17-أغسطس-2019

عودة المغتربين بميناء العاصمة (تصوير: بلال بن سالم/ Getty)

قبل سنوات طويلة، قضى بلقاسم بوزيد كل أعياده في بلاد الغربة متنلقًا بين فرنسا وكندا، هي سنوات لم يعرف فيها طعم الفرحة في كنف العائلة، ولم يذق فيها راحة البال. سبع سنوات على الغياب، لم يزر منطقة وادي الفضة بولاية الشلف غربي البلاد، ليعود إليها في عيد الأضحى عبر ثلاث محطات سفر، رفقة أسرته الصغيرة المكوّنة من الزوجة والابن ذو الثلاثة أعوام وابنته ذات الستة أعوام.

يتمسّك كثير من الجزائريين بعادات العائلة الكبيرة، خصوصًا إن كان الوالدان على قيد الحياة

 يقول بلقاسم في حديث إلى "الترا جزائر"، "لم يسبق لي أن أحسست بهذا الشعور، وأنا أضع رجلي على أرض الجزائر يوم عيد الأضحى، الجميع يقبّل على الجميع، ويطلقون عبارات التهاني مع الأمنيات.. صحّ عيدكم".

آلاف الكيلومترات

في البداية، كانت الرحلة أشبه بـانتظار المجهول، يردّد بلقاسم ذو الـ45 سنة، "إنه العيد والوطن، من كندا إلى فرنسا نحو الجزائر العاصمة ومنها نحو الشلف، مسار يكلّل بفرحة لقاء الأهل والجيران والأصدقاء في احتفالية عيد الأضحى المبارك".

يقول المتحدّث، إنّه غادر الجزائر دون التفكير في العودة وترك كل شيء وراءه. الوظيفة، والعائلة والأصدقاء، والحيّ الذي ترعرع فيه، معترفًا أنه حقّق حلمه أو ربّما أعاد بعث حياته من جديد في ديار الغربة، فكل شيء متوفّر في وضعه الجديد مهنيًا واجتماعيًا، "تحصّلت على وظيفة أحلامي بمؤسّسة محترمة في البرمجيات، ثم أسسّت أسرة صغيرة ولكن هناك شيء منقوص دائمًا، تزداد حدّته في المناسبات والأعياد".

في كل عيد تقفز إلى الذهن ذكريات العيد مع العائلة، فرحة غير مكتملة في الأعياد، هذا هو شعور كل من يحتفلون بالعيد خارج الوطن، رغم أنّ كلّ الظروف مواتية للاحتفال به مثل بقيّة المسلمين، وبالرغم من توفّر وسائل التواصل الاجتماعي التي تمكّن أفراد العائلة من التواصل عن بعد صوتًا وصورة، إلا أن قضاء أيّام مع العائلة الكبيرة والتواصل مع الأقارب له ميزة خاصّة في عيد الأضحى.

ترتبط الأعياد بلادنا، بالعادات والتقاليد غالبًا، من بينها ما يُطلق عليه" لمّة الدار الكبيرة"، إذ يُعتبر  تجمّع العائلة الواحدة في بيت الجدّ أو بيت الأخ الأكبر، عنوانًا للّحمة العائلية كما وصفتها السيّدة زهرة معروف في حديث إلى" ألترا جزائر"، لافتة إلى أن الاحتفال بين أفراد العائلة الكبرى له طعم خاص.

عيد الأضحى المبارك، إحدى المناسبات التي تجمع العائلات الجزائرية، إذ تعدّ هذه المناسبة الدينية، فرصة لتلاقي أفراد العائلة الكبرى في بيت واحد خلال أيّام الفرحة، كما يجتمعون حول مائدة طعام واحدة، وهو ما يرسّخ فكرة الترابط الأسري والعلائقي بين أفراد العائلة الواحدة.

كثير من الجزائريين، يتمسكون بعادات العائلة الكبيرة، خصوصًا إن كان الوالدان على قيد الحياة، يقول السيّد نور الدين زلاقي في حديث إلى "الترا جزائر"، إنّه يقطع 2000 كيلومتر لأجل قضاء يومين في منزلهم تزامنًا مع عيد الأضحى، متنقّلًا من تندوف في أقصى الجنوب نحو مدينة عين الدفلى غرب الجزائر العاصمة، لينتهز فرصة عطلة العيد والاستمتاع مع والديه، خصوصًا مع تقدّهما في السنّ، موضحًا بأنه يريد أن يتربّى أبناؤه في كنف العائلة الكبيرة، يضيف المتحدث.

تجديد العلاقات الأسرية

يعترف كثيرون أن بعض العادات العائلات الجزائرية، تلاشت أو كادت تختفي، ويعود ذلك لأسباب مرتبطة بتغيّر الوضع الأسري وانحسار العائلة الممتدّة، وخفوت سلطة الجدّ والجدّة، فضلًا عن بروز مشاكل في المجتمع، أسهمت في تفكك العلاقات وأحدثت القطيعة بين أفراد العائلة الواحدة.

هنا، يقول رياض بن عبد الرحمان لـ" الترا جزائر" إنّ الظروف الاجتماعية أسهمت في "تضاؤل التواصل العائلي، إذ بات أفراد العائلة الواحدة يسافرون بحثًا عن الرزق والاستقرار بعيدًا عن مسقط رأسهم وعن الأسرة الأم، ممّا ينقص تدريجيًا تلك العلاقات، رغم أن البعض يحافظون، عليها بحكم استمرار العادات والطقوس في عدّة مناطق جزائرية".

من جهته، يعتقد بن عبد الرحمان، وهو ممارس لمهنة الطبّ، أن "العادات الراسخة في المناسبات الدينية تظلّ إيجابية، ولولاها لما نشعر بنكهة الأعياد وشهر رمضان والمناسبات الاجتماعية أيضًا".

تشهد الحركة السكانية في الجزائر نزوحًا كبيرًا من المدن الداخلية نحو المدن الكبرى، وهو ما تعبّر عنه ظاهرة اكتظاظ المحطّات البريّة للمسافرين في أيّام العيد، ويعود سبب هذه الظاهرة، إلى أن كثيرًا من الوافدين الجدد إلى المدن الكبرى، غالبًا ما يؤسّسون أسرًا جديدة بعيدًا عن مسقط رأسهم، لهذا تجدهم خلال أيّام العيد ينتهزون الفرصة للعودة إلى الديار، والقيام فقط بواجب التواصل وصلة الرحم وزيارة الأقارب والأهل.

خلال أيّام العيد، تشهد الجزائر العاصمة وبعض المدن الكبرى، حالة من الفراغ السكّاني، كما يقول المختصّ في علم الاجتماع الأسري عبد الغنّي بن عرفة في حديث إلى"الترا جزائر"، مؤكدًا أن المدن الكبرى تظلّ الملجأ في الرزق والدراسة، وهو ما يفسّر الفراغ الذي تعرفه خلال المناسبات الدينية، وخلوها حتى من السيارات، لأن الآلاف يخرجون منها نحو مدنهم الداخلية وقراهم في ظاهرة اجتماعية تتكرّر مع كل عيد، يوضّح المتحدث.

فرحة غير مكتملة

مع العيد تتجدّد العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة والجيرة، وفيه تتلاشى الحواجز والشحناء والبغضاء ويرسم البعض ابتسامة الرضا والتسامح والتغافر، إذ يفضّل الجزائريون قضاء العيد مع الأهل، لطعمه الخاص، فهذه المناسبة تشجّع على الترابط الأسري، لكن هناك من تفوتهم هذه الفرحة، بسبب ظروف اجتماعية قاهرة، هنا، يقول السيعد بولحبال لـ" ألترا جزائر وهو شاب يبلغ من العمر27 سنة، التقيناه في ساحة أوّل ماي، بالقرب من المستشفى الجامعي مصطفى باشا بقلب الجزائر العاصمة، إنّه منذ فقدانه لوالدته لم يعد للعيد طعم، خصوصًا بعد أن تزوّج والده ثانية، فبات العيد عبارة عن تقبيل أفراد الأسرة والخروج للشارع للقاء الأصدقاء أو الانزواء في مكان ما، إلى أن تمرّ أيّام العيد على حدّ قوله.

ساهمت الهجرة والاغتراب بشكل كبير في تلاشي العادات والتقاليد الجزائرية

بينما يتمسّك كثيرون بالروابط الأسرية، ويحرصون على الامتثال للعادات، يبقى آخرون في معزل عنها، وربّما تخلوا عنها نهائيًا بسبب الاغتراب ومشاغل الحياة، تمامًا كما هو الحال عند قطاع واسع من الناس، ممن يمرّون مرور الكرام عن فرحة العيد، ولم يتذوقوا منها سوى الاسم والفراغ في أيّام العطل.