من ثمار سقوط الطائرة العسكرية قبل أيام انتعاش خوف قطاع واسع من الجزائريين من ركوب الطّائرة. حتى أن بعضهم، منهم كاتب مشارك في "معرض تونس الدّولي للكتاب"، راح يقسم أمامي إنه سيعود برًّا إلى البلاد.
من ثمار سقوط الطائرة العسكرية قبل أيام انتعاش خوف قطاع واسع من الجزائريين من ركوب الطّائرة
من مدخل مطار قرطاج إلى قاعة الانتظار رقم 51 إلى بوّابة الرّكوب، لم تفارق أذنيّ أحاديث متشبّعة بالخوف، بعضها مغلّف بالمزاح تجنّبًا للحرج. بل إنني فهمت من بعض المكالمات التي أجراها بعضهم أمامي أن توقّع السقوط جعلهم يستعملون عبارات دينية مشحونة بالدّعاء وطلب السّماح والوصايا.
اقرأ/ي أيضًا: مناورة بوتفليقة حول الضمير الديني للجزائريين
ليس من عادة الجزائريين الانتباه إلى إرشادات مضيفي الطائرات بخصوص إجراءات السّلامة، لكنهم في هذه الرحلة كانوا غارقين في الانتباه، إلى درجة أن البعض طلب توضيحات إضافية.
من علامات الخوف أيضًا، أنني لاحظت عددًا كبيرًا من الركّاب، منهم كاتب هذه السّطور، تلمّس صدرية الإنقاذ الموضوعة تحت المقعد وقرأ مطوية السّلامة أكثر من مرّة. وكأنه لم يثق في فهمه فالتفت إلى جليسه ليؤكّد له أمرًا أو يشرحه أكثر. قال شابّ بنبرة أمازيغية: "الخوف يخلق الحرص، فنحن في غمرة إحساسنا بالأمان لا نقرأ حتى تعليمات السلامة عند نشوب الحرائق". قلت له: "يحدث أن يعرف الجزائري رقم جاره وعدد المرّات التي يشرب فيها الماء، لكنه لا يعرف زمرة دمه هو ليربح الوقت عند حادث معيّن أو يعرف رقم الحماية المدنية كي يطلبها عند الطوارئ".
التزم معظم الركّاب الجزائريين الصّمت طيلة الرحلة، فاقتصرت الأحاديث على الصّينيين والتونسيين، وهيمنت المصاحف الصّغيرة على أيدي كثير من الجزائريين وعيونهم وشفاههم، بل إن شابًّا ملتحيًا استغلّ الوضع، فرفع صوته بسورة "النّور". لقد جعل الخوف من سقوط الطائرة الاحتجاج عليه مستبعدًا.
سألت مضيف الطائرة عمّا لاحظه من تغيّرات في سلوك المسافر الجزائري في الأيام التي تلت سقوط الطائرة العسكرية، بالإضافة إلى ما ذكرت، فأشار إلى رفّ المشروبات الرّوحية في عربة الطعام. قال إنه التحق بالخطوط الجوية التونسية عام 2009، ولاحظ أن بعض الجزائريين لا يكتفون بالشّرب على متن الطائرة فقط، بل يأخذون زجاجات معهم أيضًا، لكنهم، بعد الحادثة، باتوا لا يطلبون إلا المشروبات الحلال، وقد ظهرت لديهم حالة زهد في الطعام نفسه، فالخوف عمل على سدّ الشّهية في الأجواء.
الخوف يخلق الحرص، فنحن في غمرة إحساسنا بالأمان لا نقرأ حتى تعليمات السلامة عند نشوب الحرائق
من الطّبيعيّ أن يفرح النّاس بوصول ذويهم إلى المطار، ويظهر ذلك في الملامح والحركات، غير أنني لاحظت جرعة زائدة من الفرح لدى بعض المستقبلين ممزوجًا بحمد حار. تمامًا كما لاحظت أن تصفيق الركّاب لقائد الطائرة صادق بن عبد الغفّار عند النزول في مطار هواري بومدين كان حارًّا بشكل لافت، فليس من ثقافة الجزائري أن يصفّق إعجابًا بالنزول الموفّق للطائرة.
اقرأ/ي أيضًا: ثعبان الحكومة وحبل الشّعب في الجزائر
هنا، أجدني أمام هذا السّؤال: من الطبيعي أن تثمر حادثة أودت بحيوات العشرات وتمّت تغطيتها إعلاميًا وفيسبوكيًا بشكل مكثّف حالة خوف جماعي من ركوب الطائرة، لكن هل من الطبيعي ألا تثمر بالموازاة حالة مطالبة شعبية بالتّحقيق في ملابساتها؟
اقرأ/ي أيضًا: