ارتبطت الزّيارات الرّسميّة إلى الولايات، منذ فجر الاستقلال الوطنيّ (1962)، بالإعداد لها من طرف السّلطات المحلّيّة، من خلال مظاهر باتت دالّةً عليها، منها تنظيف المدينة وتشجيرها وتزيينها وإعطاء انطياع بكون كلّ شيئ على ما يرام. ثمّ يكتمل المشهد عند وصول المسؤول الكبير رئيسًا كان أم رئيس حكومة أم وزيرًا.
كانت زيارة الوزير الأوّل إلى ولاية الجلفة القطرة التّي أفاضت كأس التّبرّم الشّعبيّ
تُصرف في هذا المسعى أموال ويُسخَّر عمّال وتُحشد فرق فلكلوريّة وتعطّل مصالح، بما ربطها في ذهن المواطن بمظاهر الكذب عليه وعلى المسؤول وتبذير المال العامّ. وجعله يعتقد أنّها تنتمي إلى العهد السابق، وأنّها ستذهب معه وتختفي في ظلّ "الجزائر الجديدة" التّي قال الرئيس عبد المجيد تبّون إنها سوف لن تشهد مواكب للمسؤولين.
غير أنّ الجزائريّين لاحظوا أنّ حركة المرور بقيت تنقطع بسبب الزّيارات الرّسميّة. وأنّ الاحتفالات الفلكلويّة وما يتبعها من مظاهر سابقة، مثل منح "البرنوس" للمسؤول الوافد، بقيت سارية المفعول، وأنّ حملات التّشجير والتّزيين والتّنظيف التّي تسبق الزّيارة بساعات قليبة ما تزال في متناول الأعين والكاميرات.
وكانت زيارة وزير التّجارة كمال رزّيق إلى ولاية بشّار، وزيارة الوزير الأوّل عبد العزيز جرّاد إلى ولاية الجلفة، السّبت، القطرة التّي أفاضت كأس التّبرّم الشّعبيّ العامّ من عودة هذا المنطق في تسيير الزّيارات الرّسميّة، فقوبل بنبرة ساخرة واضحة في الواقع والمواقع، بما كشف عن رغبة شعبيّة في تجاوز مظاهر الغشّ والفساد ومجاملة المسؤولين الذّين يفترض أنّهم خرجوا إلى الميدان ليعاينوه كما هو، ويتّخذوا القرارات المناسبة بخصوصه.
فقد سارعت المواقع والصّفحات المحلّيّة في ولاية الجلفة، ومعها حسابات المواطنين، إلى نشر مظاهر الإعداد لاستقبال الوزير الأوّل ليلةً قبل موعدها، من ذلك ردم بالوعات كانت موجودة منذ شهور، وتشجير مساحات كانت عارية، وتزيين واجهات كانت تشكّل عنفًا بصريًّا، حتّى أنّ مجموعة من الشّباب قامت بتعليق حبّات البرتقال في أشجار النّخيل التّي غرست حديثًا، في محاولة للفت نظر الوزير الأوّل إلى الغشّ، فكانت أكثر الصّور تداولًا بين الفسابكة الجزائريّين.
هنا كتب الكاتب السّاخر
مصطفى بونيف أنّ أحدهم حدّثه أنّه استيقظ صباحًا، فوجد شجرة كبيرة وناضجة عند مدخل البيت، فظنّها كرامة ربّانيّة وطلب من أمّه إعداد أكلة شعبيّة شكرًا لله على نفحاته، لكنّه اكتشف من خلال أبيه أنّ الأمر يتعلّق بتشجير طارئ قامت به السّلطات المحلّيّة استقبالًا للسّيّد جرّاد.
ويتساءل الطّالب الجامعيّ عبد الرحيم نايلي: "لسنا ضدّ إبداء مظاهر الكرم في استقبال ضيوف المنطقة التّي تُعرف وطنيًّا بكونها "خيمة كبيرة"؛ لكن ما معنى أن تُغرس أشجار ناضجة يعلم المواطن أنّها ليست أصيلة بل هي طارئة؟ لماذا الكذب على المواطن والمسؤول معًا؟ ثمّ لماذا يتقبّل المسؤول الوافد مظاهر يمكن للصّغير والكبير والمتعلّم والأمّيّ والمقيم والضّيف أن يدرك أنّها مفتعلة وليست فعليّة؟ هل يجب أن نهتمّ بالمحيط لأجل المواطن الثّابت فيه أم لأجل مسؤول لن يمكث فيه أكثر من ليلتين؟".
ويشير محدّث "الترا جزائر" إلى أنّ الرّئيس تبّون مطالب، إذا أراد أن يقنع الجزائريين بأنّهم بصدد جزائر جديدة أن يقتلع فعلًا لا قولًا، المظاهر التّي تحيلهم على العهد السّابق. يقول: "عليه بتفعيل الزّيارات الفجائيّة التّي تجعل المسؤول المركزيّ يقف حقيقةً على مستوى أداء المسؤول المحلّي، فيحاسبه أو يكافئه على أساسه".
وتحدّث الأكاديميّ مخلوف عامر، عن زيارة لرئيس الحكومة عام 2016 إلى ولاية سعيدة في الغرب الجزائري؛ فقال إنّ النّاس لاحظوا، أنَّه أُعْلن عن الزيارة منذ مدَّة وتأخَّرت أيامًا، ما سمح لمسؤوليّ الولاية أن يُعبِّدوا بعض الشّوارع ويردموا الحُفر وما أكثرها! واستيْقظوا على سلسلة من الشُّجيْرات على طول الشّارع المُعبَّد، لكنْ، لأنَّها غُرِستْ كبيرة كما بعض الأحزاب في بلدنا، فقد أصابها الذبول. "ما لم يتمكَّن السّيّد رئيس الحكومة من رؤيته هو تلكم الأرصفة التّي يحرصون على تجديدها كلّ عام. فالشّوارع التّي لم تكن مبرمجة في الزّيارة مازالت عبارة عن أحجار مُكوَّمة رغم أنَّ الأرصفة السّابقة لم يكنْ ينقصها تجديد".
ويختم مخلوف عامر: "يبدو أنَّ الخداع قد ترسَّخ فينا، وأنَّ السّمكة إذْ تفسد، فإنَّما يبدأ الفساد من رأْسها".
يحيل هذا الكلام إلى تدوينة فيسبوكيّة للكاتب الصّحافي
رشيد ولد بوسيّافة تقول: "تشجير الجلفة لأجل استقبال الوزير الأول. خدمة المواطن آخر اهتماماتهم!".
وكتب المراسل الصّحافيّ
كريم يحيى أنّه كان يظنّ أنّ فتح المنشأة الفنّيّة وتزفيت مدخل مدينة الجلفة الشّماليّ تمّ بتوجيهات من الوالي، "فتبيّن أنّها ضمن التّحضيرات "الكرنفاليّة" لاستقبال الوزير الأوّل، رغم أنّها ظلّت لسنوات أمام أعين المسؤولين ولم يُحركوا ساكنًا غير آبهين بآلاف المواطنين الذّين يستغلّون هذا الطّريق يوميًّا".
استكمال الشرعيّة النّاقصة لن يكون باستفتاء إضافيّ على التّعديل الدّستوريّ فقط
على الرّئيس عبد المجيد تبّون ومحيطه الإدراك أنّ استكمال الشرعيّة النّاقصة لن يكون باستفتاء إضافيّ على التّعديل الدّستوريّ فقط، بل أيضًا بتجاوز الذّهنيات والتّوجهات المنتمية إلى عهد ما قبل الحراك الشّعبيّ الذّي يُطلق عليه هو نفسه صفة "المبارك"، من ذلك ضبط علاقة المواطن بالمسؤول على أساس الشّفافيّة والمراقبة.