15-يناير-2021

احتجاجات أمام مبنى التلفزيون العمومي (صورة أرشيفية/ رياض قرامدي/أ.ف.ب)

اضطرّ فاعلون في المجال السياسي في الجزائر، من أحزاب موالية للرّئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة إلى التنحّي من المشهد السياسي لفترة من الزمن، أمام فوْرة شعبية في الشارع الجزائري، رفعت مطلب القضاء على "العصابة" في الحكم.

بلحيمر: وسائل الإعلام اكتفت بالانتقال إلى تمجيد مشروع السلطة لفترة ما بعد بوتفليقة

الانتفاضة الشعبية التي عرفها الشارع الجزائري، رافقتها انتفاضة موازية في مجال الإعلام، حيث احتجح صحافيون داخل المؤسسات العمومية لأول مرّة في تاريخ الجزائر المستقلة، للمطالبة بحريّة الصحافة وحريّة التعبير، غير أن أسئلة جوهرية طُرحت وقتذاك، وهي إلى أين يتوجّه الإعلام؟ هل يذعِن لأصوات الشارع أم ينظُر وينتظِر إلى أين تتجه دفّة الحكم؟ أم يتعامل مع واقع الحركية بآنية الحدث والتخلص من أعباء الانحياز للشلطة على حساب صوت الشعب؟.

اقرأ/ي أيضًا: عودة الإعلام إلى ضلاله القديم

تعددية: العرض والطلب 

لم يكن الإعلام خلال الثلاثين سنة الماضية؛ أي منذ إقرار التعددية الحزبية والإعلامية، أو على الأقل في فترة حكم الرئيس بوتفليقة (1999-2019)، سوى واجهة من واجهات العرض والطّلب السياسي، أطروحة ظلت لعقدين من الزمن يراد لها أن تتماشى مع المطلبية في الشارع، أي منذ بدء الحراك الشعبي في الـ 22 شباط/ فيفري إلى غايةالثاني من شهر نيسان/أفريل 2019، إذ حاولت عدّة قنوات إلى جانب الإعلام العمومي، تمرير خطابات سياسية لبسط فرضية العهدة الخامسة، كما يؤكّد متابعون ومختصون في مجال الإعلام.

 مثّل الحراك الشعبي في الجزائر، الشّأن العام  ومِحور التحوّلات الحاصلة خلال السنتين الأخيرتين، وكاد يخفت مع الأزمة الصحية التي تمرّ بها البلاد بسبب انتشار فيروس كورونا، حيث ألقت هذه التحوّلات بظلالها على منظومة الإعلام في البلاد، خاصّة وسائل الإعلام الثقيلة بالتلفزيون العمومي والخاص.

في مقابل ذلك، حاز الفضاء الافتراضي والشبكة العنكبوتية مهربًا للنشطاء والحقوقيين والحراكيين، وأصبحت ملجأ من لا صوت لهم في الفضاءات الواقعية ومتنفسهم الوحيد، فهل عادت عجلة الإعلام إلى نقطة الصفر؟.

هامِش الحرية والكرّ والفرّ

 كانت علاقة الإعلام بالحراك الشعبي علاقة متباينة بوضوح، إذ فوّت في بداية الهبة الشعبية السلمية، التميّز في الانحياز للشّارع وإعلاء صوته، وخاصّة في الأسابيع الأولى من جمعات الغضب، وأبقت على فرضية "الشعب يريد الإصلاحات والتغيير"، في تلك الفترة قبل استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في حين كانت الأصوات تصدح في الشارع بشعار "الشعب يريد يتنحّاو قاع" أو "يذهبوا جميعًا"، في مشهد لا يعكس حقيقة ما حدث، ويظلّ عالِقًا في صفحة من صفحات التعددية السياسية الجزائرية.

الرجّة الإعلامية، وهزّات الأسابيع الأولى من الحراك الشعبي، أعادت قولبة الإعلام بالشكل الذي أرضى وقتها النّظام الحاكم على مدار أربعين يومًا، قبل استقالة بوتفليقة يوم الثاني نيسان/أفريل، حسب ما قاله المختصّ في الإعلام والناشط الحقوقي محمد بودهان لـ "الترا جزائر"، لكنها مع مرور الوقت لم تكن سوى زوبعة في فنجان التغيير، على حدّ تعبيره.

المؤكّد أن الإعلام خاض تجربة فيها الكثير من التجاذبات، يضيف الناشط الحقوقي، سواءً في شقّها التنظيمي أو في شقّها السياسي مع السلطة، بالنظر إلى مخرجاته سواءً في الصحافة المكتوبة (1991-2012) أو الإعلام السّمعي البصري الخاص تحديدًا في الفترة ما بين (2012-2021)، في جدلية تربطها علاقة معقّدة، هادئة تارة ومتوتّرة تارة أخرى.

بعد فترة الهدنة بين الإعلام والسّلطة التي ميزت المرحلة الأخيرة من فترة حكم الرئيس بوتفليقة، أي العهدة الرابعة، كانت فترة الحراك الشعبي عبارة عن مواجهة حقيقية بين وسائل الاعلام والجمهور المتلقي، فمطالب الشارع "أزاحت الكثير من النّقاط السوداء في الممارسة الإعلامية"، بحسب إعلاميين ومختصّين في مجال الاعلام والاتصال.

تفويت الفرصة

ميّزت هذه الفترة المحاكمات ضدّ رموز الفساد من منظومة الرئيس بوتفليقة، تململًا حقوقيًا تجاه "سيناريوهات محتملة" في محاكمة بعض الوجوه، وهو ما يطرح اليوم تساؤلات أهمّها: هل تواكب هذه القنوات التغيرات الحاصلة بعد الحراك؟ وهل تتأثّر المخرجات الإعلامية بما أملته هذه التغييرات؟ 

البعض يعتقد أن الحَراَك مكَّن من تعرية الواقع الإعلامي، لكن لو نقلب الصورة فالإعلام لم يستفيد إطلاًقا من الحراك بحسب الكاتب الصحافي نجيب بلحيمر، إذ يعتقد أن "الإعلام لم يتعامل مع الحراك باعتباره فرصة لتوسيع هوامش الحرّيات، وكان الصحافيون من أكثر الفئات (ضمن النخب) التي عجزت عن مواكبة هذا الحدث التاريخي"، موضحًا في تصريح لـ "الترا جزائر" أنه "باستثناء بعض التحركات غير المنظمة والتي طبع عليها الطابع الفردي، خلال أول أسبوعين، لم يفعل الصحافيون شيئًا من أجل الاستفادة من ضغط الشارع الذي كان يرفع مطلب تحرير وسائل الإعلام ضمن مطالبه الرئيسية منذ بداية المظاهرات التي استمرت لـ 53 أسبوعًا".

وفي تفسيره لهذا الوضع، قال بلحيمر أن مردّ تفويت فرصة مكسب هوامش من الحرّيات راجع إلى ثلاث معطيات ملموسة وهي: أولًا غياب أي تنظيم لمهنة الصحافة، وعدم وجود نقابات تمثيلية، أما المعطى الثاني فيتمثل في "سيطرة السلطة على وسائل الإعلام العمومية والخاصّة، سواءً من خلال الضغط وباحتكار الإعلانات" ، بينما يُضاف إلى هذا كله معطى ثالث لا يقلّ أهمية يتمثل حسب بلحيمر، وهو "ارتباط مُلّاك وسائل الإعلام بدوائر السلطة وحرصهم على مصالحهم التي لها علاقة مباشرة بالاستفادة من ريع الإشهار والامتيازات الأخرى التي تمنحها لهم السلطة".

تناقضات الخطاب الإعلامي

على ضوء كل الأخطاء التي ظهرت وقضايا الفساد، اكتفت وسائل الإعلام بالانتقال إلى تمجيد مشروع السلطة لفترة ما بعد بوتفليقة حسب الأستاذ بلحيمر، إذ "تبّنت الرواية الجديدة للسلطة، دون أن تكترث لتناقضات خطابها الإعلامي وما يترتّب على ذلك من فقدان للمصداقية".

في هذا السياق، أبدى المتحدّث استغرابه من طريقة التعاطي مع قضايا الفساد، إذ لم تتم العملية بالجدية التي تتطلّبها هذه القضايا، كما قال، "واكتفت وسائل الإعلام بتغطية المحاكمات وبالترويج للخطاب الرسمي مع التركيز على جانب الإثارة".

على الأرض، فتح القضاء ملفات الفساد التي لازالت تكشف عن تورّط عدد كبير من المسؤولين من مدنيين وعسكريين مسجونين، إلا أن الإعلام تطرّق لها بشيء من السطحية، باستثناء ما يجري في قاعات المحاكم بعيدًا عن إفراد أي تحقيقات جادّة.

هنا، يعلّق بلحيمر قائلًا "إنّ الجزائريين لم يكتشفوا بعد حجم الضرر الذي لحق بالمال العام، ولم يكتشفوا كيف تعمل شبكات الفساد، وما هو حجمها الحقيقي وما هي امتداداتها، اكتفت وسائل الإعلام بنقل التصريحات المثيرة للمسؤولين محل المتابعة القضائية".

مستطردًا أن "وسائل الإعلام لا تضع القيام بمهمتها في الإخبار ضمن أولوياتها. هناك صحافيون يسعون إلى ذلك لكن لا توجد وسائل إعلام تعمل على أداء هذه المهمة بطريقة منظمة وجدية".

يبدو أن الإعلام لن يكون له دورٌ حقيقي في البناء الديمقراطي

عمومًا في الوضع الحالي، يبدو أن الإعلام لن يكون له دورٌ حقيقي في البناء الديمقراطي، خاصّة أن هذا المسار يتطلّب المزيد من الحرّيات ومن ضمنها حرية الإعلام، حيث باتت اليوم تطرح عدة استفهامات، في ظل التمشي الذي تفرضه وسائل الاعلام بشكليها العموم والخاص وأغلب الصحف في الساحة، إذ هي تستغل للترويج لخطاب السلطة والابتعاد شيئًا فشيئًا عن مطلب الحراك والتغيير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحرّيات في مسودّة الدستور.. ما تُقرّه النصوص تُخالفه الممارسات

إعلام الأزمات.. التلفزيون العمومي أمام امتحان استعادة المشاهد الجزائري