09-يوليو-2016

مشهد من فيلم بروف للمخرج جون مادن

قلّة من الجزائريين لا تعرف هذا المثل الشعبي: "كِكان حي شاتي تمرة، وكِمات علقولو عرجون"، ومعناه أن الواحد يعيش محرومًا من تمرة، لكنه يحظى بعرجون كامل بعد موته، حيث يُصبح العرجون بلا قيمة ولا فائدة، وإن وجدت فهي تعود على الأحياء من باب المفاخرة والاستعراض.

رحل مبدعون جزائريون وهم في حاجة ملحة إلى سكن، وكان هناك من المثقفين في السلطة من كان قادرًا على إسكانهم، لكنه لم يفعل ذلك

من أكثر المشاهد تأثيرًا في فيلم "بروف" الذي أخرجه جون مادن عام 2005 اعتلاء كاثرين منبر تأبين أبيها عالم الرياضيات الكبير، ومواجهتها لزملائه وأصدقائه وأقربائه ومعارفه وتلاميذه بهذا السؤال العاري: "أين كنتم في السنوات الخمس الأخيرة في حياته؟ لقد كان بحاجةٍ إلى كلماتكم التي لم يسمعها، وإلى زياراتكم التي لم تحدث".

بتُّ أتذكر هذا المشهد من هذا الفيلم، عند رحيل كل شخصية فنية أو أدبية أو إعلامية أو رياضية أو سياسية جزائرية ينطبق عليها هذا المثل، في السنوات العشر الأخيرة، منها الكاتبة المبدعة يمينة مشاكرة التي قضت سنواتها الأخيرة في عزلة غارقة في العزلة، حتى ظنَّ الكثير أنها رحلت منذ مدة، وحين رحلت فعلًا خرج من جحور الادعاء كثير ممن أهملوها، فأصبحوا أصدقاءَ ورفقاءَ ونقادًا "يعصرهم" الوجعُ على رحيلها، ومن المؤكّد أنني كنت سأذكر هذا المشهدَ من هذا الفيلم، لو كنت قد شاهدته من قبلُ في حالات كثيرة، مع مبدعين كثيرين عاشوا حالة العزلة نفسها التي عاشتها صاحبة "المغارة المتفجّرة"، وحصل معهم الادعاء نفسه من محترفي الادعاء.

اقرأ/ي أيضًا: "الدار الكبيرة" تجمع الأسر الجزائرية في العيد

إن هناك مبدعين جزائريين راحلين كانوا في حاجة ملحة إلى سكن، وقد كان هناك من المثقفين أنفسِهم في السلطة من كان قادرًا على إسكانهم، لكنه لم يفعل ذلك، أو كانوا في حاجة ملحة إلى العلاج لضمان الصحة، أو إلى العمل لضمان الخبزة، وقد رحلوا وهم مثقوبون بهذه الأحلام البسيطة التي تعدّ في الأصل حقًّا من الحقوق، ليكون بعض هؤلاء المثقفين النافذين الذين كانوا قادرين على مساعدتهم ولم يفعلوا في مقدمة مؤبّنيهم.

علينا أن نكتب قائمة سوداء بأسماء المثقفين الذين لا نسمح لهم بتأبيننا إذا متنا قبلهم، حتى لا يُلمّعوا صورهم بذلك

قصدني مرة "مثقف" رشّح نفسه للانتخابات التشريعية طالبًا مني أن أساعده في حملته الانتخابية، لأنه سيكون صوتَ المثقفين في البرلمان، وسيعمل على إسكان من يحتاج سكنًا، وعلاج من يحتاج علاجًا، وتأمين من يحتاج تأمينًا، فقلت له: لم يفعلها من سبقك من "المثقفين" إلى هناك، حتى تفعلها أنت اليوم. قال: أنا لا أشبههم. قلت: ستفعلها ما دمت "مثقفا"، وستتلذذ بتقديم وعود لنا تعلم مسبقًا أنها كاذبة، وستضاعف تلذّذك بتأبين من يموت منا.

أمام هذه النزعة الجزائرية التي لا أعلم إن كان لها امتداد في دول عربية أخرى، علينا أن نكتب قائمة سوداءَ، بأسماء الفنانين والمثقفين الذين لا نسمح لهم بتأبيننا إذا متنا قبلهم، حتى لا يُلمّعوا صورهم بذلك، هم الذين كانوا "يُسوّدون" يومياتنا بالإقصاء والتهميش والإشاعة وتسفيه الأحلام.

اقرأ/ي أيضًا:

الثقافة الجزائرية: حين تصير الرداءة منظومة حاكمة

في الجزائر.. قطيعة بين النواب والمواطنين