21-أبريل-2019

تتزايد الأخبار المتناقضة والكاذبة في خضم الحراك الشعبي (Getty)

نشهد منذ عقود طوفانًا هائلًا من الأخبار، فالثورة الاتصالية والإعلامية التي شهدها القرن الـ20، والتطورات التقنية المتسارعة التي دشنها القرن الـ21، جعلت الخبر يتنقّل بسرعة ضوئية، لكن أيضًا خلقت مناخًا جديدًا لصناعة الأخبار وعدم الاكتفاء بعملية النقل والبثّ.

إنّ كثرة الأخبار الخاطئة هي في ذاتها تمثّل إستراتيجية إعلامية التجأت إليها الأنظمة الاستبدادية قديمًا وحديثًا

إنّ نقل الخبر أو صناعته، عمليتان مختلفتان تمامًا. لهذا فإنّ الذي يمتلك اليوم قنوات الإعلام، فهو يملك بين يديه أكبر وأخطر جهاز بمقدوره إعادة هندسة العلاقات الإنسانية برمتها؛ لأنّ التحكم في الخبر وفي المعلومة يخفي آليات وقواعد شديدة التنظيم، ما فتئت اليوم تساهم في خلق التوترات والصدامات والتمهيد للصراعات الأكثر دموية. الإعلام اليوم، هو قوة رادعة جدًا.

اقرأ/ي أيضًا: الأخبار الكاذبة.. سيف على رقبة الحراك الشعبي!

اليوم نشهد في خضم هذا الحراك الشعبي في الجزائر، تزايد الأخبار المتسارعة والمتناقضة التي خلقت حالة من الغموض العمومي، بحيث أصبح الإنسان يستفيق على خبر ويمسي على خبر مناقض له.

إنّ كثرة الأخبار الخاطئة، تمثل في ذاتها إستراتيجية إعلامية، التجأت إليها الأنظمة الاستبدادية قديمًا وحديثًا، بل حتى الأنظمة الديموقراطية، وذلك لسببين رئيسيين:

أولًا: لأنها تمتلك مصدر الأخبار والمعلومات، وبذلك تملك القدرة على تغييرها وتعديلها وحتى صناعتها.

 ثانيًا: لأنّ إشاعة الخبر الكاذب يهدف إلى التشويش على الحقيقة، وبذلك إعادة رسم الحدود بين الحقيقة والكذب، وبين الواقع والواقع المزيف.

وعبر هذه الإستراتيجية استطاعت هذه الأنظمة التحكم في شعوبها، من خلال إشاعة حالة الغموض والترقب والالتباس.

إنّ أكبر ما يُخيف هذه الأنظمة هي الحقيقة العارية من ألاعيب السياسة ومصالحها المتشابكة، التي كثيرًا ما تحارب الحقيقة ذاتها بطمسها. هل تساءلنا مثلًا: لماذا أصبح مؤسس وكيليكس الخطر رقم واحد في العالم؟ إنّه يجسد الصورة المُرعبة للحقيقة.

في كتابه المثير "20 درسًا للقرن الواحد والعشرين"، كتب المفكّر يوفال نوح هاراري، في فصل من فصوله عن عصر ما بعد الحقيقة. وهذا المصطلح (ما بعد الحقيقة)، ذكّرني بمصطلح "الواقع الفائق"، الذي صاغه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، الذي تحدث فيه عن أنّ الإعلام اليوم استطاع أن يبني واقعًا جديدًا، كبديل عن الواقع الحقيقي، وفيه تقع كل الحروب والمآمرات والصراعات. وكأننا لم نعد ننتمي إلى الواقع الحقيقي إلا شكلًا فقط، في حين كل وعينا وكل حواسنا وانفعلاتنا مشرئبة إلى الواقع الذي تفيض به الشاشات الفضية. 

طرح هاراري سؤالًا هامًا: "هل نعيش فعلًا في عالم ما بعد الحقيقة؟ ألسنا ننتمي إلى عالم تحفّه الأكاذيب والحكايات الخيالية؟". إنّه يلقي بنظرة فاحصة إلى التاريخ البشري، فلا يرى فيه إلا مجموعة من الأساطير التأسيسية والكثير من السرديات الكبرى، والكثير من الأمم المزيفة؛ فليست الأخبار وحدها التي تتعرض للتزييف بل هناك بلدان هي في جوهرها ليست أكثر من كيانات مختلقة فقط.

 اتكأ هاراري على فكرة مثيرة، وهي أنّ إنسان الهوموسابيان هو تجسيد لنوع ما بعد الحقيقة، لأنّه الكائن الوحيد الذي يصنع الحكايات وينسج الأساطير، بل ولا يستطيع أن يحيا من دونها. ما معنى كل هذا؟ يعني أنّ الإنسان بقدر ما يدّعي أنّه يبحث عن الحقيقة، فهو يسخّر كلّ جهده للهروب منها.

يقول هاراري: "إننا ننتمي إلى النوع الطبيعي، الذي يفضّل القوة على الحقيقة، بل إننا نمنح الوقت والجهد أكثر للسيطرة على العالم أكثر من محاولة فهمه، بل وعندما نحاول فهمه فنحن نفعل ذلك لأجل أن يساعدنا على الهيمنة. التحكم في الحقيقة يعني طمسها أيضًا".

التاريخ مليء بمثل هذه التجارب، أي تجارب تشويه الحقيقة لأجل السيطرة، فالحركات الشيوعية والفاشية والليبريالية، كلها بنت وجودها على اختراق الحدود بين الحقيقة والكذب. 

لقد تحدث هراري مثلًا عن اليابانيين الذين لفقوا خبر تعرّضهم للهجوم من قبل الصينيين، لأجل تبرير غزوهم للصين. وتحدث عن جوزيف ستالين الذي وظف فنّ التصوير لتحسين صورته عند الشعب الروسي بوصفه أبًا رؤوفًا بهم.

ومن بين تلك الصور صورة يظهر فيها يقبّل فتاة تدعى غاليا ماركيزوفا، بكثير من الوداعة والأبوة الغامرة. إلا أنّ هذه الصورة التي نسخ منها الملايين من النسخ، كانت تخفي حقيقته المرعبة، فبعد أقل من عام أقدم ستالين على إعدام والد غاليا بتهمة التآمر عليه لصالح اليابانيين، وبتهمة كونه إرهابيًا تروتسكيًا، كما قام بنفي الفتاة التي قبّلها مع والدتها إلى كازاخستان، قبل أن تموت في ظروف غامضة. بقيت الصورة واختفت الحقيقة. القصّة تلخّص إلى حدّ ما علاقة الإعلام بالحقيقة.

أما النموذج الصارخ للدعاية الإعلامية فهو جوزيف غوبلز، الذي يعتبر المعلّم الأكبر للدعاية النازية، وهو صاحب المقولة الشهيرة: "إذا كذبت مرة واحدة فستظل كذبة، وإذا كررتها لآلاف المرات ستتحول إلى حقيقة". مازالت هذه القاعدة سائرة المفعول إلى اليوم، طالما أنّ إستراتيجية الإعلام لا تخلو منها، فيكفي نظرة سريعة إلى كمّ المعلومات الخاطئة التي تنهمر علينا بشكل يومي لنفهم بأنّ انتشار المعلومة الخاطئة قد يحوّلها إلى حقيقة.

فأخبار كثيرة تم تداولها في الحراك الشعبي، مثل إلقاء القبض على وزير العدل السابق متلبسًا في حالة فرار إلى الشقيقة المغرب وبحوزته كمية معتبرة من الأموال، والغريب في الأمر أنّ قنوات خاصة بثّت الخبر في شريط الأخبار العاجلة، لكن وبعد ساعات نكتشف بأنّ الخبر عار من الصحة.

من المؤكد أن نشر الأخبار الكاذبة في الجزائر شبكة منظمة جدًا تسهر على فرض حالة من الغموض، وهي آلية أصبحت أداة حقيقية لوأد الحقيقة

في هذه الحالة: من الذي أطلق هذا الخبر الخاطئ؟ وما الهدف من بثّ مثل هذه الأخبار في قنوات يفترض فيها الحرص على تقصي الأخبار الحقيقية. أكيد أنّ وراء بث هذه الأخبار شبكة منظمة جدًا تسهر على فرض حالة من الغموض. وهذه الآلية أصبحت أداة حقيقية لوأد الحقيقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإعلام الجزائري.. ساحة ملغمة في وضع حرج

القنوات الجزائرية.. اليتيمة واللقيطات