31-مارس-2020

الحراكيون يعتبرون أن توقّف المسيرات لا يعني توقّف النضال (تصوير: بلال بن سالم/Getty)

إنّ الانتشار الرهيب لفيروس كورونا في العالم، وارتفاع حالات الإصابة كل يوم، ومعه ارتفاع عدد الوفيات بشكل مخيف، جعل العديد من الدول الأكثر تضرّرًا وبالخصوص الغربية منها إلى اتخاذ إجراءات وتدابير وقائية صارمة، للحدّ من الانتشار المتزايد للوباء. علمًا أن أغلب البلدان الأكثر تضرّرًا إلى حدّ الساعة تمتلك منظومة صحيّة جدّ متطورة، إلا أنه وفي ظلّ غياب علاج فعال لفيروس كوفيد 19، فإن التدابير الوقائية تضلّ أفضل حلٍّ لمقاومة انتشاره.

إن استجابة الحراك لتعليق النزول إلى الشوارع لهو استجابة لنداء الوعي والضمير الأخلاقي الذي تأسس عليه

وحتّى وإن كان انتشار الفيروس في الجزائر ليس بوتيرة انتشاره نفسها في بعض الدول الأخرى، فمثلًا إذا  لاحظنا الإحصائيات المعلنة عنها ليوم 20 آذار/مارس 2020، نجد أن عدد الحالات المكشوفة عنها في الجزائر 92 حالة وعدد الوفيات بـ 10 مقارنة مع إيطاليا التي أعلنت عن 47021 حالة و4032 حالة وفاة. وفرنسا التي تعرف أكثر من 12612 حالة إصابة و450 حالة وفاة، ونظرًا لنمط انتشار الوباء فإن حتما سيمتدّ. ومصيرنا في ذلك لن يكون أحسن حالًا من باقي الدول الأخرى التي لم تسلم رغم امتلاكها لمنظومات صحيّة متطوّرة. 

اقرأ/ي أيضًا: "يتنحاو قاع".. أو في ديناميكية الحراك   

أوّل حالة تمّ اكتشافها في الجزائر كانت في 25 شبّاط/ فيفري. في تلك المرحلة لم تظهر أصوات تطالب بتوقيف الحراك، إلا بعد أن أخذ ينتشر الفيروس بشكلٍ مخيف ينذر بقدوم خطر حقيقي لا قبل لنا به، وبالخصوص أن منظومتنا الصحيّة عاجزة عن التكفّل بالمرضى في الأيام العادية وما بالك في حالة انتشار الوباء. مما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات وتدابير وقائية أعلن عنها يوم 12 آذار/مارس. حينها بلغت عدد الإصابات 26 حالة وحالتي وفاة.

تعلّقت هذه الإجراءات بغلق المدارس والجامعات وتعليق الرحلات الجوّية. وقد تبعتها فيما بعد إجراءات أخرى أكثر وقائية للحدّ من انتشار فيروس كورونا. وهي الإجراءات نفسها التي قد اتخذتها من قبل بعض الدول الأوروبية، وبالخصوص فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وباقي الدول الأخرى، التي بدأت بتعليق بعض الرحلات الجوّية وغلق المؤسّسات والفضاءات العمومية إلى فرض الحجر الصحّي على المواطنين.

في تلك المرحلة بدأت أصوات قليلة تطالب الحراك بضرورة التوقف. ومع ازدياد ارتفاع عدد الإصابات في الجزائر وإعلان حالات وفيات جديدة أصبح الحديث عن ضرورة توقيف الحراك أمرًا أكثر جدية. لكن، وبالمقابل ظل الحراك مستمرًا كعادته في المرحلة الأولى من ظهور حالة الإصابة بالفيروس، وبل راح يردّ على الأصوات التي تطالبه بضرورة التوقف بشعارات ولا فتات مقابلة مثل "كورونا ولا أنتموما"، تعبر عن التشبّث بخيار الاستمرارية وأن لا شيء يمكنه أن يوقف ديناميكية الحراك . لكن كيف نفسّر استمرار الحراك في الأيّام الأولى من انتشار فيروس كوفيد 19؟  

إنّ أغلب التفسيرات ترى في خيار استمرار الحراك في الأيّام الأولى من اكتشاف حالات إصابة في الجزائر، على أنه خيار تارة يعبر عن قلّة الوعي بالمخاطر التي تنجرّ عن انتشار الوباء، وتارة أخرى ينمّ عن اللامبالاة واللامسؤولية، وفي بعض الأحيان عن جهل متجذّر. ربّما هذا التفسير صحيح جزئيًا في نظر البعض، إلا أنه لا يبرّر أبدًا إصرار الشعب على مواصلة المسيرات، ولا يفهم بشكل صحيح ديناميكية الحراك.

هذا التأويل هو تأويل تهجمي أكثر منه تأويل يحاول فهم عمق الظاهرة، هي تفسيرات قريبة إلى بعض الكتابات والتصريحات الصحافية، التي تتسم بالسطحية أو حتى بالنقاشات بين عموم الناس أكثر منها بالكتابات الفكرية. وعلى الرغم من أن أغلب التبريرات تساند الموقف الشائع، إلا أنه في نظرنا لا تنطلق من مبدأ الفهم أكثر مما تنطلق من نزعة تهجمية ومن مبدأ الوصاية. وعليه فإننا في هذا المقال سنحاول أن نقدم تبريرًا ينطلق من فهم ديناميكية الحراك وأهدافه التي يصبو تحقيقها.

لا يختلف اثنان على أن استمرار الحراك في ظلّ انتشار فيروس كورونا، يعبّر عن مجازفة كبيرة غير محمودة العواقب نظرًا للأوصاف التي يتصف بها هذا الفيروس: سرعة الانتشار، قاتل خصوصًا بالنسبة للفئات التي تعاني من أمرض مزمنة، وانتقاله عبر الاحتكاك بين الأشخاص. وتبعًا لذلك تعد المسيرات والتجمهرات والتجمّعات والأماكن العامة، بمثابة الفضاءات الأكثر عرضة لانتشاره. لهذا تعالت أصوات من داخل الحراك ومن خارجه بضرورة تعليق مسيرات الحراك إلى أن نجتاز هذا الوباء العالمي.

إن الذين يدعون إلى توقف الحراك بحجّة وباء كورونا دون فهم لديناميكية الحراك، ودون استحضار الغايات التي يصبوا إليها، فإنهم حتى وإن كان مطلبهم مشروعًا، إلا أن موقفهم لا يستند إلى ما قد يترتّب فعلًا عن هذا الوباء وإنما دعوتهم، في العمق، هي استمرارية لدعاوي إنهاء الحراك بحجّة استقرار البلاد والخطر الخارجي، واستمرار الوضع القائم، ومنه فإن خطورة استمراره في زمن كورونا لا يختلف عن خطورة استمراره في الأيام العادية.

لا يمكن أن ننفي أن الدعوة إلى توقّف الحراك بسبب الوباء، هي دعوة أخلاقية وإنسانية تحتكم إلى المنطق والعقل الرشيد، إلا أن ما لم يقبله الحراك هو دروس الوعظ والإرشاد الصادرة من خارج الحراك والتي تطالبه بتوقيف المسيرات. لأنّ الحراك يعتبر أن نضاله يحمل مشروعًا حداثيًا غايته الانتقال بالجزائر إلى مرحلة جديدةـ بحيث تكون قطيعة مع منظومة الفساد السابقة، ولما كان الأمر كذلك  فإنه مشروعه نبيل وأخلاقي يتّصف بالنضج والوعي والمسؤولية. ومنه فإن توصيفه باللامبالاة واللامسؤولية والجهل يتعارض مع مبادئه وغاياته.

لهذا فإن استمرارية التظاهر في المرحلة الأولى من اكتشاف حالات الإصابة بالفيروس في الجزائر لا يعبّر عن اللامبالاة واللامسؤولية كما يعتقد البعض، وإلا كيف نبرّر مثلًا في فرنسا التي غدات إصدار الحكومة قرار الانتقال إلى مرحلة التأهّب من الدرجة الثالثة، وما صاحبها من قرارات غلق المدارس والجامعات وغلق الحانات والمطاعم، ودعوة المواطنين بالالتزام بمنازلهم نتيجة الانتشار الرهيب للفيروس، كل هذا لم يمنع الفرنسيين من الاستمرار في الذهاب إلى التسوّق والتنزه مع عائلاتهم في الحدائق، وكأنهم في حياة عادية؟ كيف نبرّر إذن خروجهم وهم في مرحلة جدّ متطور من انتشار الوباء؟ وكيف نفسّر أيضًا استمرار السترات الصفراء بالتظاهر في بدايات انتشار الوباء؟

إنّ استمرار الحراك في مرحلة إرهاصات انتشار المرض في الجزائر يمكن تفسيره بعدم شعور الجزائريين بالخطر الحقيقي للوباء، لأنه لم ينتشر بعد بالشكل الذي ينذر بقدوم كارثة، هذا من جهة ومن جهة أخرى، يعود إلى انتشار خطاب يفيد بأن الفيروس في الجزائر، هو مؤامرة من النظام يريد توظيفه لأغراض سياسية. وعلى الرغم من أنه من السذاجة الاعتقاد بذلك، إلا أنه يمكن تبرير هذا الاعتقاد على أنه امتداد للتصوّرات التي تكونت لدى الشعب، جراء ممارسات النظام الذي ألف توظيف الدين والفنّ والرياضة والإعلام لخدمة مصالحه، وهو ما جعل بعض الجزائريين يعتقد أن النظام يريد أيضًا توظيف وباء كورونا فيروس توظيفًا سياسيًا.

وكرد فعل من الحراك راح ينسج شعارات معبرة مثل"كروونا ولا انتموما". إذا توقفنا عند هذا الشعار، فإننا نكتشف أن وعي الحراك وتقديره لخطورة استمرارية النظام أكثر من وعيه وتقديره لخطورة الفيروس الآخذ بالانتشار. إن هذا الشعار يبين أن هناك فئة على وعي تام بخطر هذا الفيروس، ولكن تعتبر أن خطر استمرارية النظام أكبر بكثير من خطورة فيروس كوفيد 19.

إن السؤال الذي ينبغي طرحه حول دلالة هذا الشعار هو التالي: كيف استوى عند الحراك خطر كورونا القاتل، مع خطر النظام نفسه على مستقبل الجزائر وشعبها؟ أو بالأحرى اعتبار خطر انتشار الفيروس أقلّ تأثيرًا من خطر استمرار النظام نفسه؟ شوهد بعض الحراكيين يضعون الكمامات في المسيرات كإجراءات احترازية ضدّ انتشار الفيروس، ولكن استمرارهم في المسيرات يبين أيضًا أن رحيل النظام أكثر ضرورة وأكثر استعجالًا. إنّ الحراك بهذا الشعار يبين أنه يؤمن أن الفيروس الحقيقي هو النظام، ومهما فعل فيروس كورونا بالجزائر فلن يفوق ما فعل ويفعله النظام.

إن اتخاذ بعض الطلبة قرار تعليق المظاهرات بسبب فيروس كورونا يوم 17 آذار/ مارس 2020، وتعليق مظاهرات الجمعة 57 الموافقة 20 آذار/مارس 2020، تبين أن الحراك واعٍ بمدى خطورة الوضع، وأنه ليس بحاجة إلى دروس أخلاقية تذكره بضرورة الالتزام بالخطابات العلمية الصادرة من المنظمات الصحيّة، والتعاون مع مؤسسات الدولة لمواجهة خطر فيروس كوفيد 19. وهذا دليل على أن الوعي متجذر في مشروعه. ومنه فإن خطابات الوعظ التي لا تنطلق من ديناميكية الحراك وأهدافه، في هذه الحالات يمكن قراءتها كخطابات استفزازية أكثر منها دعوة إلى التعقل والتحلّي بالمسؤولية لأن منطلقها سياسية أكثر مما هي علمية.

إنّ الحراك بالدرجة الأولى حراك أخلاقي، فمظاهر الوعي والسلمية والتضامن، وإفساح الطرقات لسيارات الإسعاف أثناء الحراك، وحملات التنظيم واحترام مشاركة المرأة والأطفال، وتثمين مساعي محاربة الفساد وغيرها من المظاهر، تبيّن أن الحراك ليس بحاجة إلى دروس ومواعظ ليستجيب لنداء العلم. إن استجابة الحراك لتعليق النزول إلى الشوارع لهو استجابة لنداء الوعي والضمير الأخلاقي الذي تأسس عليه، واستجابة لمبدأ السلمية الذي تمسك به منذ البداية. ومنه فإن أيّ وعظ أو إرشاد ينبغي أن ينطلق من هذين المبدأين، أي باسم الوعي والضمير الأخلاقي الذي تحلىّ به وباسم السلمية التي التزم بها، وبهما يتمّ مطالبة الحراك بتأجيل التظاهر إلى ما بعد الانتصار على هذا الوباء. إن قرار تعليق المسيرات من أجل حماية المتظاهرين من عدوى الوباء، لهو امتداد لمبدأ السلمية واللا عنف الذي التزم به منذ البداية.

ولكن بالمقابل، يعتبر الحراك أن توقيف المسيرات لا يعني توقف النضال، وإنما تكييف لإستراتيجية النضال وفق الظرف الطارئ: كورونا فيروس. لا محالة أن هذا الوباء يشكّل انعطافة مهمّة في تاريخ الحراك واستطاع أن يقوم بما لم يقم به النظام. ربما هذا يقدم للنظام فكرة جوهرية عن منظومة اشتغال الحراك. لقد تبيّن أن الحراك له قابلية الاستجابة للخطاب العلمي أكثر من استجابته للخطاب السياسي القمعي، أو بالأحرى لدية قابليته للإستجابة للسلطة المعرفية أكثر من استجابة للسلطة السياسية. فهل سينتبه النظام إلى هذا التحوّل الذي يكشف عن شيء عميق في نمط اشتغال الحراك؟

ماذا عن تحدّيات المرحلة؟ نظرًا لخطورة الفيروس وسرعة انتشاره من جهة، وهشاشة المنظومة الصحيّة ونقص الإمكانيات من جهة أخرى، وأضف إليها مميزات النمط الاجتماعي الجزائري الذي يعلي من قيم وعادات الاجتماع، والاحتكاك بين الأفراد من جهة ثالثة، فإن التقاء هذه العوامل الثلاثة، يجعل وضعنا أكثر تعقيدًا أمام مساعي مواجهة الوباء. لا أحد بإمكانه أن يخلص الجزائر وباقي الدول التي تتقاسم معها هذا الوضع من هذا الوباء سوى حلين أحداهما داخلي: نابع من إرادة الحياة والانتصار التي تشكلت عبر التاريخ، وكل ما تتطلبه هذه الإرادة من اعتماد على الذات ووعي وذكاء وانتظام وتضحية. والثاني خارجي: يكون من خلال اكتشاف لقاح لهذا الفيروس وتضامن الدول الأخرى معنا.

يبدو أن المجتمعات الكليانية، هي أكثر عرضة لانتشار فيروس كوفيد 19 من المجتمعات الفردانية

تاريخيًا، اعتاد الشعب الجزائري الانتصار في حروبه التقليدية (عسكرية/ محسوسة)، ولكن اليوم هو أمام "حرب بيولوجية" (غير مرئية). وبحسب خبراء، فإن أفضل حلّ لمقاومة هذا الفيروس والحدّ من انتشاره هو التزام المواطنون منازلهم، وتجنب الاحتكاك فيما بينهم، ما يعني أنه لا يمكن مقاومة هذا الوباء في ظلّ المعطيات الراهنة، إلا من خلال الثورة على نمط اجتماعنا التقليدي. إنها دعوة إلى العزلة والفردنة. يبدو أن المجتمعات الكليانية، هي أكثر عرضة لانتشار فيروس كوفيد 19 من المجتمعات الفردانية.

   

اقرأ/ي أيضًا:

غلق المساجد وتعليق صلاة الجُمعة بسبب كورونا

فيروس كورونا.. هل علينا أن نصاب بالذعر؟