02-يناير-2025
عرض مسرحية "سفينة كاليدونيا" من إنتاج المسرح الجهوي تيزي وزو

عرض مسرحية "سفينة كاليدونيا" (صورة: المسرح الوطني)

يحضُر التاريخ في الأعمال المسرحية كأبرز الوسائل الفنية التي تُجسّد الذاكرة الجماعية، حيث يُستخدم لتوثيق الأحداث ومراحل من فترة الاستعمار الفرنسي وحمايتها من النسيان.

 الإبعاد ليس مجرّد تغيّر في المكان بل هو تغيير في جوهر الإنسان ووجوده

تُجسِّد مسرحية "سفينة كالِيدُونيا" الذاكرة الجريحة عبر الشخصيات والأحداث والرموز التي تعكس الألم والظلم، مما يُحفّز على التفكير في التاريخ وفهم تأثيرات الماضي على الحاضر.

الأبطال يعودون

وتتناول المسرحية التي حازت على الجائزة الأولى كعمل شامل في المهرجان الوطني للمسرح المحترف، قضية المنفى والهجرة وتعرض معاناة المهاجرين الذين تمّ إبعادهم عن وطنهم، موضحة الألم النفسي والجسدي الذي يرافقهم في الغربة، والصراع الداخلي المرتبط بالهوية.

تستعرِض مسرحية "سفينة كالِيدُونيا" من إنتاج مسرح تيزي وزو بالجزائر، رِحلة معاناة الأشخاص الذين تمّ إبعادهم عن وطنهم، وتعبّر عن الألم النفسي والجسدي الذي يرافقهم خلال فترات الغُربة.

مسرحية سفينة كاليودنيا

كما حضرت الرمزية والمشاهد المؤثرة بشكل لافت وذلك لإبراز التحديات التي يواجهها المهاجرون في ظل الانقطاع عن ثقافتهم وبيئتهم.

وتسلّط الضوء على الصراع الداخلي للأفراد في المنفى، الذي يشمل البحث عن الهوية والانتماء وسط غربة قاسية.

وتعكس مسرحية "سفينة كالِيدُونيا" التوترات الثقافية والاجتماعية الناتجة عن النفي، وتُظهر كيف تؤثر هذه التجربة على نفسية الإنسان وطموحاته، في مقابل نقل رسالة عن الأمل والمقاومة في وجه الظروف الصعبة.

من خلال الحوار الدرامي والمشاهد المؤلمة، تسلط المسرحية الضوء على أهمية الذاكرة الجماعية والتاريخ الذي لا يمكن نسيانه، وكيف أنّ الإبعاد ليس مجرّد تغيّر في المكان، بل هو تغيير في جوهر الإنسان ووجوده.

مسرحية سفينة كاليودنيا

المقاومة على خشبة المسرح

مسرحية "سفينة كالِيدُونيا" من إنتاج المسرح الجهوي لولاية تيزي وزو، كتبها بلقاسم مغزوشن وأخرجها عبد النور يسعد، كما اعتمدت أسلوب "البالي تياتر"، الذي يجمع بين رباعية متكاملة (الموسيقى، الغناء، التعبير الجسدي، والسرد الدرامي) وذلك بغية إحياء قصة نفي المقاومين الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة.

تدور أحداث المسرحية على خلفية مقاومة الشيخين الحداد والمقراني للاحتلال الفرنسي في نهاية القرن الثامن عشر، مما يعكس معاناة المنفيين وصمودهم في وجه الاستعمار.

في تحليل النصّ المسرحي، تظهر أهمية المقاومة الجزائرية كجزء من الهوية الوطنية التي تخلّد معاناة الشعب الجزائري تحت الاستعمار الفرنسي.

يُسلّط النصّ الذي كتبه بلقاسم مغزوشن الضوء على الأحداث المأساوية التي تعرّض لها الجزائريون، وانتهى بهم المطاف بالنّفي إلى كاليدونيا الجديدة كعقاب على مقاومته للاحتلال.

يعرض أبطال القصة على خشبة المسرح عمق معاناة الجزائريين المنفيّين، واستعادة قوتهم بفضل الارتباط الوثيق بالتاريخ والذاكرة الوطنية، كما يُظهر النفي كأداة قمعية وحشية استخدمها الاستعمار الفرنسي ضدّ الشعب الجزائري.

كما أنّ مشهد وفاة "الشيخ الحدّاد" في عربة ضخمة يحمِل رمزية فنية قوية، لبداية الرّحلة نحو المجهول على بُعد آلاف الكيلومترات ومحاولة استئصالهم عن الأرض الأم.

المسرح يقدّم هذه الرسائل بطريقة مؤثّرة تُلامس القلوب حتى ترسخ في ذاكرة الأجيال، مما يجعله أداة فعالة لنقل الرسالة إلى المتلقّي وتحفيز الشُّعور بالانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية.

مشهد من مسرحية سفينة كاليدونيا

القصة بدأت ولم تنتهِ

قبل حوالي 162 عامًا، تعرّض العديد من الجزائريين للنفي إلى "كاليدونيا الجديدة" على يد الاستعمار الفرنسي، ليعيشوا قسوة قانون النّفي الذي كان جزءًا من أدوات القمع الاستعماري.

ويعكس هذا النّفي أحد وسائل السياسة الاستعمارية الفرنسية التي استهدفت إضعاف الشّعب الجزائري من خلال تدمير هويته في خضمّ المقاومة الشعبية.

وتمّ إبعاد المئات من المقاومين الجزائريين قسراً إلى مستعمرات نائية مثل "كاليدونيا الجديدة"، في محاولة لكسر إرادتهم وإبعادهم عن أرضهم ووطنهم.

في إطار قانون النّفي الاستعماري الصادر في 1854، يُعتبر النّفي رمزًا للعنف الممنهج الذي مارسته فرنسا الاستعمارية ضد الجزائريين، ما بين عامي 1864 و1897، إذ عاشت هذه الفئة من الجزائريين في ظروف قاسية ومأساوية، مما ترك أثرًا عميقًا في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري.

الترحيل القسري للجزائريين إلى جزيرة "كاليدونيا الجديدة" كان جزءًا من السياسات الاستعمارية التي شملت قوانين مثل قانون الأهالي أو "الأنديجينا"، الذي قيّد حقوق الجزائريين، وقانون التجنيد الإجباري الذي استغلهم في صفوف الجيش الفرنسي.

كان قانون النّفي جزءًا من هذه المنظومة القمعية التي هدفت إلى تدمير إرادة الشعب الجزائري ومحو هويته الوطنية من خلال عزله عن وطنه وتهجيره قسرًا إلى أماكن نائية.

في هذا السياق، أشار الباحث "مصطفى كمال التاوتي" في إفادة تاريخية عبر الإذاعة الوطنية، إلى قيام السلطات الفرنسية بنفي نجلي الشيخ الحداد (قائد المقاومة الشعبية في 1871 برفقة الشيخ المقراني)، محمد وعزيز، مع 2104 مقاومين جزائريين إلى ميناء طولون بفرنسا في منتصف حزيران/ يونيو 1873، ثمّ ترحيلهم من فرنسا إلى كاليدونيا الجديدة في ظروف قاسية للغاية، مما يبرز حجم المعاناة التي تعرضوا لها خلال تلك الرحلة المأساوية.

وتُظهر الدراسات التاريخية أنّ التهجير القسري لآلاف الجزائريين تمّ في ظروف قاسية، حيث وضعت السلطات الاستعمارية المنفيين في أقفاص حديدية ضيّقة، ما أدى إلى وفاة العديد منهم، حيث تم رميهم في البحر.

 جدارية تخلد أسماء المنفيين إلى جزيرة كالديونيا وسط الجزائر العاصمة

 ضدّ النسيان

تُعيد مسرحية "سفينة كالِيدُونيا" تجسيد معاناة المنفيين وتحدياتهم في بيئة غريبة ومعزولة، مما يعكس تأثير قانون النفي على الشخصيات المنفية وعائلاتهم، ويُظهر كيف أصبح النفي جزءًا من تاريخ معاناة الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي.

على بُعد 22 ألف كيلومتر من جزيرة المنفيّين، تعود قصة "سفينة كاليدُونيا" لأرض الأجداد من خلال المسرح لتسرِد مأساة أكثر من 20 ألف جزائري من أحفاد المقاومين الجزائريين.

البعض من الأحفاد زاروا الجزائر للبحث عن تاريخ أجدادهم وتتبع جذورهم وإعادة توثيق تاريخ المقاومة التي خاضها أسلافهم ضد الاستعمار الفرنسي وتكريم تضحيات الأبطال.