28-مارس-2020

لوحة شمس الصباح/إدوارد هوبر

تُنسَبُ للشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي حكمة حياتية يقول فيها إن "أقوى الرجال هم الأكثر عزلة، إذ لا شيء في الخارج سوى مصنع للحماقة"، مع هذا، تبدو المقولة نوعًا من العبث بالنسبة للناس الآن، حيث يمضي الوقت سريعًا لصالح فيروس كورونا المستجد، وبطيئًا جدًا في حياة المنعزلين عن العالم داخل بيوتهم، وتتفاقم مع هذا الانقطاع عن التواصل مع الآخرين معاناةٌ نفسيةٌ كبيرة، تتضاعف شيئًا فشيئًا في قلب هذا التباعد، ليصير التجوّل في مصنع الحماقة خارجًا بمثابة حُلُم كبير.

قبع الناس خائفينَ متوجسّينَ لتفادي انتشار العدوى، حيث أن منع الاختلاط والتوقف عن الذهاب إلى المناسبات الاجتماعية

 يلزم الناس الآن بيوتهم في مختلف أنحاء العالم، وقد يصل الأمر إلى عدم احتكاك الأفراد ببعضهم البعض في البيت الواحد، في صورة لم تحدث من قبل في زمننا الحديث.

اقرأ/ي أيضًا: الحجر المنزلي بسبب كورونا.. فرصة للجزائريين لاكتشاف بيوتهم

 يقبع الناس خائفينَ متوجسّينَ لتفادي انتشار العدوى، حيث أن منع الاختلاط والتوقف عن الذهاب إلى المناسبات الاجتماعية والنشاطات التي تجمع عددًا كبيرًا من البشر، كالتسوّق والتنزّه وممارسة الرياضة وحتى الأفراح والجنائز، صار ضرورةً قصوى لتجنّب المرض وشبح الموت.

و باعتبار أن كل ذلك الكمّ الهائل من أخبار الموتى ومعدّلات الوفيات المرتفعة القادمة من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، وغيرها من الدول التي تقف في الصف بعد كارثة الصين هو أمر مرعبٌ بحقّ. أضحى من المهم الآن أن يتبنّى الجميع سلوك التباعد الاجتماعي و الحجر المنزلي الذاتي أكثر من أيّ زمن مضى.

يعاني الكثير من المقربين خلال ممارسة هذا السلوك، من تداعيات الجلوس الطويل في المنزل والعزلة التامّة عن العالم خارجه، غير مدركين لما يُمكنهم فعله بكل ذلك الفراغ، ويرجَّحُ السبب إلى ذلك الشعور المهين لطبيعتهم البشرية، تحت رحمة الحَبس القسري الذي فرضه الوباء، حيث باتوا حالمينَ مُتذمرينَ بشكلٍ هستيري، مُشتاقينَ لكل تلك النشاطات اليومية التي كانت تبدو منذ زمن غير بعيد تافهة ومملة، نشاطات اعتيادية وروتينية ومصدرا للإزعاج والتذمّر، لكن غيابها في الوقت الحالي جعل منها أحلامًا كبيرة مغرية، مؤجلة إلى ما بعد التحرّر من هواجس كورونا وهلع الإصابة به، ابتغاءً لحرية التحليق نحو فضاءات أرحب، خارج جدران الغرف والبيوت بعد انحسار الوباء.

تقول إحدى الدراسات التي نشرتها مجلة الصحّة النفسية البريطانية منذ فترة، إنّ أكثر الأشخاص المعرّضين لمشاكل نفسية، هم الذين يلازمون البيت طوال اليوم ولا يخرجون منه، إضافة إلى الذين يتناولون الطعام وحيدين، كما أن مقاطعة أي نشاط أو فعالية مجتمعية، قد يؤثّر في الصحّة النفسية للإنسان، ما ينعكس سلبًا أيضًا على صحّته الجسدية.

من هنا، يرث المرء المحبوس قسرًا في بيته جرّاء الوباء كل مسبّبات القلق والتوتّر وتعب الأعصاب، إذ يكتسبها انطلاقًا من هذه الوحدة المفروضة كأبغض الحلول وأنجعها، فيغدو حبيس حالة نفسية صعبة ومعقدة، يزيد من تفاقمها أكثرَ سوءُ التواصلِ مع الآخرين، الأمر الذي يذهب أحيانا بالبعض إلى الشجار واختلاق المشاكل التي لا تكون موجودة بالأصل.

يعدّ الروتين اليومي الذي كان يشتكي منه الجميع  نوعًا من الترف المبتغى في هذه الفترة الحرجة من التاريخ البشري، فقد أضحى من الصعب امتلاكه أو عيشه بشكل اعتيادي، باعتبار أن كلّ ممنوعٍ مرغوب.

لهذا، وفي ظل ّالحجر الذاتي المفروض، إضافة إلى التعرّض المتكرّر والمثير للأعصاب لشتى أنواع "العنف الإعلامي والالكتروني" الذي يتمثل في ذلك الكم الهائل من الأخبار الصادمة والمتضاربة التي تناولها شتى المواقع ووسائل الإعلام، صار من الضروري جدا أن نوفر حلا لمضاعفات الفيروس النفسية على غير المصابين به، بنفس الأولوية التي نخصصها للمصابين والحالات المشكوك في إصابتها، فالضغط النفسي آفة معاصرة، تهدد جميع فئات المجتمع بمختلف أعمارهم وأجناسهم، وهو وباء لا يقلّ خطورة عن فيروس كورونا، حيث يفتك بالأعصاب، وقد يقضي على صاحبه بشكل بطيء.

يعدّ الوعي بحالتنا، ومحاولة التوغّل فيها نوعًا من الرحابة النفسية التي يتوجّب علينا التحلّي بها وممارستها، مع كل حالة قد ندخل قسرًا في مضاعفاتها، وجب أن نحتويها لنستطيع حصرها والتغلّب عليها شيئًا فشيئًا، وهذا لا يحدّث إلا إذا تمكنا من التجاوب مع سقطاتنا النفسية بشكل دفاعي منيع وجاهز تمامًا.

 "العزلة هي زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله"، هكذا تحدّث دوستويفسكي، وبما أننا نتفاوت فيما بيننا من حيث التفكير واختلاف تركيبتنا الشخصية والنفسية، حيث تتعدّد  ردود أفعال أجسادنا وأعضائنا أيضًا في مواجهة هذا النوع من الضغوطات، يصبح من الضروري على كلٍّ منا التعامل مع هواجسه بالشكل الذي يناسب شخصيته، فليس هناك قالب جاهز يمكن أن نضع فيه الجميع لمواجهة نفس المشكلة، في حين أننا نراها كلٌّ من منظوره بشكل مختلف تمامًا عن غيرنا.

أعتقد أن هذا التباعد الاجتماعي، قد يعطينا فرصة جيدة نسبيًا للخروج من دوامة الضغط النفسي والتوتر، إذا ما استطعنا امتطاء مواهبنا الدفينة، فهل فكرنا فعلًا في كل تلك الأمور التي يمكننا إطلاق سراحها ونحن نقبع بين أربعة جدران؟

تاريخيًا، نجد الكثير من المبدعين والعلماء الذين انطلقوا من قلب انعزالهم، حيث تفجّرت مواهبهم في الكتابة والفن والبحث العلمي والاختراعات، ويمكن أن نقول أنهم نجوا من الآخرين.

  ولعل الأمثلة كثيرة لشخصيات آثرت "العزلة الإبداعية" لتنطلق من جديد، نيوتن، وديكارت، كافكا، دافنشي، فرناندو بيسوا، وسالنجر الذي آثر الوحدة والكتابة إلى نهاية حياته.

 لا يهوى الناس العزلة في طبعهم، إلا أولئك الذين يصنعون عوالمهم الخاصّة فيها، ويمنحون العالم قبس نورٍ من داخل عتمتهم. من يرون في اعتزال الناس حياة أخرى أو زهدًا أو نافذة نحو ذواتهم، في حين يجدها آخرون مهربًا أو مرقدَ سباتٍ لمخاوفهم من العالم الخارجي، لكن أغلب الناس الآخرين يفضّلون الاختلاط ليجدوا أنفسهم.

 ليس مطلوبًا منك أن تكون عبقريًا إذن، ولا فنانًا أو مخترعًا، لكي تبدع في حياتك ويومياتك، ولا حتى أن تبقى في غرفتك حبيسًا لمدّة طويلة جدًا، هي فقط ظروف طارئة تفرضها التغيرات الحاصلة في العالم، ومنها الأوبئة، أي أنها لن تكون قدرًا أبديًا، يكفي أن تعي ما تكونه في الحقيقة وما أنت قادر على فعله في أي مجال، إذ أن تجارب مماثلة لأشخاص آخرين، قد تجعلك منقبًا جيدًا في ذاتك، لتجد فيها ما قد يخرج بك إلى فضاءات أكبر لم تكن تدرك وجودها فيك بالأصل.

أن تخلق عالمًا الآن هو أسهل مما مضى، فالتواصل الإلكتروني يمنحك نوعا من الألفة، لكن حاول أن يكون هذا التواصل مثمرًا، قدم إضافات عبر صفحتك الفيسبوكية مثلًا، عبر مكالمات الفيديو والمباشر، أكتب عما يمكنك فعله، بعيدًا عن نشر المعلومات المستهلكة عن الفيروس.

 إن التوعية هي قطعًا جيدة، لكن لا تجعلها أولوية بقدر ما تكشف عن مواهبك، حاول مشاركة كل ما تراه جميلًا ليرفع من معنويات الآخرين، وينسيهم عزلتهم، هذا بحدّ ذاته إبداع يحسب لك.

قدّم للأطفال في البيت فرصة الإبداع من خلال الوصفات السهلة وتلخيص الكتب، والألعاب والتحدّيات، هكذا تمنحهم أفقًا ينتجون فيه أفكارهم وآراء تبعدهم عن شبح العزلة.

أن تتأمّل أكثر في ذاتك، وتراجع معاملاتك مع الآخرين، كل هذا تمنحك إيّاه فرصة الانعزال الذاتي

أن تتعرّف أكثر إلى بيتك، وعلى محيطك الداخلي، أن تتأمّل أكثر في ذاتك، وتراجع معاملاتك مع الآخرين، كل هذا تمنحك إيّاه فرصة الانعزال الذاتي هذه، لهذا قد تساعدك فترات من جلسات التأمّل، أو ربّما حصص من الرقص أيضًا، وطهو وجبة يحبّها الشريك أو الأبناء في تكوين عالم جديد صحّي أكثر ومبني على فترات الفراغ، التي لم تكن لتحصل عليها في عالم مليء بالمشاغل الحياتية والمشاكل التي لا تنتهي خارج بيتك، فكن خلاقًا لتتحرّر من عزلتك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائر في المرحلة الثالثة من تفشي كورونا.. ماذا بعد؟

فيروس كورونا.. اهتمام إعلامي بالبيئة والصحّة في الجزائر