13-يوليو-2019

الأطفال يمثّلون شريحة واسعة من مستخدمي فيسبوك (Getty)

أثار انتباهي كتاب "علم النفس الحماقة" وهو مؤلّف جماعي ألّفه مجموعة من علماء النفس والفلاسفة والكتاب الفرنسيين. من بين مقالات الكتاب، مقال لـ  فرانسوا جوست بعنوان "مواقع التواصل الاجتماعي غباء وشرّ".

من الهام  الكشف عن علاقة مواقع التواصل الاجتماعي بتنامي ظاهرة الغباء في المجتمعات المعاصرة

أهميّة المقال، أنه يكشف لنا عن علاقة مواقع التواصل الاجتماعي بتنامي ظاهرة الغباء في المجتمعات المعاصرة. أردتُ أن أربط قراءتي لهذه الدراسة بملاحظات عن علاقتنا نحن بمواقع التواصل، فهذه العلاقة مازالت مهملة من طرف الأخصائيين في عالم النفس والتربية والاجتماع والفلسفة وتحليل الخطاب، فمن شأنها أن تحلّل الذات الجزائرية من خلال مرايا المواقع الافتراضية، لأنّ هذه الأخيرة هي بحق مرايا تعكس البواطن الخفية في هذه الذات.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يخاف النظام الجزائري فيسبو ك؟

 بدأ "جوست" مقاله من تعريف مجتمع "المشهد" الذي هو المجتمع الذي تحوّل بفعل وسائل الاتصال إلى مجتمع مرئي، أو بتعبير آخر، هو المجتمع الذي اختزل الحياة الإنسانية إلى مجموعة من المظاهر والأشكال فقط (ص 217)، فالمجتمع المعاصر مولع بالمظاهر الخارجية وبالأشكال التي تتحرّك على سطح الحياة اليومية، ما يعني أن هذا المجتمع لم يعد معنيًا بالعمق الذي يمكن أن تمثّله الأفكار والآداب والثقافة الرفيعة.

يقول إنّ المشهد "ليس مجموعة من الصور، لكن هو علاقة اجتماعية بين الأشخاص الذين تحوّلوا إلى مادّة إعلامية" ( ص217) نفهم من هذا التعريف أنّ الصورة أصبحت في قلب الحياة المعاصرة، بل هي في قلب عملية تحويل المجتمع إلى مادّة إعلامية للإستهلاك العمومي، حيث أصبح كل شيء صالحًا للاستهلاك الإعلامي، بما في ذلك ما ينتمي إلى ثقافة الحماقة والغباء. بل إنّ الإعلام اليوم يراهن أكثر على الاستثمار في السطحي والغريزي وفي العنف، وكسر الطوق الذي يحمي خصوصيات الأفراد لتتحوّل هذه الأخيرة إلى مواد للاستهلاك. وهو ما يطال أيضا مواقع التواصل الاجتماعي.

في مقابل الطابع المشهدي للمجتمع المعاصر، تبرز ميزة أخرى فيه، تتمثّل في  اتساع مجال الحكم؛ فإصدار الأحكام، وتغوّل النزعة المركزية في الأفراد، جعلت الجميع يغالون في إصدار الأحكام، وإبداء الرأي في كل شيء، حتى في المسائل التي يجهلونها. فقد أحال المقال إلى ما كتبه ميشال فوكو عام 1980 عن ولع الناس بالأحكام، وهو الولع الذي وصفه بالجنون.

 إنّ مواقع التواصل الاجتماعي عزّزت اليوم، على نحو أكثر تجذرًا، هذا الولع بالأحكام، خاصّة وأنها توفّر الكثير من الخصائص التي تصبّ في تعزيز ثقافة الحكم، مثل: ميزة التعليقات، وميزة إخفاء هوية المستعمل التي تمنح له شجاعة أكبر للحكم على غيره دون مخاطر كثيرة، وبتعبير فرانسوا جوست، فقد منحت هذه المواقع فرصة كبيرة لمن هبّ ودبّ ليكون مركزا للعالم.

يقدّم المقال بعض الأمثلة التي تبرز نزوع الأفراد إلى الحماقة؛ فمع ظهور يوتيوب وفايسبوك ظهرت ظاهرة تحدي المخاطر القصوى، كأن يقوم شاب باستعراض حركات خطيرة لأجل أن يثبت للعالم أنه شخص شجاع. سلوك مثل هذا يندرج ضمن السلوكيات الحمقاء فلا يُعقل تعريض حياة الشخص أو مجموعة من  الأشخاص للموت لأجل إرضاء شغف وفضول جحافل من المتابعين؟ فقد سجلت وللأسف حالات وفاة غبية بسبب التقاط سيلفي في أماكن خطيرة جدًا. إنها الحاجة إلى أن نكون مرئيين بتعبير الفيلسوف الإيرلندي جورج بيركلي، أو بتعبير جوست إنها الحاجة إلى الشهرة لأجل تحقيق الوجود. (ص 227)

هناك نماذج كثيرة عندنا تتوسّم في الفايسبوك هذه الحاجة النفسية القوية لتحقيق الشهرة بأيّ ثمن، ولو كان ذلك بالاعتداء على الآخرين، فهذا النوع من التفكير ينتمي إلى هذا الغباء الذي حلله الكتاب؛ فمنذ أيّام ناقش زميل لي في الجامعة مذكرة– كان أيضًا مشرفًا عليها - بموضوع مثير جدًا، وهو تحليل البنية الحجاجية للخطاب السياسي في الجزائر، وقد خصّ خطابات الأمين العام لحزب "الأرندي" كنموذج لتفكيك منظومته الحجاجية.

كان العمل من طبيعة انتقادية يستحقّ الشكر لأنّنا أخيرًا يمكن أن نتحدّث عن عمل أكاديمي يفكك خطابات سياسية بالاستعانة بأدوات علمية. لكن للأسف، هناك من قام بتصوير غلاف المذكرة ثم التشهير بالعمل وبصاحبه وبالطلبة على غير وجه حقّ ودون أدنى احترام لأخلاق الزمالة. وكل هذا لأجل إرضاء غريزة الشهرة، وأيضًا لأجل الظهور بمظهر المناضل الجسور في حراك الشعب الجزائري. والغريب في الأمر أنّ هذا الشخص لم يطّلع على الدراسة، على غرار جحافل الأغبياء الذين علقوا على صورة غلاف المذكرة، ومع ذلك نال صديقي قسطًا وافرًا من الأحكام القاسية ومن الشتم والتخوين!

ما جعلني أذكر هذه الحادثة هو قناعتي بأنّ البعض أراد جعل الحراك مصدرًا يستمدون منه شرعية أن يفعلوا ما يشاؤون، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك وهو الإعتداء على القانون، وكأنّ الحراك هو أن تعيش خارج الأطر القانونية، والعودة إلى حياة الفوضى، فحياة الفايسبوك أصبحت تشكل خطرًا على السلامة النفسية لكثيرين ممن يعانون من تضخّم الذات.

صحيح أنّ عدو الحراك هو النظام السياسي الفاشل وليس القانون في ذاته، لأنّ المشكلة في الجزائر ليست في سن القوانين بل في الاعتداء عليها من طرف المسؤولين. لهذا فإنّ الذين يعتدون اليوم على القانون باسم الحراك فهم يعيدون إنتاج وسائل النظام نفسها من حيث لا يشعرون، مستعينين بمواقع التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى نوع من الحصون المشيّدة التي يطلون من شرفاتها إلى واقع أصبح مع الوقت ينفلت منهم شيئًا فشيئًا.

هناك أشخاص ساهم الفيسبوك في إصابتهم بوهم البطولة وأصبحوا يعتقدون امتلاكهم للحقيقة المطلقة

أنا أعرف شخصيًا أشخاصًا أصيبوا بوهم البطولة، ومازاد من انتفاخهم المرضي هي أوهام الفايسبوك التي زرعت فيهم وهمَ أنهم يمتلكون الحقيقة وأنّ خطاباتهم لا يرقى إليها الشك، وأنهم مثال للنزاهة في العمل والحكمة في التفكير والتدبير، وهؤلاء الأشخاص أعرفهم أيضًا خارج هذا العالم الأزرق، فهم يعانون من حالة انفصام حاد مع حقيقتهم الواقعية. بل إنهم في الوقع عكس ما يصوّرنه عن أنفسهم في مراياهم المحدّبة.

Francois Jost, Les réseaux sociaux bétes et méchants,in :Psychologie de la connerie, edition Denoel;

 

اقرأ/ي أيضًا: 

هل سيحرر فيسبوك الجزائريين؟

الجزائر..الانتخابات البرلمانية تبدأ من الفيسبوك