05-يناير-2025
 معصرة الزيتون الحجرية بالأوراس

معصرة الزيتون الحجرية بالأوراس (صورة: الترا جزائر)

في وقت يشهدُ فيه العالم تطورًا تقنيًا في صناعة المنتجات واستخلاص المواد الغذائية، قرّر تقي الدين ساعي، خريج "جامعة باتنة" في مجال تسيير المؤسسات، أن يسير عكس التيار، فأسس معصرة تقليدية في بلدية "بومقر" التابعة لدائرة "نقاوِس" بمنطقة الأوراس شرق الجزائر.

تُشبه المتحف ويقصدها الزوار للتعرف على طرق تحضير زيت الزيتون بالطريقة التقليدية

تُعيد هذه المِعصرة الزّائرين إلى مرحلة بعيدة، حيث تمّ تصميمها باستخدام أساليب قديمة تعتمِد على الجرّ الحيواني واليدوي.

كما أنّها مُعدّة كمتحف للتراث، تحتوي على جُرن وأحجارًا دوّارة يُجرّها بغل باستخدام نير مثبت في ظهره، بالإضافة إلى أقراص تُسمّى القفائف، ومكبس ضاغط، وقواديس وأوعية، فضلاً عن الكير عملاق مع أدوات حدادة وموقد تقليدي وزبرة حديد.

لا يقتصرُ هدف ساعي من العودة إلى الماضي الحفاظ على الهوية فقط، بل يتعدّاه إلى غايات اقتصادية واضحة، فزيت الزيتون المُستخلص من المعاصر التقليدية يتمتّع بجودة عالية مقارنة بالمعاصر الحديثة، ويشهد طلبًا كبيرًا رغم نُدرته، ممّا يستدعي الاستثمار في هذا المجال.

معصرة تقليدية باتنة شرق الجزائر

البغل والنير

أنشأ تقي الدين مِعصرة "ديهيا" منذُ سنوات باستخدام عتاد تقليدي بالكامل، إذ قام بشراء هذه الأدوات بعد بحث وتنقيب، بأمواله الخاصة، حيث تضمّ أحجار الرّحى والضّاغطة اليدوية، والبغل، وقفائف حشو الزيتون، وجذوع الأشجار المستخدمة في الموقد التقليدي الذي يعمل بالجمر لتسخين الماء وفصل الزيت عن الماء.

يشرح تقي الدين تفاصيل عمل مِعصرته التّقليدية قائلاً لـ "الترا جزائر": "كلّ الأدوات أصلية، حيث تطحن أحجار الرحى الزيتون تقليديًا، ويقوم البغل بالدوران لدعس 1.5 قنطار في كل نوبة. اشتريت البغل من تاجر خيول في تلمسان، أما القفائف المصنوعة من القنب، فهي مستوردة من بجاية. الزيتون المستخدم محلي بالكامل، ويأتي من فلاحي المنطقة والولايات المجاورة بحمولة تصل إلى 1000 قنطار خلال موسم الجني من تشرين الثاني/ نوفمبر إلى كانون الثاني/ يناير."

معصرة تقليدية بباتنة شرق الجزائر

العَجينة والجُرن

مرزوق قلي، الذي يمتلك خِبرة ربع قرن في صناعة زيت الزيتون، يعمل في معصرة تقليدية حيث يقوم بإدارة البغل الذي يجرّ العمود المدوّر للطحن.

تُعلّم هذه المهنة في مِعصرة قديمة أدارها الشيخ محمد قاسمي بن مسعود، لذا يبدو الرجل عارفاً بالتّفاصيل فهو يتبع حركة البغل بتقليب الزيتون المدمّس في الجُرن أو الحوض الحجري بواسطة مِجرفة.

يشرحُ مرزوق لـ "الترا جزائر" أنّ الفلاحين يُودِعون الزيتون بعد تنظيفه وتصفيته من الشوائب، وفقًا لقاعدة أنّ الزيت الجيّد يُستخرج من الزيتون الجيّد.

الزيتون المثالي الذي يستخدِمه يكون بين الأسود والأخضر البنفسجي، ويأتي من المناطق الجافة ذات الصخور. بعد ذلك، يتمّ طحن الزيتون لتحويله إلى عجينة، وهي المرحلة الأولى من عملية الاستخلاص.

معصرة الزيتون الحجرية بالأوراس

يقول صاحب المعصرة إنّ المطحنة تعجن 1.5 قنطار من الزيتون في 20 دقيقة دون كسر الأنوية التي تبقى ملتصقة بالعجينة. كما يتمّ استخدام الأنوية في مشاتل الزيتون لزراعة أشجار جديدة، بينما تُحفظ المخلفات التي تشبه السماد لاستخدامها في الموقد التقليدي لإدامة النار، كما يُعزّز خلطها بحطب الأشجار الأخرى لهيب النار طوال اليوم دون تلويث البيئة.

 مرزوق يشعُر بالراحة في عمله الذي يدر عليه بين 150 ألف دينار إلى 200 ألف دينار خلال شهرين بفضل خبرته الطويلة.

مِكبَسٌ وقَفائِفٌ

قبل الانتِقال إلى المرحلة الثانية، يُؤكّد تقي الدين أهمية عصر الزيتون مباشرة بعد جنيه لضمان جودته العالية. ويوضح أنّه إذا تمّ استلام 20 قنطارًا من الزيتون، فإنّهم ينتهون من عصرها في يومين بمعدّل 10 قناطير يوميًا.

الزيت المُستخلص بالطريقة التقليدية الحيوانية واليدوية يُعتبر ذو جودة  تنافس المعاصر الحديثة

ويُشدّد على ضرورة عدم ترك الزيتون لفترة طويلة قبل العصر لتقليل حُموضته، حيث أنّ التأخير يزيد من حموضته ويُقلّل من جودة الزيت.

يعقوب قلي، ابن الستة عشر عامًا، يساعد والده في تعلم صناعة زيت الزيتون. يؤكد لـ "الترا جزائر" بأنّه لا يزال تلميذًا في الطور المتوسط، وقد جاء بطلب من والده ليتعلّم الحرفة.

يقوم بتفريغ عجينة الزيتون في أوعية معدنية لنقلها إلى المكبس اليدوي. هذا المكبس، الذي صنع في معمل المعمر الفرنسي "باشلار" في حسين داي بالعاصمة، طاف بين الجزائر وفرنسا قبل أن يعود إلى بومقر.

يتولّى إلياس دردوحة عملية حشو عجينة الزّيتون في أقراص أسطوانية مصنوعة من الألياف النّباتية، حيث يتمّ ترتيب الأقراص فوق بعضها حتى تصل إلى 20 قفة.

بعد ذلك، يتمّ إغلاقها وتكبيسها باستخدام الآلة، يشرح إلياس، الذي يُفضّل أخذ عطلته السنوية خلال موسم جني الزيتون، قائلاً بأنّ الضّغط العالي على الأقراص المتراصة يؤدي إلى تدفق زيت الزيتون عبر قنوات موصولة بحنفية لتفريغه في أوعية معدنية. وبعد ذلك، يتمّ تصفية ثلاثة أصناف من الزيت ومشتقّاته.

معصرة تقليدية بولاية باتنة شرق الجزائر

الزيت البارد

الزيت البارد هو نوع من زيت الزيتون الذي يتمّ إنتاجه باستخدام المِعصرة التقليدية، ويتميّز بلونه الفستقي المائل للخُضرة والصفرة.

يُعتبر هذا الزيت من أفضل الأنواع صحياً بسبب انخفاض حموضته لأنّه غني بمضادات الأكسدة والفيتامينات، كما أنه مفيد للجلد والشعر، ويُقلّل من الكوليسترول الضار.

يُباع هذا الزيت بسعر مرتفع بسبب الطريقة التقليدية التي تُحافظ على مكوناته الغذائية، إذ يصل سعر اللّتر الواحد إلى 2000 دينار جزائري على خِلاف المعاصر الصناعية التي تستخدم معدات ذات حركة سريعة تتسبّب في خسارة بعض المكونات الغذائية الهامة

يتمّ تخزين الزيت البارد في طناجير خاصة وفي قناني زجاجية قبل الانتقال إلى مرحلة إنتاج زيت الزّيتون المُمتاز باستخدام الموقد التقليدي.

معصرة تقليدية بولاية باتنة شرق الجزائر

النّار والمُرْجٌ

في مرحلة ما بعد استِخراج الزيت البارد، يتمّ استخدام الموقد التّقليدي الذي يعمل بالحطب المخلُوط ببقايا عجينة الزيتون العضوية، حيث تتراوح درجة حرارة النّار بين 30 إلى 40 درجة مئوية.

تُستخدم الحرارة لتسخين المياه التي تُساعد في فصل الزيت من الشوائب، وذلك بعد فصل الزيت البارد، ويُضاف الماء السّاخن إلى الزيت الثاني الذي يُكوّن طبقة عائمة من الزيت اللزج، مما يسهُل فصلها. تحت هذه الطبقة، تتشكّل ألياف زيت الزيتون المسماة "المُرْجْ"، وفي النّهاية يتمّ جمع الزيت والمرج بينما يتمّ التخلّص من الماء.

الزيت المُستخلص بالطريقة التقليدية الحيوانية واليدوية يُعتبر ذو جودة أعلى من الزيت المستخلص بالمعاصر الحديثة، حيث يُباع بسعر 1500 دج للتر مقارنة بـ 1200 دج للتر في المعاصر الصناعية. يعود الفارق إلى أن المعاصر التقليدية تستخدم حرارة لا تتجاوز 40 درجة مئوية، بينما في المعاصر الحديثة تتجاوز الحرارة 100 درجة مئوية، مما يؤدي لتدمير العناصر الطبيعية والمواد الغذائية في الزيت. كما تنتج المعصرة التقليدية مادة "المُرْجْ"، وهي ألياف الزيتون المعصور التي تُستخدم كدواء للمساعدة في علاج داء السكري وتعديل نسبته في الدم، بالإضافة إلى استخدامها كمرهم لعلاج الحيوانات. يوميًا، تقوم المعصرة بتحويل 18 قنطارًا من الزيتون إلى 280-380 لتر من الزيت، ويبلغ الإنتاج السنوي حوالي 9 آلاف لتر.

معصرة تقليدية بولاية باتنة شرق الجزائر

تَقاليد وإرث

منذ سنوات يحرص الجزائريون المهاجرون في فرنسا وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأميركية على شراء زيت الزيتون من "معصرة ديهيا"، حيث يقتني كل فرد نحو 20 لتراً لاستخدامها في الطهي والتتبيل أو لمقاومة الأمراض المتعلقة بالبرد.

وقد أسهمت هذه "العوْلة السنوية" التي تصل إلى 300 لتر، والتي يحرص أبناء المنطقة على نقلها معهم، في التعريف بالمنتج في تلك البلدان.

معصرة تقليدية بولاية باتنة شرق الجزائر

في هذا السياق، يقول تقي الدين لـ "الترا جزائر": "هذه الكمية الصغيرة ساعدت الأجانب على التعرف على جودتها، وقد تلقيت عروضًا من بعضهم لاستيراد كميات أكبر في المستقبل، حيث زارني تاجر ألماني وأجرينا مناقشات حول هذا الموضوع".

وعلى الصعيد المحلي، يُفضّل العديد من منتجي الزيتون من باتنة، سطيف، بسكرة، مسيلة، خنشلة، وجيجل وميلة القدوم إلى هذه المعصرة للحصول على زيتون عالي الجودة والنكهة والقيمة الغذائية.

في الآونة الأخيرة، أصبحت هذه المعصرة، التي تشبه المتحف، مقصدًا للزوار الراغبين في التعرف على طرق تحضير زيت الزيتون التقليدية والتجول بين مشغولاتها التراثية. كما أصبحت وجهة للطلاب والباحثين لاستكشاف تجربة تقي الدين في إنشاء معصرة تقليدية وسط العصر الصناعي الحديث. وقد نجح في دمج التراث مع الحاضر بطريقة مستدامة ومربحة، مما أضاف قيمة مزدوجة بين الاقتصاد والموروث الثقافي. ويختتم تقي الدين بفخر قائلاً: "بعد عشر سنوات من هذا النموذج، أؤكد أنّه ناجح ومربح. أفكر الآن في بناء دار للزيت، وإحياء ورشة حدادة تقليدية، وكذلك إعادة الحياة لمطاحن الماء التي كانت منتشرة في البساتين قبل أن تختفي بسبب التأثير الصناعي، معصرة ديهيا أثبتت لي أنّ الكثير من أسئلة المستقبل يمكن الإجابة عنها بالرجوع إلى الماضي وطريقة الأجداد".