لا شكّ أن التحدّيات الكبرى للإعلام الجزائري في المرحلة القادمة، هي عدم الاستسلام للإحباط المهني، الذي بات حقيقة تتجاذبها السياسة والواقع المعاش، فكما وُصفت السنة المنقضية بالسياسية بامتياز، يُمكن القول إن الإعلام الجزائري عاش فترة صعبة جدًا في ظلّ تغيير موازين القوى الدّاخلية لأجهزة الدولة، قبل استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، إذ انزلقت الكتابات نحو مسارٍ أحادي رافضٍ لسماع الرأي الآخر، وتمجيد الرجل وصناعة الإجماع الحزبي والسياسي والجمعوي والإعلامي حوله.
قاموس فنيّات التحرير لا يمكنه أن يمنحنا أجمل ما لديه، إن لم نجتهد في طرح جميع الأسئلة المتاحة
لا أحد يمكنه أن يُنكر أنه هناك شيء ما حصل في لحظة فارقة، بين الترويج لمحاسن الحقبة البوتفليقية على طول السنتين الأخيرتين، أي منذ انتخابات المجالس البلدية إلى غاية تزكية الرئيس في شهر شباط/فيفري الماضي بالقاعة البيضاوية، لدعوته إلى مواصلة المهمّة والمسيرة، والذّهاب إلى ولاية رئاسية خامسة.
اقرأ/ي أيضًا: حرية الصحافة في الجزائر.. ضحك على الذقون
هذه الفترة وحدها كفيلة بدراسة منحنى الفعل الإعلامي اتجاه ما كان يُطبخ في دوائر السلطة السياسية في الجزائر، وكيف باتت الأحزاب الأربعة التي قدمت صكّا على بياض للرئيس، تمجّد صورته أكثر من التفكير في التأسيس لخارطة طريق تسيير البلاد في الفترة الخماسية المقبلة، وما نحصده اليوم، هو إخفاقات تلك المرحلة التي صنعتها الكثير من الدوائر أهمّها الإعلام، إذ كان تحت قبضة أحزابٍ أو رجال أعمالٍ، ترفع أسهمه " فاتورة الإشهار"، وهو ما جعل من الصحافي المحترف يصبح ضحيّةً وجلادًا في الوقت نفسه.
ففي رصد بسيط خلال الأشهر الأخيرة، ومن خلال تصريحات لزملاء المهنة، اندلعت معركة عبر الفضاء الافتراضي بين بعض الإعلاميين، وانقسموا بين مؤيّدٍ ومناوئٍ للعهدة الخامسة، ولكن تعدّت ذلك إلى وضع كامل المسؤولية على عاتق رجالات الإعلام في الفترة السّابقة، ممن استفادوا كغيرهم من السياسيين الذي أكلوا من كل صحون السّاسة في الفترة التي وُسمت إعلاميًا بـ"مرحلة بوتفليقة"، ووسمت سياسيًا بـ"مرحلة البناء والتشييد"، وأخيرًا وُسمت شعبيًا بـ "كليتوا البلاد يا السّراقين".
سؤال يطرحه كل الإعلاميين، ولكن بتمنّع يُشبه الرغبة كما يقال، فمن كان يجرؤ على تسمية الرّجل أو شقيقه وإلصاق مشاكل الجزائر بهما في قاعات التحرير؟ ومن كان يُمكنه أن يواجه الرئيس بكلمة إلّا القلة القليلة التي تمكّنت من نحت كتابات في الزّمن الصعب، ولكن صداها لم يصل بعيدًا.
اللاّفت أن الرّجل الذي كان "قدّيسا" قبل كانون الثاني/جانفي 2019، وهنا استحضر الشعارات واللافتات التي يتم إلصاقها بـ "فخامة" الرئيس بوتفليقة ورعايته لكل تظاهرة تعرفها كل بلدية في الجزائر دون استثناء، يوصف اليوم بـ "المطرود".
كلمة كثيرًا ما أتحسّس قلمي وأنا أخطّها اليوم ليس تعاطفًا مع الرئيس الرجل الذي بلغ من العمر عتيًا، ولكن مهنيًا، أتعاطف جدًا مع سيّدة بيت السلطة الرابعة "الصحافة"، التي تتعذّر بألف حجّة وهي توثّق لمرحلة أو لمسار ما. تخيب فيها الكلمات التي طفت على سطح السنة. إذ يعلّق فيها أصحاب الكلمة خيباتهم على مشجب "البوتفليقية".
قاموس فنيّات التحرير، لا يمكنه أن يمنحنا أجمل ما لديه، إن لم نجتهد في طرح جميع الأسئلة المتاحة، دون أن نتحسّس الرقابة المسلطة على الإعلام (رقيب المال، رقيب قاعة التحرير ورقيب السياسة).
في النهاية ذلك الصحافي تجده يوميًا يعود لبيته يحمل على كتفيه طاقات سلبية. تتبدّد كل الحقيقية أمامه وهو يتحسّس جيبه لدفع ثمن تذكرة رحلة القطار أو المترو أو الترامواي أو الحافلة.
في زمن الحراك الشعبي في الجزائر، باتت الكتابة الصحافية صعبة المنال، حتى وإن سلّمنا بوجود ذلك السّيل المتدفّق للمعلومات والأخبار والسبق الصحافي، إن افترضنا أنه "سبق" بمعيار جزائري بحت، سيلٌ كان جارفًا لكل ما من شأنه أن يحيط بالمعلومة، كسياق زمني ومؤطّر بالإجابة الشافية عن الأسئلة الخمسة التقليدية التي خبرناها في كليات الإعلام.
لم يسبِق للجزائر منذ قانون 1990، أن عاشت فوضى الإعلام وتشتّت المعلومات، مثلما عاشته خلال أشهر ما قبل استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وما بعدها، حتى في عزّ الأزمة الأمنية كانت المعلومة محكومة بمحاذير "الأمن والسلامة الصحافية"، أما اليوم فهي محكومة بقدرية التعامل مع الموجود، إلى غاية البحث عن فضاءات يمكنها أن تعيد للمهنة هيبتها، بينما ما زالت الجزائر بعيدة كل البعد عن تخصص الصحافة الاستقصائية لأسباب كثيرة، ليس المقام الآن مناسبًا لذكرها.
هل تتحرّك الآلة الأكاديمية لوضع مواد علمية تدرّس في الجامعات حول ماهية القيم والمبادئ الإعلامية
ما يُثير التساؤل، هل تكليف شخص واحد بمهمّة الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، كافٍ لحراسة بوابة المعلومات التي يتلقّاها الرأي العام الجزائري؟ رغم أن هذه المهمّة هي نظرية رائدة من نظريات علوم الإعلام والاتصال، لكنها في المقابل، محكوم عليها بالنقصان أمام السيل الضخم للمعلومات التي يتلقاها الجزائريون بكبسة زر في وسائل التواصل الاجتماعي. هنا ظهر سؤال جوهري آخر، عرّته أسابيع الثورة الشعبية، مفاده هل تتحرّك الآلة الأكاديمية لوضع مواد علمية تدرّس في الجامعات حول ماهية القيم والمبادئ الإعلامية، التي تعتبر لدى العارفين بالإعلام خطًّا لا يقبل التنازلات مهما كانت الأسباب؟
اقرأ/ي أيضًا:
الصحافة الساخرة في الجزائر.. "تجارب بيضاء" و"مصائر سوداء"
كُلْفَة الصحافة في الجزائر.. سنوات من الخوف والموت والمقاومة