14-نوفمبر-2021

(صورة تعبيرية/ Getty)

منذ استقلال الجزائر لعبت النخبة الإدارية دورًا محوريًا في قيادة البلد، وقد تطوّر العقل الإداري داخل هياكل ومختلف مؤسسات الدولة إلى أن تَحول إلى توجهًا "فكريًا عصبويًا"، يُنافس العقل السياسي والمجتمع المدني، اعتمادًا على المنصب والمركز الإداري.

تشير التغييرات الحكومية الأخيرة التي أجراها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى صعود وهيمنة المكون الإداري على الجهاز التنفيذي

وقد عَمل العقل الإداري في الجزائر على فتح الباب على مصراعيه أمام هيمنته وسيطرته، إذ يتفوّق المنطق الإداري على العقل السياسي بقُدرته على الطاعة والولاء للدولة، والالتزام والانضباط تجاه مؤسّسات الدولة، وقد سمح هذا الالتزام والانضباط والولاء إلى نُشوء طبقة مُهيمنة داخل هياكل الدولة، عَملت على نسج شبكات قويّة وعلاقات عنكبوتية مغلقة، ونفوذ يُسيطر على مفاصل الحكم والسلطة.

اقرأ/ي أيضًا: "الزيمورية".. اختفاء الأمّة الفرنسية

استطاعت الإدارة تعويض المجالس المنتخبة بعد حلّ حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ فترة التسعينيات، ولعبت آنذاك أدوارًا أمنية وإدارية وقاعدية، سمحت بوجود الدولة في المناطق البعيدة والمعزولة.

في سياق الموضوع، تشير التغييرات الحكومية الأخيرة التي أجراها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى صعود وهيمنة المكون الإداري على الجهاز التنفيذي، الذي بات اللون السياسي للحكومة، والتي من المفروض أن تكون حكومة مُكونة من أحزاب سياسية، ممثلة في البرلمان، أو وجه سياسية تحمل مشروعًا سياسيًا يعكس مختلف التوجهات المجتمعية والفئات العمالية، التعديل الحكومي الأخيرة لم تتبين أسباب إقالة وزراء كل من الاتصال والعمل والضمان الاجتماعي وقطاع الفلاحة، فالإخفاق لو كان السبب فهو يمس كامل القطاعات والدوائر الحكومية وليس دائرة وزارية واحدة، فارتفاع الأسعار الأساسية وتراجع القدرة الشرائية تتحمله الحكومة وليس وزير لقطاع ما.

لكن مادام العقل الإداري يُسيطر على مفاصل الدولة، ويُشكل مرجعية فكرية ونظرية يَطبع عقل عون الدولة، فإنه لا يمكن أن ندرك خلفيات إقالة وزير أو معاقبة مسؤول ما، إذ ما يُميز العقل الإداري عدم خضوعه إلى المحاسبة أو المساءلة والنقد والكشف عن حصيلة إنجازاته أو إخفاقاته، أو الامتثال أمام الهيئات التشريعية قصد المساءلة عن التسيير المالي أو المحاسبة، حيث يشعر العقل الإداري بالاستقواء والسيطرة أمام المؤسسات المنتخبة، ما دام يذعن أمام الجهات التي كانت وراء تعينه أو تنصيبه وهي جهات نافذة داخل مؤسّسات الدولة غير المنتخبة؛ بل معيّنة ومحمية لاعتبارات مرتبطة بمسائل مجهولة لدى رأي العام.

وعلى ضوء تعثر الجزائر في بناء مؤسسات سياسية وحزبية قوية، أصبحت توازنات الجغرافيا والحساسية المجتمعية والأبعاد الإقليمية المرتبطة بالمحيط المكاني والزماني، عناصر شكلت فرصة أمام صعود المكون الإداري، وأداء أدوارً سياسيا ومؤسساتيا نظير تكوينه وبنيته الفكرية التي تجعل من الدولة محل طاعة وامتثال، وأصبح المكون الإداري يشكل مخزونًا بشريًا ومعرفيًا ومؤسساتيًا ينافس التواجد السياسي بل أضحى عون الدولة الذي يقتحم المجال السياسي والحزبي ويتفرع إلى المشهد الإعلامي لكي يكون بديلًا عن الديمقراطية التشاركية أو التمثيلية.

هذا التغول الإداري السياسي والمؤسساتي يرهن الانتقال الديمقراطي، وهذا التفوق الضيق يقوض كل مسار الدمقراطة بالمفهوم المؤسساتي التي تواجهه الجزائر، فحتى على الصعيد التنموي تشكّل الإدارة حاجزًا بيروقراطيًا أمام التنمية وتحسين ظروف معيشة المواطن، إذا لا تخلوا خطابات الرئيس الجمهورية من توجيه أصابع الاتهام إلى الجهاز الإداري كقعبة أمام التنمية المحلية.

تبقى إشكالية هيمنة العقل الإداري والسيطرة على مفاصل المؤسسات المنتخبة انحراف عن التحديات القائمة اليوم والابتعاد على الفعالية والديناميكية المجتمعية والتنموية

وبالرغم من احتياجاتنا الدائم إلى القطاع الإداري في الدولة ومؤسّساتها، تبقى إشكالية هيمنة العقل الإداري والسيطرة على مفاصل المؤسسات المنتخبة انحراف عن التحديات القائمة اليوم والابتعاد على الفعالية والديناميكية المجتمعية والتنموية، التي تعيشها المجتمعات المعاصرة اليوم، والارتقاء إلى الحوكمة والدمقرطة، لذلك علينا التوجه إلى التغيير الجداري والعميق في  البناء المؤسّساتي وتهيئة المكون الإداري والسياسي لخدمة المواطن والوطن فقط.