الحكايات الشعبية القديمة، ولم يكن يفارق جدّته وعجائز قريته

قلب إيدير كل الأقدار ومضى في سبيل بعيد جدًا عن الحفر والتنقيب، أو ربّما  منقّبًا في الطبقات الجيولوجية العميقة للموسيقى والفن، بحثًا عن أعذب ألحانه، لقد إختار أن يلبس اسمًا جديدًا وحياة جديدة، في قريته الصغيرة لم يعلم الناس أنّ حميد شريط هو إيدير، إبن القرية المحبوب من طرف الجميع، قد بدأ يصنع للتو مجدًا لنفسه. لقد منحت آث يني عاصمة الفضّة، هذا العالم حنجرة من ذهب.

اقرأ/ي أيضًا: "شكشوكة".. أغنية سياسية ساخرة لـ"تاكفاريناس"

حارب جسدُه المُتعب من الزمن، مرضًا رئويًا لا يريد أن يغادره، يُطل من على أريكة منزله متحدثًا بصوتٍ خافت ليقول لمحبيه "أنا هنا، لم أمت" ، لكنه استسلم هذه المرّة، وغادر الحياة تاركًا وراءه ترانيم للحب والسلام.

نقطة البداية..

ولد إيدير في يوم الخامس والعشرين من أكتوبر من عام 1949، بقرية آث لحوسين بآث يني بتيزي وزو، كان منذ صغره يملك موهبة الغناء، كان منصتًا جيّدًا لـ "أشويق" جدته، كان منشد مدرسته الأوّل، وهو يذكر دائمًا في حوارته، أنّ أستاذ العلوم الطبيعية هو من أوقد فيه الرغبة في الغناء، كانت موهبته ظاهرة للعيان منذ أن بلغ التاسعة من العمر.

لكن الفتى المجتهد، لم يُعر اهتمامًا لموهبته، بل طالما منح الأولوية لدراسته، حيث أكمل تعليمه متخرّجًا من الجامعة بشهادة مهندس دولة في الجيولوجيا، حينها انتقل إلى الصحراء للعمل في شركة نفطية، وهناك قاده القدر مرّة أخرى لاكتشاف موهبته من جديد، كان بعد ساعات العمل يحمل قيثارته وينزوي في مكان معزول للغناء، فاكتشف زملاؤه ذلك وصاروا يستمتعون بما كان يؤدّيه، هناك غنّى لأول مرّة رائعة "فافا إينوفا وتعرّف على أشخاص أوصلوه لاستديوهات الإذاعة الوطنية.

في الإذاعة الوطنية، كانت الصدفة هي من حملت إيدير ليغنّي على أثيرها للمرّة الأولى، ففي عام 1973 طلب منه أحد منتجي الإذاعة، أن يخلف على وجه السرعة مغنّية غابت لأسباب قاهرة في حصّة للأطفال، لقد كانت تلك نقطة البداية، يوم سمعته أمّه دون أن تعلم أن ولدها هو من كان يغّني.

كتابة الحياة..

كان إيدير مسكونًا بعالم الحكايات الشعبية القديمة، ولم يكن يفارق جدّته وعجائز قريته، حرصًا منه على أن يرشف من ينابيع التراث الشفوي والأساطير الشعبية. كان ينهل منهن قصصهن وينسجها على طريقته في أغنيات يختار كلماتها بعناية فائقة، فيما يُجيد ببراعة إلباسها بموسيقى فريدة من نوعها، كي يمنح لها أفقًا واسعًا يسمح لها بالتحليق بعيدًا. لقد كان يقول "تأتي كلماتي من تربة قريتي وألحاني من أتربة العالم"، فقد كان إيدير سبّاقًا لتحديث الأغنية الأمازيغية وإدخال آلات موسيقية جديدة عليها.

بعد تجربة الإذاعة الوطنية، طُلب من إيدير تسجيل أغنية في القناة الإذاعية الناطقة بالأمازيغية، فوقع اختياره على أغنية "فافا إينوفا"، تلك الترنيمة الملائكية القادمة من الجنة، أصبحت أسطورة وأيقونة للفن الأمازيغي، بعدما ترجمت لعشرات اللغات وأداها مئات المغنيين.

لم يكن إيدير من ذلك الصنف من الفنانين الذي ينتجون ألبومًا كل عام، بل كان يغيب لفترة طويلة ليعود للظهور بألبوم جديد، سُئِل يوما عن الأمر فقال "أنا أكتب ما أغنيه، ولحد اليوم لم أستطع كتابة شيء لم أعشه".

يمتلك إيدير في رصيده تسعة ألبومات غنائية، ومئات الحفلات الغنائية في شتّى بقاع الأرض، لقد صدر له " فافا إينوفا" عام 1973، "أراش ناغ" (أبناؤنا) عام 1979، غاب بعدها لعشرية كاملة ليعود عام 1986 بألبوم "القرية الصغيرة"، "الباحثون عن النور" عام 1993، و"ضفتين وأمل واحد" سنة 2002، لتتواصل مسيرة العطاء في الألفية الجديدة بألبومات "فرنسا بالألوان"، و"أذرار إينو"، ويُنتج ألبومًا أخيرًا ظهر فيه رفقة عديد الفنانين العالميين على غرار شارل آزنافور عام 2017.

ليس مجرّد فنّان..

يشكّل إيدير علامة فارقة في ريبيرتوار الفن الأمازيغي، ففي أغانيه يتجلّى تعلّق الأمازيغي بالأرض، وتشبّثه بهويته، كانت أغاني إيدير تعيد سامعها لسنوات الطفولة، لأغاني الجدّات والأمهات، لزوايا الغرفة الصغيرة والبيت الحجري، الذي يتقاسم فيه الأهل ضيق المكان وفسحة القلب، لقد كانت أغنية "أندا يلّا"  تحكي قصّة النساء اللائي ينتظرن غريبًا طال غيابه، فيما تحاكي أغنية "أغريب"، قصة نفس الغريب الحائر بين ويلات الغربة ومرارة الفاقة. كانت أغانيه تونس الأمهات والعشّاق، تُبكي الرجال، وتُفرح الأطفال، لقد كان حقًّا فنان الجميع. فقد يكون ما قاله عالم الإجتماع الفرنسي بيار بورديو عن إيدير ملخّصًا لمعدن الرجل "إيدير ليس شخصًا عاديًا، هو فرد من كل عائلة".

عاش إيدير وفي قلبه جمر متّقد إزاء وضعية الثقافة الأمازيغية في الجزائر، لكنه كان يحمل دائمًا نظرة مغايرة للقضية، كان يدافع عن هويته داخل الإطار الوطني لا خارجه، فحين عاد للجزائر للغناء بعد 39 سنة من الغياب، أعلن من ركح القاعة البيضاوية وفي منابر أخرى، "أنه لا جزائر دون منطقة القبائل، ولا وجود لمنطقة القبائل دون الجزائر".

طيلة مشواره الفني، كان إيدير عصّيًا على السلطة وبعيدًا عن السياسة، بل كان يمنح لنفسه دائمًا مساحة أمان بينه وبين الخوض في السياسة، وكان موقفه هذا يجلب له بعض سوء الظن حتى داخل منطقة القبائل، لقد كان أبناء المنطقة يرون فيه فنانًا بعيدًا عن قضيتهم كما كان يفعل معطوب الوناس مثلًا، لكن تلك كانت طريقة إيدير في النضال، حيث يُروى أن وزير الإتصال والثقافة الأسبق حمراوي حبيب شوقي، أراد جلبه لحفل غنائي صيف عام 1993، فأجابه إيدير: "لمن سأغني؟، للذين يقتلون كل يوم، أم للقابعين في محتشدات الصحراء".

عاش إيدير وفي قلبه جمر متّقد إزاء وضعية الثقافة الأمازيغية في الجزائر

كان إيدير يقول دائمًا " لقد نشأت في عائلة متواضعة، تربيت على صورة والدي وهو يخرج أغنامه فجرًا ويعود بها مع غروب الشمس، نشأت مع جدتي ومع أمي التي كانت تمخض حليب ماشيتنا. كان ما تقوله لي أمي ليس مجرّد كلمات، لقد كانت مدرستي الأولى، لقد كانت شاعرة بمواصفات زمنها، كان الناس يأتون من قرى بعيدة لسماعها، السبب في ما وصلت إليه، هو أنني لم أنس من أين أتيت".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"عبد القادر يا بوعلام".. قصيدة صوفية أوصلت الراي إلى العالمية

أمزيك.. ثلاثي الأغنية القبائلية المعاصرة