07-نوفمبر-2021

بعد سنوات من العمل، يودّع آلاف الموظّفين مكاتبهم ومناصب شغلهم سنويًا في الجزائر، وتتغيّر عاداتهم اليومية دفعة واحدة، فبعد التعود عل الاستيقاظ باكرًا وعلى مدار سنوات طويلة من الكدّ والجهد، ينتهي بهم المطاف بوصفهم متقاعدين بين انتظارهم لأجرتهم الشهرية "الشحيحة" لتمضية بقية حياتهم، وبحثهم عما يشغل أوقات فراغهم.

يعلّق كثيرون في الجزائر باللهجة المحلية على كلمة متقاعد، بالإحالة إلى أن معناها هو "مُتْ قاعد"، أو "مُت قاعدًا"، وتشخّص تعليقاتهم الشعبية لفئة المتقاعدين بشكلٍ دقيق معاناتهم اليومية من فراغٍ قاتل

السيد عبد السلام بن عبد الرحمان البالغ من العمر 57 سنة بعدما أخذ قسطًا من الراحة لفترة جديدة من حياته، اسمها التقاعد، لكنه وجد نفسه بين نار التعود على الحركة ونمط الرتابة اليومية والسّكون.

اقرأ/ي أيضًا: النقابات العمالية تتوجّس من تمسّك الحكومة بإلغاء التقاعد النسبي

تمتد انشغالات المتقاعدين في الجزائريين إلى عدّة مشاكل اجتماعية ونفسية كثيرة؛ ففي الوقت الذي مازالت الجزائر تتعامل مع هذه الفئة كأرقام وإحصائيات وقوانين وأغلفة مالية عنوانها الوحيد ( الصندوق الوطني للتقاعد والمعاشات)، هناك ما يخفي أزمة إنسانية لهؤلاء، التي تغيب من مخططات الحكومة دون النظر إليهم كمنجم الخبرات المكتسبة عبر السنين لا يمكن تعويضها بالمال، ولكنها رغم ذلك تركن لزاوية الإهمال وتصبح عبئَا مضاعفًا.

تداعيات التقاعد

يعلّق كثيرون في الجزائر باللهجة المحلية على كلمة متقاعد، بالإحالة إلى أن معناها هو "مُتْ قاعد"، أو "مُت قاعدًا"، وتشخّص تعليقاتهم الشعبية لفئة المتقاعدين بشكلٍ دقيق معاناتهم اليومية من فراغٍ قاتل، في ظل غياب مرافق خاصّة بهم أو برامج اقتصادية واجتماعية تهتم بخبراتهم الممتدة لسنوات، وتستدعيهم للتأطير والتكوين في المؤسسات والمعاهد.

هنا، تكشف الدكتورة في الأعصاب فريدة بلحميتي من مستشفى اباب الوادي الجامعي في حديث لـ"الترا جزائر"، أن عدد المصابين بإجهاد في الدماغ هم من المتقاعدين وخاصة منهم فئة المعلمين والأساتذة والموظفين السابقين في وظائف إدارية، لافتة إلى أن " الاجهاد العقلي يتصل بشدة بضغوط العمل والوظائف المنهكة في علاقة مع اتصال دائم بالمواطنين-بالتلاميذ-بالطلبة".

من خلال زيارات لكثيرين إلى مصلحة طبّ الأعصاب، أكدت الدكتورة حميتي أن الوظيفة بشكلٍ عام أصبحت منهكة لآلاف العمال، وتأثيرها سلبي على الوضع النّفسي للموظفين عقب مسار العمل لأزيد من ثلاثة عقود، لتصبح بذلك فترة التقاعد "حساسة جدًا".

في هذا السياق، دعت المتحدثة إلى ضرورة أن يعيد المشرفون على المؤسّسات التعامل مع هؤلاء العمال بشيء من الليونة أثناء العمل وخلق فضاءات تطوير تجعل من العمل فرصة وليس سنوات تراكمات سلبية تظهر نتائجها في سنّ التقاعد، مشيرة إلى أن بعض المؤسّسات تغيب فيها حصص رياضية خاصّة بالعمال كإنشاء فرق رياضية تقوم بدورات ولقاءات على فترات، فضلًا عن الترفيه الغائب بشكلٍ كبير بالنسبة للعمال في المؤسّسات الإنتاجية.

بعيدًا عن التّشخيص الطبّي، يركن أكثر من مليوني جزائري لفترة راحة ما بعد الوظيفة، أي أخذوا تقاعدهم الوظيفي، بينما يطرح كثير المهتمين بالصحة النفسية أن أغلبهم غادروا المِهنة بأمراض كثيرة، خاصّة منها المرتبطة بطبيعة العمل كالسكّري وضغط الدم وآلام المفاصل والربو، في المقابل لم يستفيدوا من إعادة الإدماج في المجتمع، من بوابة الأسرة والميحط والبيئة المجتمعية.

هذا الطّرح تحدث عنه الأخصائي في طب العمل الدكتور فريدة آيت مسعودان لـ"الترا جزائر" معتبرة أن فترة التقاعد هي في العادة فترة فراغ رهيبة، يشعر فيها الفرد بفجوة سيحقه بين العمل المعتاد أو بالأحرى " عادات يومية عاش بها العامل-الموظّف لسنوات طويلة، وانتقاله نحو الركون للسكون "وليس الراحة".

وحول هذه الجزئية، يفصّل الدكتور آيت مسعودان قائلة إن الراحة معناها إعادة هيكلة الجسد والدماغ وتفريغ الطاقات السلبية والشحنات السيئة للعودة إلى الإنتاج، بينما السكون بعد الحركة معناه البقاء دون فعل-" من حالة الحركة إلى حالة السكون المفاجئ".

وأضاف في هذا السياق، أنه من الصعب أن يتمكّن المتقاعد خصوصًا من التأقلم مع حالة السكون إلا بعد مرور بفترة اكتئاب حادّ يصيبه بسبب عدم فعل شيء، أي أنه " صار بلا جدوى"، إذ من الصعوبة بمكان أن "يصدِّق المتقاعد هذا الوضع، رغم أنه يلح على الحصول على تقاعده بينما في الفترة التي تأتي عقب سنوات العمل يصاب بصدمة ما بعد العمل أو صدمة التقاعد"، على حدّ تعبيره.

في الميدان، كثيرًا ما يلهث الموظفون على وثائق الحصول على التقاعد، وخاصّة في السنتين الأخيرتين التان تسبقان فترة التقاعد، وهي الفترة الأصعب بالنسبة للعمال، خصوصًا أما " بيروقراطية الإدارة، وأحيانا يجد الموظف نفسه أمام كومة ورق وملفات لطلب حقّ مشروع.

فترة مباغتة

بينما تلملم كريمة نجّاري (61 سنة) أرواقها ومحفظتها، وتلفّ معها ذكرياتها أيضًا في المدارس التي اشتغلت فيها في فترات متباعدة منذ الأزمة الأمنية في تسعينيات القرن الماضي، تجد نفسها اليوم بين البيت في غالب الوقت، وفي أحايين قليلة تخرج لشراء حاجياتها من محلّات في العاصمة الجزائرية، هكذا تصف حالتها مع محطة التقاعد الجديدة عليها، فلا هي قادرة على التأقلم مع الظرف الجديد والابتعاد عن التلاميذ وأصواتهم، ولا الخروج للحياة الاجتماعية وقبول دعوات الأهل والأصدقاء، على حدّ تعبيرها.

من مخلّفات سنّ التّقاعد وتبعاته، يدخل كثيرون في حالة الكآبة الحادّة، مصحوبة بقلّة الحركة، والتفكير المستمر في الماضي، وهذا ما يسبّب إجهادا من نوع آخر، غالبًا ما يصيب نفسية المتقاعد، ويدخله في دوامة الأسئلة، خاصّة منها المتعلق بالمستقبل، وكيف "ضاعت سنين كاملة وراء اللهث على الوظيفة، بل على الأجرة في نهاية الشّهر؟ دون الاستعداد لهذه المرحلة وما تخبئه الأيام والسنوات القادمة".

من الأمراض التي تظهر بفعل الابتعاد عن العمل، الإرهاق الشديد والاكتئاب الحادّ فضلًا عن أمراض عضوية أهمها الروماتيزم، وعرق النسا، في المقابل يصاب المتقاعد بإحباط كبير من محيطه الذي يرى فيه أجرة التقاعد دون عمل".

يستفيق البعض على حقيقة مريرة، مفادها أن هناك الكثير من الطموحات لم يتمكنوا من تحقيقها، فيما يتفاءل البعض أنهم أدوا ما عليهم اتجاه المؤسّسات التي اشتغلوا فيها لسنين طويلة، بينما يبقى السؤال الكبير: "ماذا بعد؟، هل حياتنا هي انتظار الأجرة كلّ شهر، بلا طعم ولا رائحة؟".

استثمار الخبرات

من انعكاسات فترة التّقاعد، يقترح مختصّون العديد من الحلول لهذه الفئة، التي توسم بأنها " فئة صامتة"، إذ "تعاني من وراء ستار، بعد ضجيج سنوات العمل"، على حدّ تعبير الأستاذة في علم النفس سامية لكحل من جامعة أبو القاسم سعد الله بالعاصمة الجزائرية، فالتجارب حسبها أثبتت مدى نجاعة إعادة استثمار خِبرات المتقاعدين وخلق وظائف جديدة بالنسبة لهم غير محدودة بالزمن اليومي وساعات العمل التي تعوّدوا عليها في السابق.

هنا، تشرح الأستاذة لكحل في حديث لـ"الترا جزائر"، أن فئة المتقاعدين عطاء مستمرّ على اعتبار أنهم يملكون خبرات سنوات التي يمكن تعليمها للطلاب في لجامعات او للموظفين الجدد ولكن بساعات قليلة مراعاة لعامل السنّ من جهة، وبذلك يحافظون على شرقاتهم النفسية، وشعورهم بجدواهم في الحياة أو كما يطلق عليه بـ"الوظائفية في الحياة واستحقاقهم لذلك"، ومدى قدرتهم على إعطاء الخبرات التي تم جنيها من تعب السنين لموظفين آخرين من جهة أخرى.

اجتماعيًا، يمكن أن يخلق المتقاعدون جمعيات يمارسون من خلالها هوايات أسبوعية، كالانخراط في الفعل الخيري أو في أعمال تطوعية موسمية، تقيهم من معضلة الرتابة اليومية بسبب الراحة المفروضة عليهم، والتي تعتبر في غالب الأحيان "قاتلة".

ولتلافي هذه الأزمة التي يعانيها العمال، اقترحت أن يكون في كل مؤسسة برنامج تدريبي على ما بعد التقاعد، وإعداد العمال لتلك المحطة التي لا يمكن تجاوزها، فضلًا عن تهيئتهم لمشاريع ما بعد سنوات الوظيفة، وهي أحد السبل التي تجعل من تقاعدهم مريحًا.

يقترح عدد من المختصين جملة من التدابير على غرار رفع نسبة الاشتراكات، تمديد فترة المساهمات العمالية، إعادة النظر في الصناديق الخاصّة

إلى هنا، يقترح عدد من المختصين جملة من التدابير على غرار رفع نسبة الاشتراكات، تمديد فترة المساهمات العمالية، إعادة النظر في الصناديق الخاصّة، ويشددون على ضرورة إشراك ممثلي النقابات والعمّال في إدارة وتسيير الصندوق الوطني للتقاعد، إذا يتعلق الأمر بمساهمات الفئات العمالية والحق في التسيير الشفاف، يضيف المتحدّث.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الرئيس الجزائري يفصل في قانون التقاعد

بسبب قانون التقاعد..نقابات جزائرية تصعد بالإضراب