19-نوفمبر-2019

العناوين الساخرة حقّقت نجاحًا كبيرًا في التسعينات (تصوير: بلال بن سالم/Getty)

تعدّدت الصحف الساخرة في الجزائر، وحقّق بعضها نجاحًا ملفتًا، لكنها تشترك جميعًا في المصير نفسه، وكأن مشروع تأسيس صحيفة ساخرة، هو مشروع "انتحاري"، إذ إن كثيرًا من التجارب تتوقّف عند الأعداد الأولى.

اعتمدت "الصح آفة" لغة جريئة غير مألوفة، بمقالات نقدية في شكلٍ هزلي ومصحوبة برسومات كاريكاتورية

تحوّل موقع "المنشار" الإلكتروني إلى ظاهرة إعلامية ملتفة للانتباه بإمكانات متواضعة، حيث تمكن من تحقيق نجاحٍ كبير، بفضل اللغة الساخرة التي يستخدمها.

اقرأ/ي أيضًا: مطالب بتصنيف الصحافة ضمن المهن الشاقة في الجزائر

أغرب ما في نجاح "المنشار"، أنه تحوّل إلى مصدر للخبر في كثير من المرّات، عندما نقلت عنه وسائل إعلام معروفة أخبارًا ساخرة، اعتقد ناقلوها أنها حقيقية، مثلما حدث عند نشر "خبر" اعتزام "وكالة دعم الشباب" إطلاق قروض ميسّرة لتمويل الزواج، واحتلت الإشاعة الصفحات الأولى لأكثر الصحف سحبًا في الجزائر.

حدث لُبس بطريقة مشابهة، عندما كتب "المنشار" يقول إنّ رئيس حزب معارض في الجزائر صاحب توجّه علماني،  قد دعا إلى اختصار شهر رمضان في أيّام قليلة "مع إمكانية تأجيله إلى موعد لاحق"، ووصل الأمر إلى حدّ أن الموقع الإلكتروني لقناة فضائية عربية كبيرة، نقل الأمر على أساس أن الخبر صحيح.

ومع النجاح المتزايد لـ"المنشار"، بلغته النقدية الجريئة التي طالت كبار المسؤولين في الجزائر، أصبح العارفون بتاريخ الصحافة الساخرة في الجزائر يتساءلون في كل مرة: "متى تتوقّف هذه التجربة"، لأن هذا النوع من الصحافة في العادة لا يعمّر طويلًا، والأمثلة على ذلك لا يشملها الحصر.

والحديث عن الصحافة الساخرة في الجزائر، يقود إلى أشهر تجربة في هذا المجال، وهي أسبوعية "الصح آفة" التي تأسست مع بداية التعدّدية السياسية والإعلامية في الجزائر، واتخذ لها مؤسّسوها شكلًا يشبه كثيرًا صحيفة "لوكانار أونشينيه" الفرنسية، ولا يختلفان إلا في اللغة.

واعتمدت "الصح آفة" لغة جريئة غير مألوفة، بمقالات نقدية في شكلٍ هزلي ومصحوبة برسومات كاريكاتورية، ولم يسلم منها أحد في ذلك الوقت، ونال رئيس الجمهورية حينها الشاذلي بن جديد حظه من السخرية والتهكم. كما نشرت كثيرًا من التحقيقات الجريئة التي كشفت الستار عن كثير من الفضائح السياسية والاقتصادية المرتبطة بالمال العام.

ومنذ البداية حرصت "الصح آفة"، على رفض أيّ شكل من أشكال الإعلانات التجارية حتى تحافظ على استقلاليتها، واعتمدت بشكلٍ كلي على المبيعات التي تجاوزت أحيانًا مائة ألف نسخة، وكانت في تطوّر مستمرّ لكنها أُجبرت على التوقّف بشكل قسري عندما منعتها السلطات من الصدور في صيف 1992، إثر توقيف المسار الانتخابي وبداية عهد آخر من التعامل الرسمي مع الصحافة.

ولأن طاقم "الصح آفة" كان يتوقّع هذا المصير، فقد سارع إلى تأسيس صحيفة بديلة ذات مضمون اجتماعي، سميت "النح لا" (والنح في العامية الجزائرية يعني السكون عن الحقّ)، لكن تلك التجربة كُتب لها أن تُدفن في المهد، فقد صودر العدد الأوّل قبل خروجه من المطبعة، فكان ذلك بمثابة الموت الثاني والمحقّق لـ"الصح آفة" التي لم تعمر إلا حوالي سنتين، لكن صداها بقي إلى الآن.

في ذلك السياق التاريخي، تعدّدت الصحف الساخرة، لكن مصيرها كان واحدًا وهو التوقف بعد إصدار أعداد قليلة من كل عنوان، فقد أسس عدد من الصحافيين والفنانين صحيفة بالفرنسية اسمها "المنشار" (موقع المنشار الحالي استخدم الاسم نفسه) ورغم النجاح الذي حققته إلا أنها توقّفت سريعًا، والأمر نفسه ينطبق على تجارب أخرى على غرار "القرداش" وهو ملحق ساخر كانت تُصدره صحيفة "الخبر" لم يعمّر طويلًا أيضًا.

من أهم العناوين الساخرة التي حقّقت نجاحًا في تسعينات القرن الماضي، أسبوعية "الوجه الآخر" التي أسسها وأدارها فنان الكاريكاتور عبد القادر عبدو الذي عرف بعد ذلك باسم أيوب، وكان عنوان الصحيفة في البداية "بوزنزل" (الدبوّر) قبل أن يغيّره ويغيّر محتواه من الاجتماعي إلى النقد السياسي، وحقق نجاحًا كبيرًا ليكون مصير الصحيفة المصادرة.

وسبق للكاتبين الصحافيين محمد زتيلي وصديقه الراحل مصطفى نطوّر، أن أسّسا صحيفة ساخرة عنوانها "مسمار"، بعد أن مارسا الإعلام في القطاع العام طويلًا، ثم في القطاع الخاص مع أسبوعية "الشرق الجزائري" ذات المضمون الاجتماعي، وإن استمرّت "الشرق الجزائري" طويلً إلا أن "مسمار" توقفت عند العدد الثالث، وأودع مؤسّساها السجن لأنّهما تجاوزا بالنقد الساخر "الخطوط الحمراء".

وللروائي والناشر كمال قرور، تجربة مريرة في هذا السياق، وكمال الذي مارس الكتابة الساخرة منذ أن كان يشتغل في مجلة "الوحدة" لسان حال "الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية"، كان قد أسس سنة 1999 أسبوعية ذات مضمون اجتماعي بعنوان "فانتازيا"، وكان يكتب في صفحتها الأخيرة نقدًا سياسيًا لاذعًا بلغة تهكمية جريئة، ليجد نفسه أمام المحكمة بتهم تتعلّق بـ"استعمال كلام فاحش"، فكان مصير الصحيفة الغلق، والحكم على صاحبها بالسجن مع وقف التنفيذ.

وفي حديثه لـ"الترا جزائر" يقول كمال قرور إن "الصحافة الساخرة تستهوي القارئ الجزائري، وتشكّل وعيه بسهولة، لذلك لا تتقبلها السلطة، وتُحاربها بشتى الوسائل. لا شيء يمس جبروت السلطة وقداستها سوى السخرية، لذلك لا تفتح لها باب الانتشار والازدهار، حتى تحافظ على هيبتها ووقارها".

ويضيف قرور أن الصحافة الساخرة "تعد تجربة مؤلمة جدًا في المشهد الإعلامي الجزائري؛ إذ ما إن يظهر عنوان حتى تسارع السلطة لوضع المتاريس في طريقه ومحاصرته وخنقه. هذا إن لم تصادره وتزج بمحرّريه في السجن".

يبدو أن لعنة الصحافة الساخرة في الجزائر، تجاوزت الجرائد الورقية إلى المواقع الإلكترونية والمدوّنات والصفحات

يبدو أن لعنة الصحافة الساخرة في الجزائر، تجاوزت الجرائد الورقية إلى المواقع الإلكترونية والمدوّنات وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، فما إن تبدأ مشاريع من هذا النوع حتى تتوقّف فجأة، مثلما حدث مؤخرًا مع موقع "سواخير" وصفحات عبر الفيسبوك من أشهرها "ناسيونال جيوطرافيك" التي بدأت قويّة وسرعان ما اختفت منشوراتها، لأسباب تبقى مجهولة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حرّية الصحافة في الجزائر.. ضحك على الذقون

كُلْفَة الصحافة في الجزائر.. سنوات من الخوف والموت والمقاومة