21-سبتمبر-2022
شخصان يسيران بالقرب من لافتة خطر الموت بولاية تمنراست (تصوير: فايز نورالدين/أ.ف.ب)

شخصان يسيران بالقرب من لافتة خطر الموت بولاية تمنراست (تصوير: فايز نورالدين/أ.ف.ب)

في الثالث عشر من شهر فبرير/ شباط سنة 1960 عند النقطة صفر التي تبعد 13 كيلومترًا على منطقة الحمودية، و50 كلم على مدينة رڨان، تهتز الصحراء على وقع انفجار عنيف إلى غاية سهل تنزروفت، يسود حينها ظلام وسط النهار، ورياح رملية تعمر الجو بلوني البرتقالي والرمادي، تزحف تلك الرمال الصفراء والغبار البرتقالي إلى غاية حدود مالي والنيجر وليبيا وتونس، وتتسلل رمال الصحراء إلى أجواء  الجنوب الإيطالي، فما هي حقيقة التجارب النووية الفرنسية في الجزائر؟

كانت قوة تفجير أول قنبلة نووية في الجزائر "الجربوع الأزرق" أكثر 10 مرات من قوة قنبلة هيروشيما

إنها بداية سلسلة من التجارب، أطلق على أولاها "اليربوع الأزرق"، قادتها القوات الفرنسية في عمق الصحراء الجزائر، وامتدت هذه في الصحراء الجزائرية إلى غاية عام 1966، حيث حملت التجارب تسميات سرية عديدة كـ"اليربوع الأبيض" في 1 من نيسان/أفريل عام 1960، وعملية "اليربوع الأحمر" في 27 كانون الاول/ديسمبر سنة 1960، وكان آخرها عملية" العقيق" أو (Grenat) في شهر شباط/فيفري 1966.

جريمة ضد الإنسانية

في السنة الدراسية الجامعية 2013 /2014 بجامعة أبو القاسم سعد الله ببوزريعة، طالبة جامعية تبلغ من العمر 22 سنة، تتقدم إلى أستاذ مادة التاريخ تعلمه أن سبب الغيابات وعدم تمكنها من مواصلة التعليم جاء نتيجة إصابتها بمرض السرطان، يسأل الأستاذ الطالبة عن مسقط رأسها، تخبره أنها تنحدر من مدينة تامنغست، فجأة استعادة الأستاذ دروسه وأبحاثه عن التجارب النووية الفرنسية،  لكن لحظتها استخلص أن تلك التجارب ليس فقط مادة تاريخية، ولكن كارثة وجريمة ضد الإنسانية، متسائلًا عن عدد ضحايا المصابين بالتشوهات وأمراض السرطان وسط الأطفال والنساء وساكني المنطقة الجنوبية تحديد رقان وعين إيكر، والسهل الغرب الجنوبي للصحراء الجزائرية.

العقدة الفرنسية

مباشرة بعد انفجار القنبلة النووية في هيروشيما سنة 1945 باليابان، دفع الغرور الفرنسي إلى الاستحواذ على القنابل الفتاكة وامتلاك الأسلحة الكيمائية والباليستية من أجل التربع على قائمة الدول الكبرى والقوية العضوة في "النادي النووي".

عودة شارل ديغول إلى السلطة في حزيران/جوان 1958، سارع من طموحات فرنسا إلى امتلك قوة سلاح نووية، بعد شهر واحد من تنصيبه رئيسًا، أصدر ديغول أومر من أجل المضاعفات المجهودات والإجراءات لإجراء تجارب نووية خلال الثلاثي الأول من سنة 1960، وتجسيدًا للمشروع تم إصدار النصوص التشريعية، وإنشاء المؤسسات المدنية والعسكرية للإشراف على تنفيذ التجارب النووية وتم تكليف الجنرال (Ailleret  charle) بتنظيم العملية.

رڨان مسرح الجريمة

بدأ اهتمام الاستعمار الفرنسي بالصحراء الجزائرية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن منطقة مستوطنة كباقي المناطق الشمالية، بل تخضع إلى الحكم العسكري، أدرك الاستعمار الأهمية الاستراتيجية للمناطق الجنوبية مع بداية اكتشاف البترول والغاز، علاوة على المناطق الشاسعة التي ستكون موطن تجارب القنابل والأسلحة الكيميائية.

أصدرت السلطات العسكرية الفرنسية مرسومًا يقر بموجبة أن رڨان منطقة عسكرية، تتربع على 104 آلاف كيلومتر مربع، وأنشأت "قاعدة الحياة"التي كانت تضم وقتها 10 آلاف شخص بين مدني وعسكري، و6500 من المهندسين الفرنسيين و3500 من العمال اليدويين الجزائريين، من ضمنهم 150 سجينًا جزائريًا نقلوا من سجن بلعباس.

اختيار رڨان لم يكن عبثيًا بل اختيارًا مدروسًا، فالمنطقة تتوفر على وحات وأشجار وبها 11 قصرًا، وتتربع على مساحة 125 ألف كيلومتر مربع، وكانت ممرًا للقوافل التجارية نحو المناطق الجنوبية والشمالية، ما ترتب عنه أن سكان رڨان لم يكونوا من البدو الرحل بل أقرب إلى سكان الحضرة أو المدينة، وقد بلغ عدد سكان المنطقة سنة 1960 حوالي 40 ألف نسمة حسب مصادر تاريخية.

بداية التجارب

في الـ 13 من شهر فيفري/شباط عام 1960 وإلى غاية 16 فيفري/شباط سنة 1966، باشر القوات الفرنسية سلسة من التجارب النووية، التي وصل عددها إلى 57 تجربة تم تفجير 17 قنبلة نووية، أربع جوية في صحراء تزروفت، ومنطقة الحمودية ورڨان، و13 باطنية من 7 شرين الثاني/نوفمبر سنة 1961 إلى غاية 16 فيفري/شباط سنة 1966.

مواد سامة وقاتلة

تجدر الإشارة إلى أن تلك القنابل كانت محملة وممتلئة بالمكونات الكيمائية المٌشعة، عل غرار مادة البلوتونيوم، وهي عنصر كيمائي خطير، يحدث حروقًا في الجسم ويؤدي إلى الموت، يلوث الماء والهواء والأغذية، ويسبب تناولها تسبب السرطان وتقليص دور الحياة إلى 30 سنة فقط. أما مادة السيزيوم فتعتبر خطرًا إشعاعيًا، والسبب المباشر للإصابة بسرطان الرئة.

كانت قوة تفجير أول قنبلة نووية في الجزائر "الجربوع الأزرق" أكثر 10 مرات من قوة القنبلة الذرية هيروشيما، إذ كانت محملة بـ 70 كليو طن من ماد "تي أن تي"، فيما بلغت التجربة النووية الباطنية التي أجريت في 27 شباط/فيفري  عام 1965 تحت اسم عملية "السفير" 150 كليو طنًا من مادة "تي أن تي".

و"تي أ تي" وهي مركب كيميائي جد خطير يتسبب عند إشعاعه في التشوهات الخليقة والسرطان وتلويث المياه السطحية والمياه الجوفية.

هل وافقت الحكومة المؤقتة؟

في سياق الموضوع، يُثار جدل سياسي وتاريخي بعد انفجار قضية التجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، عن موقف الحكومة المؤقتة حول السماح باستمرار التجارب النووية ما بعد 1962، وهل تضمنت اتفاقيات إيفيان بنود سرية تجيز للقوات الفرنسية في مواصلة التجارب الكيمائية، وهل هناك بند سري يتعلق بالتجارب النووية لم يطلع عليه الرأي العام الوطني؟

إلى هنا، يجدر التذكير أولًا إلى أن الحكومة المؤقتة الجزائرية سنة 1960، استنكرت بشدة التجارب النووية التي أجريت في أقصى الجنوب الجزائري، وقدمت بالمناسبة عريضة احتجاج لدى الهيئات الدولية. 

من جانبه، وفي تقدير بعض المؤرّخين أنه لا يمكن الإجابة عن الأسئلة المذكرة سابقًا، خارج السياق السياسي والتاريخي التي جرت فيه المفاوضات بين الحكومة المؤقتة والطرف الفرنسي، لقد كانت مفاوضات وَعرَة وطويلة وصعبة، خصوصا ملف فصل الصحراء على الشمال الجزائري، الفريق الفرنسي المفاوض كان قد أعد مشروع الصحراء الكبرى أو "الجمهورية الصحراوية المستقلة"، التي كان تضم أجزاء من صحراء الجزائر وشمال مالي والنيجر وجزء من موريتانيا، وقد تم تحضير الخريطة الجغرافية والسكانية.

 كان ملف فصل الصحراء من أصعب الملفات على طاولة المفاوضات، أبدى الطرف الجزائري تمسكا وحرصًا على مسألة وحدة التراب الوطني، حينها أدرك المفاوض الفرنسي أنه من المستبعد جدا أن يتم الاستغناء على الصحراء على النموذج الكونغولية أو الفيتنامي، في النهاية تم الاتفاق على فترة خمسة سنوات لإبقاء القوات الفرنسية في الصحراء الجزائرية، كان الطرف الجزائري يرى في أن هذا التنازل هو الطعم الذي ابتلعه الفرنسيون من أجل التخلّي عن مشروع فصل الصحراء عن الشمال الجزائري.

هنا، الراحل رضا مالك، واحد من مفاوضي اتفاقية إيفيان ينفي وجود بنود سرية حول التجارب النووية في الصحراء، مُقرًا بوجود اتفاقيات التعاون العسكري، شرطًا ألا تنعكس تلك التجارب على صحة سكان المنطقة، وأن القوات الفرنسية هي من تتكفل بتطهير وتنظيف المنطقة من الاشعاعات النووية ومخالفاتها البيئية والصحية.

في السياق ذاته، كذّب رئيس الحكومة المؤقتة سابقًا يوسف بن خدة إشاعات حول سرية الاتفاق حول استغلال محطات للتجارب النووية في الصحراء، مشيرًا أن الاتفاقيات تضمنت امتيازات في مجال المحروقات كالغاز والبترول إلى غاية 1971، مضيفًا في مذكراته أن التجارب النووية الباطنية استمرت في آهقار إلى غاية 1966 وأن تجارب الأسلحة البكرتولوجية والكيمائية استمرت إلى غاية 1967 في القاعدة السرية واد الناموس B2.

وجاء في مذكرات الجنرال والأمين السابق لوزارة الدفاع الوطني، أن القوات الفرنسية غادرت قاعدة واد الناموس سنة 1986، وكشف أن ملف التجارب النووية الفرنسية كان يحظى بمتابعة وإشراف رئاسة الجمهورية حينها تحت قيادة هواري بومدين.

بدروه، يرى بعض المؤرّخين أن المفاوض الجزائري لم يكن متسلحًا بالمعطيات التقنية والعلمية تؤهله إلى إدراك الأبعاد الصحية والبيئية المستقبلية لتلك التجارب، وهذ نظرًا إلى التكوين السياسي والوطني، الذي كان يرى أن الوحدة الترابية هي سلم الأولويات وأسمى الغايات كما قال سعد دحلب، وأن كل تنازل ما هو إلا ظرفي أو مرحلي كما جرى مع بنود إبقاء القوات الفرنسية في ميناء المرسى وعملية تأميم المحروقات.

علاوة على ذلك رافع المفاوض الجزائري وتحث ضغط سلطات ما بعد الاستقلال الجزائرية، لدفع السلطات الفرنسية إلى الاعتماد على التجارب النووية الباطنية وتجنب التجارب الجوية.

مطالب بفتح الأرشيف والتعويض الضحايا

في 2008 صدر بفرنسا قانون يمنع الاطلاع على الأرشيف الفرنسي المتعلق بالتجارب النووية التي أجريت في الصحراء الجزائرية، هذا الحظر يؤشر على مدى خطورة وأهمية الملف على الصعيد الإنساني والبيئي والمناخي ومستقبل المنطقة، وإلى غاية اليوم ترفض فرنسا تسليم الخرائط الطبوغرافية التي تحدد بدقة المواقع والقواعد التي استخدمت في العملية.

هناك العديد من الدراسات الطبية والعلمية التي حددت حوالي 21 مرضًا جراء التجارب الكيمائية تتناقل عبر الأجيال، فالإشعاعات النووية غير منتهية الصلاحية وباقية وقد تتمدد، ويظلّ الملف محل خلافات سياسية ودبلوماسية بين الجزائر وفرنسا ومن بين القضايا العالقة بين البلدين.

القانون الفرنسي سنة 2010 وضع شروطًا تعجيزية لتعويض ضحايا التجارب النووية في الجزائر 

من جهتهم، يعتقد نشطاء وباحثون جزائريون أن حوالي أكثر من 800 جزائري (إحصاء غير رسمي) تعرضوا إلى أمراض سرطانية جراء انعكاسات الاشعاع النووي، لكن لجنة تعويض ضحايا التجارب النووية التي شكلت بناء على القانون الفرنسي "موران"، قالت إن حالة واحدة تم توثيقها وتعويضها، بيد أن قانون "موران" الذي أقره البرلمان الفرنسي سنة 2010 وضع شروطًا تعجيزية لإثبات حالات التعرض إلى أمراض من آثار التجارب الفرنسية.