01-مارس-2020

الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة (أ.ف.ب)

في منطقة جبلية بالغرب الجزائري، في تشرين الثاني/نوفمبر 1958، أربع سنوات مرّت على اندلاع ثورة التحرير. يتبادل أربعة رفاق الأحاديث أثناء راحتهم، "إذا بقيت على قيد الحياة، فماذا ستفعل بعد الاستقلال؟ يسأل عبد العزيز بوتفليقة ثلاثة من رفاقه. الأوّل يرغب في مواصلة دراساته في الكيمياء، والثاني يفكّر في العودة إلى تجارته، والثالث يرى نفسه قائدًا عسكريًا بعد الاستقلال. "ماذا عنك يا عبد العزيز؟" طلب أحدهم. يجيبه دون تردّد "أنا؟ سأكون رئيسًا للجزائر". هنا كان عبد العزيز بوتفليقة يبلغ من العمر 21 عامًا، وقد يبدو المشهد كافيًا لفهم كلّ شيء.

جاء في الكتاب أنّ بوتفليقة أراد إيهام الجميع بامتلاكه وصيّة كتبها الراحل هواري بومدين

وردت هذه القصّة في آخر كتاب نشره الكاتب الصحافي الجزائري فريد عليلات، يحمل عنوان "القصّة السرية لبوتفليقة"، والصادر عن دار روشيه بفرنسا، كتاب أراد فيه صاحب "لا يمكنكم قتلنا.. نحن موتى"، تتبّع سيرة بوتفليقة من الطفولة إلى السقوط، واضعًا ملاح الطريق المتعرّجة التي سلكها بوتفليقة من الجزائر إلى الإمارات وفرنسا، مرورًا بدمشق وجنيف.

اقرأ/ي أيضًا: صورة بوتفليقة تنوب عنه في المحافل.. والجزائريون يسخرون من الصدمة

ما قبل السقوط بقليل..

تجزم العديد من القراءات، بأن عبد العزيز بوتفليقة انتهى فعليًا عام 2013، وهنا أصبح –حسب الكتاب- شقيقه سعيد هو الحاكم الفعلي للبلاد، لقد كان بالإمكان أن يخرج بوتفليقة بأخفّ الأضرار لو اختار عدم الترشح عام 2014 لعهدة رابعة، لكن عشقه للسلطة أراد له أن يعيش نهاية عكس التي كان ينتظرها تمامًا.

جاء في الكتاب الذي يضم 398 صفحة من القطع الكبير، أن زعيمة حزب العمال لويزة حنّون، زارت بوتفليقة في نهاية كانون الثاني/جانفي 2014 في إقامته بزرالدة، أرادت حنّون حينها الوقوف شخصيًا على حقيقة رغبة بوتفليقة في الترشّح لعهدة رابعة، ردّ عليها بوتفليقة الذي كان يرتدي لباس النوم، ويظهر في حالة غير مستقرّة، "أتظنّين شخصًا بهذا الحال يترشّح للرئاسة مجدّدًا؟، رغم ذلك ترشّح من جديد، وتبيّن أن حديثه مع لويزة حنون يشبه خطابه في مدينة سطيف يوم أطلق عبارة "طاب جناني".

شهادة أخرى استقاها فريد عليلات من أحد أصدقاء بوتفليقة، والتي كانت مغايرة لما حدث مع حنّون، رغم أنّ الفترة كانت نفسها، حيث سأل هذا الصديق المقرّب لرئيس الجمهورية آنذاك، عن سبب عدم تقاعده رغم أنّه تعب كثيرًا، فكان ردّ بوتفليقة "لقد انتظرت طويلًا لأصل إلى هنا". تلك القصّتان تُثبتان بحقّ أنّ بوتفليقة لم يكن يملك صديقًا، ولا يأتمن أحدًا على أسراره.

من وجدة إلى المرادية

أخذ بوتفليقة حيّزًا كبيرًا من الحياة السياسية في الجزائر، فالرجل يمتلك سيرة سياسية تناهز الـ 60 عامًا. عرون سنة منها رئيسًا للجمهورية، وقرابة 17 سنة في مناصب وزارية. لقد كان بإمكانه أن يدخل تاريخ البلد، لكنه اختار الخروج من أضيق الأبواب، فبحسب فريد عليلات فإن بوتفليقة لم ينل نصيبه من الكتابة، إذ تعدّ المؤلّفات التي تناولت حياته بعمق نادرة جدًا لأسباب متعدّدة، وهذا ما دفعه للغوص في تفاصيل هذا الرجل اللغز، وأخذ منه هذا الكتاب ما يقارب 18 سنة من البحث والتحرّي.

يرى عليلات أنّه لفهم بوتفليقة ودراسة شخصيته، علينا الرجوع إلى طفولته في مدينة وجدة المغربية، فهناك صّقلت الشخصية الحقيقية لبوتفليقة، سافر الكاتب الجزائري عدّة مرات إلى المدينة المغربية، وزار بيت عائلته هناك، التقى بمعارفه وقصد المكان الذي اشتغل فيه والد بوتفليقة، للبحث عن السرّ وراء عدم ذكر بوتفليقة لوالده أو السعي لإحياء خصاله، ولماذا يتحاشى بوتفليقة بعد أن صنع لنفسه مجدًا، التحدّث عن والده.

حملت دفّات "القصّة السرّية لبوتفليقة" جوابًا لهذا السؤال، فالصحافي فريد عليلات، حاول الوصول إلى هذا السرّ منذ سنوات، حاول إيجاد الإجابة لدى المقرّبين من بوتفليقة أو من اشتغلوا معه، سأل حتى رؤساء حكومة في عهده أثناء محاورته لهم، لكن كان يسمع الجواب نفسه دائمًا: "بوتفليقة لم يحدّثنا يومًا عن والده".

حسب الشهادات والقصص التي وردت في الكتاب، فإنّ بوتفليقة "لم يكن فخورًا بوالده"، فجميع الشهادات متطابقة حول الموضوع، وهو أنّ والد الرئيس السابق كان مُخبرًا للسلطات الفرنسية في وجدة، وكان يتعاون مع الإدارة الفرنسية التي منحته وسامًا عام 1937، قبل ميلاد ابنه عبد العزيز بشهرين. بل هناك روايات تقول إن النقيب زاوي، الذي كان مكلّفًا بتجنيد الشباب في جيش التحرير الوطني، رفض تجنيد بوتفليقة كون والده يملك سوابق في التعامل مع الإدارة، لكنّه تلقّى ضمانات من أشخاص جعلته يجنّده عام 1958، ويعرف بعدها باسم عبد القادر في ثورة التحرير.

أين كان بوتفليقة؟

أراد بوتفليقة أن يكون رئيسًا منذ عام 1976؛ فالرجل كان يرى نفسه الوريث الشرعي للرئيس هواري بومدين، وأحد أكثر المقرّبين منه، بعد أن كان سكرتيرًا له أثناء حرب التحرير، ووزير للخارجية في فترة حكمه للجزائر، ويُروى حسب ما ورد في كتاب فريد عليلات، أنّه أثناء صياغة الدستور طلب بوتفليقة من محمد بجاوي، المسؤول عن هذا المشروع في ذلك الوقت، أن يُدرج في النصوص الأساسية للبلاد منصب نائب الرئيس، كان بوتفليقة يريد أن يخيط دستورًا على مقاسه، وأن يكون نائبًا للرئيس تمهيدًا للسطو على الحكم، لكن هواري بومدين تدخّل ورفض المقترح.

وبعد وفاة بومدين، حدث ما لم يكن في حسبان بوتفليقة، إذ مالت كفّة الجيش للشاذلي بن جديد وتم إقصاء بوتفليقة ووضعه بعيدًا عن دواليب الحكم، ما جعله يحزم أمتعته ويغادر نحو وجهة غير معلومة، ويختفي لمدّة عشرين سنة، تلك الفترة بقيت بمثابة سرّ غير معلوم، أين كان بوتفليقة وماذا كان يعمل؟ يستقي الكاتب من بعض الشهادات، أنّ بوتفليقة ذهب حاقدًا ليعود بعدها بنيّة الثأر.

كما يروي الكتاب عن فترة إقامة بوتفليقة في أبوظبي، حيث اشتغل مستشارًا للشيخ زايد الذي أكرمه بشكلٍ خرافي، كما عرّج فريد عليلات على فترة إقامة بوتفليقة في دمشق، وهي فترة لازالت تُخفي الكثير من الأسرار، لقد تمكّن الكاتب من الحصول على موافقة إلييتش راميريز سانشيز، المدعو بـ "كارلوس الثعلب" للحديث عن صداقته مع بوتفليقة، لكن إدارة السجن الذي يوجد فيه كارلوس في فرنسا، بعد إدانته بالضلوع في قتل شرطيين فرنسيين، تماطلت في القبول، فاضطر عليلات لطلب شهادة كارلوس كتابيًا، ومن أهمّ ما قاله كارلوس "أنه كان يلتقي بوتفليقة ويتناولان العشاء مع بعض، حيث كانا يعيشان في البناية التي كانت تضمّ شخصيات سياسية ودبلوماسية مرموقة"، في هذه الشهادة قال كارلوس إنّه "منح مسدّسه هدية لبوتفليقة".  

بوتفليقة وبومدين..علاقة مفخّخة؟

ويغوص الكتاب في البحث عن بعض تفاصيل علاقة بوتفليقة مع بومدين، التي تبدو في ظاهرها أشبه بعلاقة الوالد مع ولده، خاصّة أن بوتفليقة كان إلى جانب بومدين عند إزاحته لبن بلّة من السلطة. ينقل الكتاب أيضًا شهادة الرئيس الراحل أحمد بن بلة عن بوتفليقة، الذي قال عنه إنّه "لا يفعل إلا ما يدور في رأسه.. أرسلته ذات يوم إلى روسيا في مهّمة رسمية عام 1964، تلقيت اتصالًا من السلطات الروسية، أخبروني فيها أنّ بوتفليقة يجادل في كل التفاصيل، ويعرقل كتابة البيان الختامي للزيارة، إنه عنيد جدَّا، لقد أيقظوني على الثانية صباحًا لحلّ الأمر".

ونقل الكاتب أيضًا عن محادثة دارت بين بوتفليقة وشريف مساعدية، الذي أخبره أنّ بوتفليقة قال ذات مرّة: "بومدين هو أكثر شخص أكرهه في هذا الكون"، ويرجع الكثيرون أنّ العلاقة بين الرجلين تعكّرت بعد أن منع بومدين إحداث منصب نائب الرئيس، الذي كان يراه بوتفليقة بوابة للحكم. كما جاء في الكتاب أنّ بوتفليقة أراد إيهام الجميع بامتلاك وصيّة كتبها الراحل هواري بومدين، يعيّنه فيه خليفة له.

 نقطة ضعف بوتفليقة التي قتلته قبل الأوان، هي هوسه بالسلطة ورغبته في الوفاة فوق كرسي الحكم

كان بوتفليقة يملك سلاحًا فتّاكًا، لقد كان خطيبًا متميّزًا، كانت الكلمات التي تسيل من فمه تسحر من يسمعه، وبدت خطاباته كأنها عرض مسرحي، كان يتكلّم العربية بطلاقة، ويتحدث الفرنسية بإلمام منقطع النظير. كانت كلماته تصيب الجماهير في مقتل، هذه كانت نقطة قوّة رجل يدّس السم في العسل. أمّا نقطة ضعفه التي قتلته قبل الأوان، هي هوسه بالسلطة ورغبته في الوفاة فوق كرسي الحكم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مناورة بوتفليقة حول الضمير الديني للجزائريين

عبد العزيز بوتفليقة.. ختام "قسري" لسيرة رمادية