في مدينة البويرة شرقي العاصمة، وقبل ساعات على موعد الإفطار، يُشَاهد الناس وهم في طوابير طويلاة لاقتناء الزلابية من محل العم محمد التونسي، الذي يعتبر أقدم وأشهر صانع للزلابية في المدينة. عشرات الأشخاص تزاحموا على المحلّ في غياب لإجراءات الوقاية، فلا كمّامات ولا التزام بمسافة التباعد المحدّدة، إذ يحدث كلّ هذا أمام أعين وزارة التجارة التي توعّدت بمعاقبة المخالفين في بياناتها.
وزارة التجارة حاولت التنصّل من مسؤوليتها، رغم غياب تام لأجهزتها الرقابية على المحلّات التجارية
تساهل السلطات في تطبيق إجراءات الحجر الصحّي، أسهم بشكل كبير في عودة هذه المشاهد إلى الشارع، بعد أن أعلنت الحكومة بقرار مفاجئ عودة الحياة التجارية جزئيًا إلى المدن، غير أن بعض ولاة الجمهورية تفطّنوا لعدم جدواه، بسبب ارتفاع عدد الإصابات بالوباء في الأيّام التي تلت هذا القرار، وبدأوا في إصدار قرارات عكسية بعد ملاحظة الآثار السلبية للقرار الحكومي.
اقرأ/ي أيضًا: القهوة والحجر الصحّي.. الجزائريون يكتشفون "المعشوقة السوداء" في بيوتهم
وزارة التجارة حاولت التنصّل من مسؤوليتها، وتحميلها للمواطنين، رغم غياب تام لأجهزتها الرقابية على المحلّات التجارية، حيث بقيت تهديداتها لمخالفي قواعد الوقاية مجرّد حبر على ورق، وزاد الأمر أن حمّل وزير التجارة كمال رزيق، مسؤولية لجوء الحكومة إلى إعادة تعليق الأنشطة التجارية، للمستهلكين الذين لم يلتزموا بتدابير الوقاية.
وزير التجارة، الذي اشتهر بخرجاته الميدانية للأسواق الشعبية، أرجع ارتفاع عدد إصابات كورونا في الجزائر، إلى التهافت غير المسبوق للمواطنين على المحلّات التجارية قائلًا، إن "بعض التجار والمواطنين لم يمتثلوا لقواعد وشروط الوقاية، ما أدّى إلى ارتفاع الإصابات بكورونا".
سهرات رمضان.. البنّة المفقودة
من أهم الطقوس الملازمة للمواطن الجزائري في شهر رمضان، الخروج للسهر بعد الإفطار، خاصّة بعد الفراغ من صلاة التراويح، فمن المعلوم أن المدن الجزائرية تعيش زخمًا ليليًا لا تعيشه إلا في رمضان، فيما تخف فيها الحركة نهارًا خاصة حين يتزامن الشهر الكريم مع حرارة الجو، فينزح الجزائريون إلى المكوث في بيوتهم وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى.
في السابق، كان الوجه الشاحب للمدن وفراغ الشوارع من الناس، يختفي تمامًا بعد الإفطار، حيث يخرج الناس للسهر والسمر، ويأتي فنجان القهوة على قائمة الطلبات، حيث تشرئب الأعناق تنتظر دورها للحصول على فنجان قهوة مركّز يزيح عنها الصداع وألم الرأس وتأثير الصيام، بينما يختار البعض التوجه للمساجد لأداء صلاتي العشاء والتراويح، لكن كل هذه الطقوس الرمضانية باتت مفقودة في رمضان هذا العام، بعد أن شملت تدابير الحجر الصحّي المساجد والمقاهي والمدن عامة، لقد صارت المدن تُغلق قبل أذان المغرب.
يبدو أن فرض تدابير الحجر الجزئي على المدن الجزائرية في المساء، لم يعد مطبّقًا أيضًا بشكلٍ صارم في كثير من المناطق الجزائرية، حيث يتداول ناشطون صورًا لتجوّل المواطنين ليلًا في غياب تام للأجهزة الأمنية، وتحوّلت الأحياء ومداخل العمارات لأماكن للسهر ولعب الدومينو والورق، وتجاذب الأحاديث لساعات متأخّرة من الليل، وهو ما ينبئ بموجة ثانية للوباء خاصّة مع الارتفاع الملاحظ في الإصابات منذ بداية رمضان.
إجراءات التخفيف التي أقرّتها الحكومة، بفتح بعض المحال التجارية، جعلت تدابير الحجر الصحّي بدون جدوى، في ظلّ انعدام الرقابة على المحال التجارية، وهو ما شجّع على خرق حظر التجوّل ليلًا، هنا يُعلّق جزائريون "نتزاحم نهارًا، ونبتغي الوقاية ليلًا، لا نفهم هذه الإجراءات العرجاء".
تحايل على الوضع
كل مساء بعد الإفطار، يخرج رضوان رفقة جيرانه للجلوس بمقربة من باب عمارتهم، يجلبون معهم مائدة وكراسي صغيرة، يتجاذبون أطراف الأحاديث ويقضون ساعات في لعب الدومينو. في كل ليلة يتطوع أحدهم فيجلب معه "برّاد" شاي وبعض الحلويات، يقول رضوان "في السنوات الماضية، كنّا نقضي وقت ما بين الإفطار والسحور في المقهى المجاور، لكن اختلف الأمر هذا العام وصرنا لا نملك مكانًا آخر غير مدخل العمارة، قبل حلول رمضان كنّا لا نخرج ليلًا ونحترم إجرءات الحجر الصحّي، كنّا نقضي الوقت مع عائلاتنا في مشاهدة التلفاز، لكن في رمضان إختلف الأمر كلّيًا، شخصيًا لا أستطيع الاستغناء عن عادة السهر في رمضان".
يوضّح محدّث "الترا جزائر" ساعة قبل الإفطار، تفتح بعض المقاهي أبوابها الخلفية، أو نافذة صغيرة، ويقوم أصحابها ببيع القهوة لزبائنهم، "البنّ المعصور في المقاهي لا تعوّضة أيّة رشفة أخرى، يبيعون القهوة في أكياس ورقية أمام مرأى الجميع، لقد بتنا نكذب على أنفسنا بصدق".
قبل سنوات، كان سكان القرى في منطقة القبائل، يقضون سهرات رمضان في حانوت القرية، خاّصة مع عدم توفّر النقل ليلًا إلى المدن، حيث كان يعمد صاحب الحانوت لخلق أجواء رمضانية، فيوفّر لهم المشروبات والحلويات، ويُحضر طاولات وكراسي يتداول عليها سكان القرية للعب الدومينو، سيّدة السهرات الرمضانية.
هذا الأمر عاد بقوّة هذا العام، إذ لا تخلو قرية من حانوت أو مستودع تم تحويله لمكان للسهر، خاصّة وأن دوريات الأمن قلّ ما تجوب القرى البعيدة عن الأماكن الحضرية، يتحدث مولود (اسم مستعار) عن هذا الأمر، بعد أن حوّل منزلًا غير مكتمل البناء إلى مكان للسهر، يقول: "في بادئ الأمر طلب مني بعض شباب القرية أن أسمح لهم بالسهر في البناية في ليالي رمضان".
يستطرد مولود "فكرت في تحويل الفكرة لنشاط قد يدّر علّي مصروف الجيب، خاصّة أنني فقدت عملي بسبب غلق الشركة التي كنت أشتغل فيها بسبب انتشار وباء كورونا، تقوم زوجتي بتحضير الشاي وبعض الحلويات لأقوم ببيعها هناك، هناك طاولة واحدة فقط للعب، نقضي هنا وقتنا، ونحاول ألا نصدر أصواتًا تزعج سكان القرية، فنحن في وسطها تمامًا. يسود جوّ التخوّف من قدوم قوات الدرك طيلة السهرة، لكننا خلقنا مكانا لتمضية الوقت، رغم أننا نتخوّف أيضًا من أن يكون أحدنا سببا في نشر الفيروس، نعيش وضعية صعبة الشرح حقّا، أنا أخاطر بنفسي من أجل 600 دينار (خمس دولارات) أجنيها كل ليلة".
مقهى متنقل
قبل تفشي فيروس كورونا في الجزائر، وإعلان السلطات للحجر العام، وتعليق غالبية النشاطات التجارية، كان مصطفى يزاول عمله كبائع متجوّل يجوب الأسواق الأسبوعية في مدينة البويرة وضواحيها، استخرج مصطفى رخصة لاستغلال مقهى متنقل، حيث حولّ مركبة "الهاربين" التي يمتلكها لمقهى صغير يبيع فيه المشروبات الباردة والقهوة بعد أن اشترى آلة تحضير القهوة ونصبّها في مركبته.
في ظرف وجيز، وجد مصطفى نفسه بدون عمل ولا مداخيل، فالأسواق الأسبوعية تم غلقها، كما أن إمكانية إشتغاله في مكان آخر غير ممكن حاليًا، يتحدث مصطفى لـ 'الترا جزائر"، كنت أشتغل صباحًا في الأسواق، فيما كنت أركن مركبتي مساء قرب مخارج الطريق السيّار أو أماكن الزحمة التي لا تتوفر فيها مقاهي، بات كل ذلك غير ممكن الآن".
ويستطرد مصطفى "في بداية الأمر، احترمنا قرارات الغلق الذي شمل الجميع، الكثير من التجار والموظفين، فقدوا موارد رزقهم، لكن مع مرور الأسابيع أصبح الأمر مقلقا حقّا، أصبحنا بلا مدّخرات، وازداد الأمر تعقيدًا مع قدوم شهر رمضان، حيث تزيد المصاريف والمسؤوليات، وجدت نفسي بدون مال وأنا من يعيل العائلة، قرّرت منذ أوّل يوم من شهر رمضان إخراج مركبتي وركنها في مكان بعيد عن وسط المدينة، طلب الناس المتزايد للقهوة كان أيضًا سببا وراء ذلك".
فرض تدابير الحجر الجزئي على المدن الجزائرية لم يعد مطبّقًا بشكلٍ صارم في كثير من الأحيان
ويختم مصطفى حديثه "أعلم أن الأمر مخالف للقانون من جهة، وقد يحمل أضرارًا صحية أيضًا من جهة أخرى، لقد علّقت الدولة نشاطنا ولم تمنحنا أي بديل أو تعويضات، العمل بهذه الطريقة كان أمرًا محتومًا فعلًا".
اقرأ/ي أيضًا:
الإعلام الجزائري.. في مواجهة الواقع الجديد والأسئلة الحرجة
لا تراجع عن البكالوريا ولا سنة بيضاء.. إنقاذ الموسم الدراسي بالشهادات؟