18-يوليو-2022
مشهد من فيلم معاناة الشباب الجزائري (يوتيوب)

مشهد من فيلم معاناة الشباب الجزائري (يوتيوب)

أفرزت التحولات المجتمعية بفعل تراكم الأحداث السياسية والاقتصادية وتطور التكنولوجيات وتعميم استعمال الإنترنت ظواهر اجتماعية مسكوت عنها، باتت تشكل خطرًا على الانسجام المجتمعي، والتفكك العائلي والأسري، وتهدد السكينة والنظام العام، من بين تلك التَشَكلُات ظاهرة البلطجة ويسمى المنتسبون لهذه المجموعات بـ "العرايا" كما هو متداول محليًا، فهل سلطة العصابات المنظمة باتت تفرضها منطقها في الشوارع الجزائرية؟

صبحت عصابات الأحياء تَفرض سلطتها ضمن حدود تمارس فيها نشاطات تجارية موازية أو المتاجرة في الممنوعات وتُقَسمَ مواقف السيارات غير القانونية

لا تقتصر ظاهرة البلطجة في الأحياء الشعبية على السرقة والنصب وقتال الشوارع، ولكنها امتدت لتشكل سلطة موازية تفرض منطقها على الشوارع والسكان، وتقسمها بناءً على مصالحها ونشاطاتها التجارية، وترسم كل عصابة حدودها وفقًا لعدد أتباعها وسطوتها.

ألقاب مستعارة  

"كبسولة".. "صاروخة".. "تيانتي"، هي أسماء وألقاب لمراهقين أصبحت متداولة في ضواحي الأحياء الشعبية بالعاصمة، وباتت التسمية والكناية رمز الانتماء إلى عصابات الأحياء، بل قد تأخد شكل من أشكال التمويه لإبعاد التسمية الحقيقة، وتجنب تحديد الهوية من طرف المصالح الأمنية في حالة البحث والترصد.

الشرطة تحجز سيوفا لدى عصابات الأحياء

بعدما كانت بعض الأحياء الشعبية تُوصف في أوساط التسعينيات أنها حاضنة للإسلام السياسي والشعبي، وبعد كل التطورات السياسية والأمنية والتحولات المجتمعية والتغييرات في التركيبة السكانية لمعظم الأحياء السكنية القديمة والجديدة، انتشرت ظاهر "العرايا" أو البلطجة، حيث باتت تَفرض سلطتها ضمن حدود ترسمها لها، تمارس فيه النشاطات التجارية الموازية، أو المتاجرة في الممنوعات كالحبوب المهلوسة أو الحشيش، وتُقَسمَ مواقف السيارات غير القانونية على جمع من الشباب، مقابل توزيع العائدات والمداخيل، وقد يفرضون منطقهم على الحي بكامله.

المجمعات السكانية 

 وقصد إلقاء الضوء على الظاهرة، يقدم عمار طوبال، المختص في علم الاجتماع، قراءة وتحليلًا لظاهرة "العرايا"، حيث يقول في حديث لـ “التر جزائر" ظاهرة "العرايا" هي امتداد لظواهر تاريخية سابقة في المجتمع، كانت تُشبهها في الشكل ولكنها أقل سوءًا من حيث النتائج والتأثيرات، ويَعتقد طوبال أن مصدر كلمة "العرايا"، جاءت إسقاطًا على تسمية رائجة من طرف المعمرين على أطفال جزائريين شبه مشردين يحترفون مسح الأحذية والنشل ومختلف السرقات التافهة، وكان يطلق عليهم "les sans culottes".

يستطرد محدث "الترا جزائر"، أن دلالة الكلمة اليوم تَعني سلوكيات فردية ذات طابع انحرافي مرتبطة بالسطو والاعتداء وتعاطي الممنوعات والمتاجرة بها، لكن ميزة الظاهرة اليوم، حسبه، أنها تطورت من الطابع الفردي (الكيلو أو الكلوشار) إلى الطابع العصاباتي والجماعي والاحترافي.

وبخصوص أسباب تنامي الظاهرة، أوضح طوبال أنها تعود إلى نشوء تجمعات سكانية كبيرة اجتمعت فيه شتات الساكنة من مختلف الفئات والانتماءات والنواحي دون مراعاة أي انسجام اجتماعي، موضّحًا أن عمليات الترحيل التي تمت في السنوات الأخيرة خلقت بؤر الجريمة والانحراف، ويكشف المختص في علم الاجتماع، أن من بين الأسباب التي أدت إلى ذلك، استقدام عائلات من وضعيات اجتماعية متفاوتة ومن مناطق سادت فيها الجريمة كالأحياء القصديرية.

وبحسب طوبال فقد تم اجتثاث أطفال وشباب من بيئتهم دون توفير شروط التعايش والاندماج الاجتماعي، معتبرًا أن المجمعات السكانية لا تتوفر على أدنى شروط العيش الكريم من فضاءات الترفيه والراحة، ما جسد العيش وسطها الشعور بالحرمان زادها البطالة والتهميش.

وقال طوبال إن الوضع السوداوي في تلك الأحياء رافقه بروز تعاطي الممنوعات والمتاجرة بها، قصد الخروج من وضعية التهميش وخلق شبكات نشاط منظمة لها نفوذ، مردفًا أن الرغبة في النفوذ والبحث عن السيطرة كانت وراء توسع الجريمة وحرب العصابات أو ما يسمى بحرب الشوارع، تستخدم فيه كل وسائل العنف والاعتداء.

حرب الشوارع بالسيوف والخناجر

من هم البلطجية الجدد؟

 في السياق نفسه، يكشف البروفيل أن بعض "العرايا" من مستوى تعليمي متوسط، تضم فئات عمرية مراهقة وشابة، بعضهم ينتمي إلى المحيط الجامعي، وفق بيانات عن سلسلة الاعتداءات على الأساتذة بالحرم الجامعي وتوقيف مروجي المؤثرات العقلية وسط الإقامات الجامعية.

 "النمس" كما يطلق عليه أبناء الحي، يَشتغل حلاقًا بضواحي الشرقية للعاصمة، يقول في حديث لـ "التر جزائر" إن المصاغر أو المراهقين (يفضل التسمية) تع اليوم، ليسوا منحرفين أو مجرمين كما يعتقد الكثير بل غالبيتهم عنده مستوى نهائي أو ذوي تكوين مهني.

وأضاف أنه هؤلاء المراهقين وجدوا أنفسهم ضحايا النظرة الدونية التي يحملها المجتمع ضدهم، والحڨرة من طرف السلطات والتهميش، أما عن العنف والشجار والعنف بين عصابات الأحياء، يقول محدثنا يحصل أن يدافع هؤلاء الشباب عن القطاع تابع لهم، قد يسترزقون منه كالأسواق أو المناطق تحت سيطرتهم.

 أما عن حرب عصابات الأحياء، لا ينفي المتحدث أن وراءها حرب الزعامة بسبب المتاجرة بالمخدرات أو تصفية حسابات، كاشفًا عن وجود وساطات من "Milieu"، والذي يقصد من محيط العصابات تعمل على الصلح، لكن في المقابل يقول إنه لابد من تأديب بعض الأشخاص، فهي مسألة شرف ورجلة وكرامة، بحسب تعابيره.

قاموس خاص

من خلال الدردشة مع "النمس" التمست "الترا جزائر" توظيفه لمصطلحات حرب المدن، فإضافة إلى اعتماد الكناية أو الاسم المستعار قصد إخفاء الهوية الحقيقة، يُستخدم أيضًا مفردات كـ: الملغم (أي حامل ممنوعات)، نفجرها (الشجار)، (تيانتيTNT)، (المناطق Secteur)، (القطاع Zone)، المراقبة الأمنية، التصنت، الماك، الدولة، البياري..

زيادة على الإلمام بالأحداث السياسية والحديث عن تبون، وعن منحة البطالة للجامعيين فقط، وتوقف وكالة دعم الشباب، وأغلب الحديث الذي يدور بين هؤلاء المراهقين هي الهجرة السرية "الحراقة" وسبل "الهربة".

في سياق الموضوع، وقد أصبح ممكن التعرف إلى هؤلاء الشباب والمراهقين، الذين يَصُرون على التَميُز في الملبس والشكل، فهم من عشاق البدلة الرياضية لعلامة "لاكوست"، معدل سعرها 35 ألف دينار جزائري، أو سيرجو تاكيني ( sergiotacchini) التي يقدر سعرها بـ 18ألف دج، أو فوت كورنر (Footkorner) سعر البدلة الرياضية حسب النوعية ابتداء من 23 إلى 28 ألف دج.

كما يشتهر أبناء الأحياء الشعبية غالبًا، أو المنتمين لهذه العصابات بانتعالهم الحذاء الرياضي المشهور (نيك تيان Nike TN) أو(Air Max) ويتراوح سعر الحذاء الأصلي في حدود 35 ألف دج إلى 50 ألف دج، أما الحذاء المقلد الصيني المصدر فيبلغ سعره 12 ألف دج ويحرص غالبية الشباب اقتناء آخر الموديلات والتشكيلات، فما سر هذا التميز في الملابس والشكل؟

نمط ثقافي وانتماء

في سياق متصل، تَعُودُ جذور اللوك الرياضي (Streetwear) أو ( Sportwear) لأغلب هؤلاء شباب في الأحياء إلى محاولة تقليد مُغنيين راب فرنسي من أصول جزائرية "les Beurres"، إذ في مطلع التسعينيات تميز بعض مغني الراب من الأصول الجزائرية بارتداء علامة "لاكوست" كعنوان الأناقة والترقية الاجتماعية، إوتحولوا من مروجي مخدرات إلى نجوم في أغنية الراب، بعد مرورهم على تجربة السجن بسبب عنف الضواحي أو ترويج للمخدرات أو السرقة، على غرار (Moh Lasqual) الذي أمضى عقدًا إشهاريًا مع "لاكوست" لترويج ألبومه الغنائي سنة 2018 وفي 2021 وجهت له تهم تتعلق بالعنف ومحاولة القتل والاختطاف، ومن بين الأسماء المعروفة كريم زنود المعروف فنيًا باسم (Lacrim).

مواجهات في الأحياء الشعبية

إلى هنا، قام مغني الراب الجزائري عبد الرؤوف دراجي المعرف "سولكينغ" بترويج علامة "سيرجو تاكيني" في مقطع فيديو انتشر على اليوتيوب، حيث أثار الفيديو حماسًا لدى المراهقين والشباب الأحياء الشعبية إلى ارتداء نفس البدلة الرياضية.

أما علامة فوت كورنر، فقد اشتهرت العلامة في أوساط مغني الراب الفرنسين من أصول مهاجرة كالمغاربة والجزائريين والأفارقة السود، معظمهم ينحدرون من الضواحي المهمشة، تَحولوا من مروجي محذرات وعصابات الضواحي إلى مغنيين ناقمين على الوضع المعيشي بسبب العنصرية والتمييز.

 أغاني الراب.. الهوية  

من جانبه، تَنتشُرُ موسيقى الراب وسط هؤلاء المراهقين بشكل ملفت، ورغم أن هذا النوع من الموسيقى لا يُعرض على أثير الإذاعة الوطنية أو التلفزيون، غير أنه يجذب هؤلاء الشباب بقوة. يحدثنا ياسين وهو شاب عشريني، طالب جامعي بجامعة باب الزوار يمارس هوية غناء الطابع الراب وهو الآن بصدد إصدار ألبوم في هذا الطابع، يقول في حديث لـ “التر جزائر" إن الراب هو الأقرب إلى شباب ضواحي الأحياء الشعبية.

وأضاف أن مضمون الكلام اللامحدود الذي يمس القضايا السياسية والاجتماعية ومواضيع الحرڨة ولميمة(الأمهات) والحبس والحڨرة هو ما يميز هذ الفن، وبحكم الممارسة والتجربة، يقول ياسين، إن هؤلاء الشباب الذين يُنظر على أنهم منحرفون أو "عرايا" يستمعون إلى الراب كمرجعيةوهوية تُخفف من معاناتهم اليومية والحياتية لأنها تحمل رؤيتهم إلى الحياة.

وتشكل وسائل السوشيل الميديا أداة يمكن أن يعتمد عليها مغنون الراب من إنتاج فيديوهات تنشر على منصات اليوتيوب، وقد تحقق نسبة المتابعة والمشاهدة أرقامًا قياسية، وعلى سبيل الذكر، يُشكل يوسف خير الدين المعروف بـ "ديدين كلاش" نجم هؤلاء المراهقين، إذ حصد ألبومه (Tesla) على 46 مليون مشاهدة منذ شهرين.

مغني الراب "تراب كينغ" الذي يفضله كثير من مراهقي الضواحي، ويضرب به المثل في الرجولة والقوة أو ما يطلق عليه "الزندة"، استطاع أن يجد صدًا واسعًا وسط الشباب، نظرًا إلى مضمون الأغاني واللغة واللهجة المستخدمة، وقد تعاطف معه جمهور عريض عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد إدانته بالسجن بجنحة الاعتداء والضرب.

أسقطت الكثير من الأحكام القيمية التعميمية على جيل ولد في فترة العشرية السوداء بدل محاولة فهم رؤيته للحياة

أنسنة الشارع وليس تجريمه

لقد بات هناك جيل جديد ولد في رحم العشرية السوداء والبحوحة المالية، جيل لم يلتفت إليه كثيرًا أو عجزنا عن فهم رؤيته إلى الحياة، وقد اُستقطعت عليه الأحكام القيمية المُعممة، ما جعله أعزلًا عن فعاليات المجتمع وبات أخطر من قبل، تتلقفه وتختطفه عصابات الإجرام المنظم والدوائر المُظلمة، وبدل التفكير في أنسة الشارع بكل محاسنه ومساوئه كان التجريم من أدوات المعالجة، فتوسعت دائرة الانحراف و"العرايا".