12-ديسمبر-2024
إحصاء عام للتنمية الاقتصادية

إحصاء عام للتنمية الاقتصادية ( صورة:أرشيف)

تُحضّر الحكومة للقيام بالمرحلة الثانية من عملية الإحصاء الاقتصادي الوطني بعد أكثر من 10 سنوات من إجراء المرحلة الأولى، في خطوة تضاف إلى عديد عمليات الإحصاء التي جرت في الفترة الأخيرة.

التحريات الجديدة أظهرت مبالغة كبيرة في الأرقام بعدة قطاعات كما أنّها لا تعبّر عن الحقيقة

وتهدف هذه الخطوة إلى تكوين قاعدة بيانات حقيقية عن مختلف المجالات والشعب الاقتصادية في الجزائر، بعدما أظهرت التحريات الجديدة مبالغة كبيرة في الأرقام المتعلقة بعدة قطاعات ، إذ لا تعبر عن الحقيقة، إنّما استعملت للتغطية على بعض المخالفات والاستفادة من الدعم الحكومي، فكيف سيساهم الإحصاء الدقيق والموضوعي في التقليص من هذه التجاوزات وإفادة اقتصاد البلاد؟

إعادة الأرقام إلى الواقع

بالرغم من وجود مؤسسات جامعية وديوان وطني مختص في التكوين والإحصاء أو القيام بعملياته، بقي الجرد الشّامل لمختلف عناصر الاقتصاد الكلي للجزائر غائبا، ما فتح الباب لإطلاق أرقام مضخّمة، ومعمّمة لا تعبر عن تفاصيل وحقيقة القطاعات الاقتصادية المختلفة في الجزائر، وهو ما يجعل القيام بإحصاءات موضوعية أمرا ضروريا لتنفيذ الدراسات الاستشرافية اللازمة لرسم السياسات الاقتصادية المطلوبة.

اللافت في عملية تأسيس بنك معلومات مبني على أرقام محينة، غياب وزارة متخصصة في التخطيط والإحصاء، عن الحكومة الحالية والتي سبقتها، إلاّ أن الاهتمام بالبيانات الكمية أصبح يُشكّل محورا أساسيا في انشغالات السلطات في الأعوام الأخيرة، وذلك بتنفيذ جملة من الإحصاءات منها على سبيل المثال الإحصاء العام السادس للسكان في 2022 والإحصاء العام للفلاحة الذي تمّ الصيف الماضي، والذي سبقه إحصاء للثروة الحيوانية في الجزائر نهاية 2022.

وتستهدِف الحكومة الانطلاق في الفترة القادمة في المرحلة الثانية من عملية الإحصاء الاقتصادي الوطني التي شكلت التحضيرات الخاصة بها مؤخرا محور اجتماع ترأسه وزير التجارة الداخلية وضبط السوق الوطنية، الطيب زيتوني.

وأوضحت الوزارة أنّ المسؤول الأول على القطاع اجتمع يوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى عرض قدمه المكلف بتسيير الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة، تناول الخطة والأهداف المرسومة للمرحلة الثانية من عملية الإحصاء الاقتصادي الوطني.

وقال زيتوني إنّ هذه المرحلة "تهدف إلى بناء قاعدة بيانات وطنية دقيقة وشاملة لكافة الأنشطة الاقتصادية، مما يعزز من معرفة حقيقية للاقتصاد الوطني وقدراته الإنتاجية"، مضيفا أن هذه العملية "تندرج ضمن برنامج رئيس الجمهورية لبناء اقتصاد قوي ومتنوع, يرتكز على الحوكمة الرشيدة والتخطيط المستدام".

ومن المنتظر، أن تشرف الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة بالتنسيق مع المصالح الخارجية للوزارة وكل القطاعات ذات الصلة، على إجراءات المرحلة الثانية من عملية الإحصاء الاقتصادي، إذ شدد زيتوني في الوقت ذاته على "ضرورة تعاون كافة الفاعلين الاقتصاديين لإنجاح هذه المرحلة".

وأجرت الجزائر الإحصاء الاقتصادي الأول في أيار/ مايو 2011 الذي أشرف علية الديوان الوطني للإحصاء، وذلك عبر طرح ثلاث استمارات للمستجوبين، تخصّ اثنتين منها المتعاملين الاقتصاديين، وتتعلق إحداهما بمعلومات حول المؤسسة الاقتصادية، فيما شملت الثانية الانشغالات والقيود التي يواجهها المتعامل.

أمّا الاستمارة الثالثة فاهتمت بالمؤسسات الإدارية، وذلك بهدف جمع معلومات تتعلق بتعريف المؤسسة الإدارية والتموقع والخصوصيات والنشاط والتشغيل.

 لكن نتائج الإحصاء الاقتصادي الأول لم تنشر بالشكل الكافي، ولم تتحدث الحكومة مطلقا عن انعكاساتها على تطوير الاقتصاد الجزائري، وإنشاء قاعدة بيانات تمكن من التنبؤات العلمية اللازمة، لذلك يجب أن تختلف المرحلة الثّانية من الإحصاء الاقتصادي الوطني كلية عن التجربة الأولى.

ضرورة لرسم سياسات مستقبلية

أوضح أستاذ الاقتصاد التطبيقي والإحصاء بجامعة تيسمسيلت عبد القادر رملاوي في حديث خصّ به" الترا جزائر " بأنّ " رسم السياسات المستقبلية والاستشراف يتطلب توفّر الدولة على قاعدة بيانات ملمة بكافة المؤشرات الاقتصادية، والتي تسمح لها باتخاذ قراراتها السيادية سواء الداخلية والخارجية، كمعدلات النمو والتضخّم، فضلا عن رسم السياسات النّقدية والمؤشرات التي يجب التحكم فيها، لأن الإحصاء يجب أن يحظى بأهمية كبرى في سياسات الدول".

وأشار رملاوي إلى أن الإحصاء في القطاع الفلاحي الذي يعد من مكونات الاقتصاد يظهر في عدة مؤشرات، خاصة ما تعلق بمؤشر الإنتاج الزراعي كالحبوب والخضراوات، فالدولة مطالبة بمعرفة الإنتاج الذي يسمح لها بتغطية حاجاتها الوطنية، والأمر ذاته ينطبق على الثروة الحيوانية، فالإحصاء يمكّن من كشف الأرقام الحقيقية من الأرقام المضخمة والمضلّلة.

الإحصاء الخاص بالثروة الحيوانية

وأضاف بأنّ تحقيق الأمن الغذائي الذي تسعى الحكومة إلى تحقيقه، يتطلب وجود أرقام حقيقية للتمكّن من الوصول إليه، لذلك على القائم بعملية الإحصاء أن يكون مسؤولا عن الأرقام والكلمات التي سيتضمنها الاستبيان، وعلى المستجوب أن يكون أيضا مسؤولاً عن المعطيات التي يُدلي بها.

وفي السياق، فإنّ الوصول إلى سياسة مالية واقتصادية شاملة، حسب المتحدث، يستدعي وجود إحصاءات كاملة لمختلف المجالات، لأنّ السياسة الاقتصادية التي تتضمّن السياسة النقدية والسياسة والمالية تتطلب ضرورة التنسيق بين هاتين السياستين لفهم بعض المؤشرات كالتضخّم الذي يشكّل خفضه تحديا للحكومة الجزائرية.

وأشار رملاوي هنا على سبيل المثال إلى أن سياسة الدعم القائمة اليوم على ميكانيزمات خاطئة كونها تسمح باستفادة الجميع منها، سواء كان محتاجاً أو ثرياً، تتطلب مراجعتها وجود قاعدة بيانات إحصائية تتعلق بمختلف المجالات الحياتية للمواطن الجزائري.

الحدّ من التضليل

كشف الإحصاء الوطني للثّروة الحيوانية الذي أجرته الحكومة عن مغالطة كبيرة في الأرقام السابقة المتعلقة بعدد رؤوس الماشية في الجزائر. حيث كانت الحكومة قد أعلنت أن العدد بلغ 30 مليون رأس، لكن العملية الإحصائية أثبتت أنّ الأرقام السابقة كانت مضخّمة بشكل غير معقول، إذ تبين أن الرقم الفعلي لا يتجاوز 19 مليون رأس.

قوة الدولة الاقتصادية تعتمد على توفر إحصائيات دقيقة وحقيقية لكن الأرقام المضللة تفضي إلى قرارات غير صائبة

وقال رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون في شباط/ فبراير 2023 خلال افتتاح الجلسات الوطنية للفلاحة إنّ قوة الدولة الاقتصادية تعتمد على توفر أرقام وإحصائيات دقيقة وحقيقية.

وأوضح تبون أن "الدولة التي تسعى لاستعادة قوتها الاقتصادية، خصوصاً في القطاع الفلاحي، يجب أن تستند إلى الأرقام الصحيحة". كما أشار إلى أن "الإحصائيات هي التي توجه الاستثمار والاستيراد بشرط أن تكون الأرقام دقيقة وواقعية".

واستغرب الرئيس تبون من "التفاوت والتضارب" الذي كان سائدًا في السنوات السابقة في الأرقام المتعلقة بالثروات الفلاحية الوطنية، وخاصة تلك المتعلقة بالمواشي والمساحات المزروعة في كل موسم فلاحي، كما قال:" كنّا نعمل بأرقام تتداول منذ عشرات السنين حول الإنتاج الفلاحي وغيره.

وهذه الأرقام التي كنا نستعملها بعيدة كل البعد عن الحقيقة، مثلا مساحة الأراضي المزروعة عبر الوطن كانت تقدر بـ 3 ملايين هكتار، لكن لما أجرينا تحريات في إطار الرقمنة وجدنا أنها لم تتجاوز 1.8 مليون هكتار. هذا يعني انه ما زالت هناك أراض لا تستغل وأننا في القرن 21 ما زلنا نترك الأراضي بورا".

وبالنسبة لتبون، فإن "الأرقام الخاطئة تعطي تحليلا خاطئا"، مذكرّا أن الإحصاء الدقيق للمواشي أظهر توفر الجزائر على 19 مليون رأس من الأغنام "وليس 23 أو 29 مليون رأس مثلما كانت تظهره الإحصائيات السابقة".

وأضاف تبون قائلاً: "كنا نعمل بناءً على أرقام تم تداولها لعدة عقود حول الإنتاج الفلاحي وغيره، وهذه الأرقام كانت بعيدة عن الواقع. على سبيل المثال، كانت مساحة الأراضي المزروعة عبر الوطن تُقدر بـ 3 ملايين هكتار، لكن عند إجراء تحريات ضمن إطار الرقمنة، تبين أن المساحة الفعلية لا تتجاوز 1.8 مليون هكتار. وهذا يعني أن هناك أراضٍ ما زالت غير مستغلة، في وقت نعيش فيه في القرن 21 ونترك الأراضي دون اهتمام".

وفيما يتعلق بالأرقام الخاطئة، أوضح بأنّها "تؤدي إلى تحليلات غير دقيقة"، مشيرًا إلى أنّ الإحصاء الدقيق للمواشي أظهر أن الجزائر تمتلك 19 مليون رأس من الأغنام، بدلاً من الأرقام التي كانت تُظهر 23 أو 29 مليون رأس كما كانت تظهرها الإحصائيات السابقة.

الإحصاء العقار  الفلاحي

الأرقام غير الصحيحة تؤدي إلى تحليلات خاطئة

من خلال ما سبق ذكره؛ يُوضّح أستاذ الاقتصاد التطبيقي والإحصاء رملاوي في أنّ الإحصاء الاقتصادي الشامل والموضوعي هو الأداة الوحيدة القادرة على كشف الإحصائيات المتحيزة التي لا تعكس الأرقام الحقيقية على أرض الواقع.

وأشار إلى أنّ هذا النوع من الإحصاء يسهم، على سبيل المثال، في تقليص حالات المستفيدين الوهميين من الدعم الحكومي في القطاعات الفلاحية والصناعية.

وكشفت التحقيقات الوزارية والأمنية والقضائية عن وجود خروقات في استفادة بعض الأفراد من الدعم الحكومي، وذلك بسبب غياب قاعدة بيانات موثوقة تعتمد على معطيات صحيحة.

ففي عام 2019، تم إلغاء 59 قرار استفادة من العقار الصناعي لمستثمرين وهميين في ولاية سوق أهراس، وهي حالة تكررت في عدة ولايات وقطاعات. ويعود ذلك إلى غياب قواعد بيانات دقيقة وموضوعية مبنية على عمليات إحصاء ذات مصداقية، تعكس الأرقام الحقيقية في الواقع.