23-أكتوبر-2017

ينتشر استعمال الكلمات البذيئة في الشارع الجزائري وهو أمر مستجد(رياض كرامدي/أ.ف.ب)

يواظب الشاب رشيد المصاب بمتلازمة داون على حضور نشاطات دار الثقافة حسن الحسني بمدينة المدية، 100 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة أكثر ممّا يحضر "المحسوبون على الثقافة"، ويرى في ذلك متنفسًا له.

بات الشارع الجزائري يتغذى على القاموس البذيء ويستعمل الأعضاء التناسلية في أحاديثه الهادئة والغاضبة أكثر مما يستعمل أفكاره وعواطفه

يكون هادئًا ومقبلًا عليك، حتى إذا سمع كلمة بذيئة انطلق هاربًا، كمن يحتمي من الرصاص الطائش! ولأن الشارع الجزائري بات يتغذى على القاموس البذيء، ويستعمل الأعضاء التناسلية في أحاديثه الهادئة والغاضبة أكثر ممّا يستعمل أفكاره وعواطفه، فإن رشيد يظلّ راكضًا. ناديناه: "وين راك رايح يا رشيد خويا؟". فأجاب وهو يرتعش: "راهم يقولو فالعيب".

تساءل الممثل محمّد علال لـ"الترا صوت": "من الناقص عقليًا، المجتمع المنتج للبذاءة، رغم غرقه في التديّن والتعليم، أم رشيد الذي يسمّونه منغولي؟ إنها من مظاهر التناقض بين السلوك والخطاب لدى الشارع الجزائري الجديد، وأراها بصفتي مشتغلًا على المسرح والفيلم القصير، موضوعًا جديرًا بالتناول".

اقرأ/ي أيضًا:  الشباب الجزائري.. لماذا كل هذا الحصار؟

لا يكفي أن تدخل بيتك حتى تكون في منأىً عن الكلمات البذيئة. فقد تصل أذنيك وأنت تشرب القهوة مع أسرتك. علمًا أن الكلمات البذيئة، التي تتضمّن أسماء الأعضاء التناسلية، وفق القاموس الشعبي، تفرّق الأهل والأقارب والأفراد، الذين بينهم كلفة واحترام. فمن الطرائف أن العضو الذكري في بعض اللهجات الأمازيغية هو نفسه لقب الرئيس الأمريكي بوش، وهو ما جعل العائلات الأمازيغية تتجنّب مشاهدة نشرات الأخبار على مدار السّنوات، التي تولّى بوش الأب والإبن الرئاسة فيها.

وقف مراسل "الترا صوت" نصف ساعة أمام ملعب للأطفال في مدينة صغيرة، فأحصى 97 كلمة بذيئة تلفّظ بها الأطفال. فقد كانوا يعبّرون عن فرحتهم بالأهداف، وعن غضبهم من تضييعها، وعن احتجاجهم على قرارات الحكم، وتبرّمهم من بعض، بإطلاق كلامات بذيئة من الفئة التي تفرّق الأسر والجماعات بالمنطق الجزائري، على بعد ثلاثين مترًا من حيٍّ سكني يضمّ 150 شقّة على الأقل.

اقتحمت الملعب، وطلبت من المتواجدين فيه وقتًا مستقطعًا، فاستجابوا بسرعة. طرحت عليهم هذه الأسئلة: "كيف تسمحون لأنفسكم باستعمال كلمات وجمل تعلمون أنها مرفوضة ودالّة على سوء التربية والأخلاق، على مسمع حي كامل؟ ما معنى أن تكون تلميذًا في مدرسة، ثم لا تلتزم بالمبادئ المتعارف عليها اجتماعيًا؟ كيف يكون موقفك حين تسمع أحدهم أطلق كلمة بذيئة على مسامع أمّك أو أختك؟ فلماذا تفعل أنت ذلك على مسامع عشرات الأسر؟".

لم يعتد المجتمع الجزائري، المعروف بكونه محافظًا في مجمله، على تكاثر استعمال الكلمات البذيئة وانتشارها في المناطق العامة

لمسنا ارتباكًا لدى الجميع واعتذاراتٍ، لكننا لم نلمس وعيًا، ممّا يوحي بأن الطفل الجزائري بات مبرمجًا على الفراغ. في تلك اللحظة التحق بنا شيخ مسنّ قال بنبرة متعبة ومتحسّرة: "هل تدري يا ولدي أنني بتّ أغادر البيت بمجرّد أن أرى الأطفال تجمّعوا للعب؟ ذلك أنني أعلم مسبقًا بأنهم سيقذفون مسامعنا بكلام يحرجني مع كنّتي وأحفادي، فلا أعود إلى البيت إلا بعد أن يتفرّقوا؟".

اقرأ/ي أيضًا: من المسؤول عن هذا التسيّب الجزائري؟

غير بعيد عن الملعب، وقفت أمام بوابة مدرسة ثانوية، ولاحظت أن البذاءة، التي يسمّيها الجزائريون "التطياح" و"العيب" و"القباحة"، مسيطرة على الأفواه، إن لم تكن مسموعة بين الجميع، فبين الزملاء والأصدقاء. يقول أسامة المنتسب لشعبة اللغات الأجنبية: "لقد بات الشاب الجزائري يستعمل عضوه التناسلي في كل جملة تقريبًا، وكأنه المخلوق الوحيد في العالم، الذي يملك ذلك". يضيف: "إذا كنت ذا دم ساخن، فإياك أن تصطحب معك إحدى قريباتك في الشارع، فستسمع من الكلمات الطائشة، ما يدفعك إلى أن تهشّم أنف قائلها، وتجد نفسك في المحكمة".

سألنا دائرة من الطلبة أحاطت بنا: "هل تستعمل الكلمات البذيئة وأنت تدرك أن هناك من يسمعها؟"، قال أحدهم: "مبدئيًا لا أفعل ذلك، لكنني بحكم تعوّدي على استعمالها، فهي تخرج عفويًا، ولا أشعر بها إلا من خلال ردود أفعال الآخرين". يشرح هذا المقام "الجدير بالدراسة": "أحيانًا أكون مندمجًا في الحديث مع صديق في الحافلة أو القطار، فأجدني قد ذكرت كلمات بذيئة من غير أن أشعر".

نقلنا هذا الهاجس إلى النفساني بوحجر بوتشيش، فقال إن "صورة الشخص الجذّاب والقوي انتقلت من الذي يطلق أفكارًا إلى الذي يطلق بذاءاتٍ، بفعل التحوّلات الاجتماعية التي حصلت في الشارع الجزائري". يشرح فكرته: "في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، 1962، كان المعلّم والمتعلّم والعالم هو النموذج المحتذى، بالنظر إلى وجود مشروع حضاري لدى المنظومة السائدة، ثم صار المتسرّب مدرسيًا هو النموذج، حتى صار ينتخب في البرلمان، ففرض أخلاقه وقاموسه، حتى باتت البذاءة في الكلام مؤشرًا على قوّة الشخصية وحرّيتها".

القاموس المفخخ بالبذاءة هو ثمرة للخيبة العامة، التي باتت مهيمنة في الجزائر بفعل الركود السياسي والاقتصادي والثقافي

إن هذا القاموس المفخخ بالبذاءة، يقول محدّث "الترا صوت"، هو ثمرة للخيبة العامة، التي باتت مهيمنة على الفرد والجماعة في الجزائر، بفعل الركود السياسي والاقتصادي والثقافي، ويمكن أن نقرأها بصفتها احتجاجًا عامًا على الوضع المفكّك، وتمرّدًا من الجيل الجديد على القاموس المهذب، الذي وقع ممثلوه في سلوكات وتصرّفات غير نظيفة. يعطي بوتشيش بوحجر مثالًا على ذلك: "لقد أدت حالة الانحباس العام إلى انخراط نخبة من المثقفين أنفسهم في استعمال القاموس البذيء في منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي".

في السياق، يقول طالب علم الاجتماع والروائي عبد الرزاق طواهرية إنّ استفحال البذاءة في الفضاء الجزائري، بات دليلًا صارخًا على افتقاد المجتمع لبرنامج حضاري يفرض عليه قاموسًا متحضّرًا، "فنحن لم نعد نعاني من القاموس البذيء فقط، بل من القاموس الركيك والمشوّه أيضًا، إذ تكفي معاينة بسيطة لسيناريوهات مسلسلاتنا لندرك هذه الحقيقة".

ويعزو عبد الرزاق طواهرية هذا الواقع إلى جملة من العوامل الموضوعية، منها الهوّة الحاصلة بين الأجيال، "بما ساهم في إضعاف سلطة الجماعة على الفرد وسلطة الأسرة على الابن وسلطة الواقع على الافتراضي، في ظلّ انتشار مواقع التواصل الاجتماعي". يختم: "لو أتيح لنا أن نعدّ الكلمات البذيئة في الدردشات الفيسبوكية للجزائريين، فسنصاب بالذهول".  

 

اقرأ/ي أيضًا:

التلميذ الجزائري.. كل هذا العنف من أين؟

السارق في الجزائر.. من خائن إلى بطل