27-يونيو-2022
(الصورة: Oxfam)

(الصورة: Oxfam)

يتداول في الأوساط الشعبية مقولة لأحمد بن بلة، أول رئيس الدولة الجزائرية، موجهًا خطابه إلى البورجوازية الوطنية آنذاك: "نذوبلهم الشحمة"، وتعني “سأذيب لهم الدهون"، ويقصد بذلك أنهم سيمنعهم من الاستثراء والسيطرة والاستحواذ على مزيد من المشاريع ويحدّ من نفوذهم.

ما يزال الخطاب الرسمي والإعلامي "يُشيطن" فئة التجار ورجال الأعمال أو كل ما له علاقة بالمبادرة الفردية

هذه العبارة تعكس منظور المسؤول السياسي الأوّل إلى فئة اجتماعية من مالكي الأراضي وأصحاب المهن الحرة أنداك، وتُبرز آفاق الخيارات الاقتصادية، والنموذج التنموي القائم حينها على الخيار الاشتراكي، وتأميم ممتلكات الخواص.

فغداة الاستقلال وبناءً على خيار قائم على التسيير الذاتي والمبادرة الجماهيرية في إطار التضامن الجماعي، تمت مصادرة المقاهي وقاعات السينما والعروض وتأميم الأراضي ضمن المسار الثوري، وتَحرير الفرد الجزائري من كافة أشكال الليبرالية والهيمنة.

"شيطنة" القطاع الخاص

ورغم المكاسب التي حققها القطاع الخاص عبر مختلف المراحل إلى غاية اليوم، ما يزال الخطاب الرسمي والإعلامي "يُشيطن" فئة التجار ورجال الأعمال، أو كل ما له علاقة بالمبادرة الفردية، حيث بات "الجهاز البيروقراطي" يتوجس من تَحوُل الرأس المال الخاص إلى قاعدة سياسية.

 هنا، تُبرز خرجات إعلامية لمسؤولين إلى رسم "صورة سوادية" عن القطاع الخاص، وفي ظلّ حملات محاربة الفساد، تصاعد تعميم التشكيك في المقاولين والصناعيين، والتسويق على أنها فئة مرتبط بالشجع والطمع والفساد، وأن فئة التجار وراء ارتفاع الأسعار والندرة في بعض المواد الاستهلاكية.فما هي دوافع تلك الصورة النمطية عن قطاع يشكل أهم ركائز الاقتصادية؟ ومخزونًا أساسيًا في السوق العمل، وموردًا أساسيًا للضرائب والتأمينات الاجتماعية؟ وكيف تمكن القطاع الخاص من فرض وجوده؟ وما هي أبرز اختلالات هذا القطاع؟

البرجوازية والليبرالية الاستعمارية

في السياق، لقد ارتبط مفهوم البرجوازية في أذهان قادة الثورة التحريرية الذين تقلدوا السلطة منذ 1962 بالليبرالية الاستعمارية والهيمنة والعبودية،ووَفقَ منظور القيادة الثورية الشابة حينها، فإن البرجوازية الوطنية وعلى قلتها، كان لها ارتباطات مع الإدارة الاستعمارية ولم تلتحق بالثورة التحريرية، وبناءً عليه صُنفت في خانة العمالة والخيانة، ومن الواجب تأميم ممتلكاتهم والورشات التابعة لهم. يُشار هنا، إلى وجود بعض الاستثناءات مع الملكيات الصغيرة والمحدودة، وشخصيات ساندت الثورة على غرار عائلة عباس تركي.

في الاتجاه نفسه، يرى مؤرخون أن جذور هذا التوجه تعود إلى الأصول البروليتارية والريفية لمعظم القادة السياسيين والعسكريين الذين تولوا قيادة البلاد من فترة 1962 إلى غاية 1979، إضافة إلى التكوين الأيديولوجي الاشتراكي الذي تغذّى به كل من المرحوم أحمد بن بلة والرئيس هواري بومدين، مع الإشارة إلى النسق الدولي آنذاك الذي انقسم إلى المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي والحرب الباردة.

1965 -1978 مخطط التنمية

تاريخيًا دائمًا، لطالما شكل الثقل التاريخي والسياق الأيديولوجي العالمي خيارات الدولة الجزائرية اقتصاديًا، فخلال مخطط التنمية لسنتي 1965 - 1978، حيث تم الاعتماد على الصناعات الثقيلة، والثورة الزراعية الكبرى، واحتكار الدولة لكل الأنشطة الخدماتية والتجارية الكبرى.

 في المقابل، تم إهمال الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وهو الفضاء الذي كان باستطاعة المقاولين والصناعيين والحرفيين الصغار من تطوير نشاطهم وصناعتهم، لكن وفي ظلّ مقاومة تطور القطاع الخاص، والحصار المفروض عليه ماليًا وإداريًا وعدم رغبة الحكام في تطويره، ظلّ القطاع يراوح أنشطة صغيرة وحرفية محدود الإنتاج والنشاط، تحت إدارة عائلية وأسرية.

في سياق متصل، وخلال الفترة الممتدة ما بين 1965-1978 شهدت الجزائر صعود التيار الشيوعي في أغلب الجامعات الجزائرية والنخبة البيروقراطية، وشكل هذا الصعود بروز تيارٍ إداري وايديولوجي شعبوي، عزز بشكل قوي من معاداة ارتقاء قطاع خاص قوي، أو تمكين من وجوده على الساحة الاقتصادية.

1980-1988 رأسمالية الدولة

سمحت القيادة الجديدة برئاسة الرئيس شاذلي بن جديد من الانفتاح نوعًا ما على القطاع الخاص، هذا الانفتاح جاء بفضل مداخيل النفط التي دعمت الخزينة العمومية ما بين 1980-1984، قبل انهيار أسعار البترول سنة 1986.

وما بين سنتي 1984 - 1988 عُين عبد الحميد براهيمي وزيرًا للحكومة، وهو دكتور اقتصاد خريج جامعة أميركية، ساهم تكوينه في إحداث قطيعة مع النظرة الاقتصادية السائدة آنذاك، حينها بدأ مصطلح "الخوصصة" يتداول في أروقة السلطة، ولم يعد من الطابوهات، وعمل براهيمي على إعادة هيكلة الشركات الكبرى وتجزئتها إلى وحدات متوسطة وصغيرة والفصل بين مؤسّسات التوزيع وورشات الإنتاج، حيث تحولت 50 من كبرى المؤسسات إلى 1500 مؤسّسة وطنية وإلى 13 ألف مؤسسة جهوية ومحلية.

في ذلك الوقت، رأى مراقبون أن إعادة هيكلة المؤسسات الكبرى كان يهدف إلى خوصصة الشركات سواءً إلى المتعاملين الأجنبين أو رأس المال الخاص. لقد كان شعار المرحلة في ذلك الوقت “شاذلية من أجل حياة أفضل"، وبرزت إلى العلن مظاهر الثراء على أبناء وبنات المسؤولين الساميين، وأُعلن عن "برجوازية الدولة"، متمثلة في  مُوظفين وأعوان الدولة من عسكريين سابقين ومجاهدين متقاعدين، اختاروا التقاعد والتوجّه إلى الأعمال والتجارة في مجال المقاولة والأنشطة التجارية المتوسطة بفضل تسهيلات ودعم من البنوك العمومية.

وفي كانون الثاني/جانفي سنة 1983 صدر قانون استثمار جديد ألغى قانون الاستثمار  السابق سنة 1966، فُتح بموجبه مجال الاستثمار أمام الخواص في مجال المقاولة والفندقة والصيد البحري ونقل الأشخاص والبضائع والمناولة في مجال قطاع الغيار والخردوات، وفي حزيران/جوان 1983 خفّفت على الخواص  إجراءات استيراد الآلات والعتاد الصناعي من أجل نشاطاتهم الصناعية، وفي سنة 1985 أجاز قانون المالية للبنوك العمومية تقديم قروض بنكية لا تتعدى 30 بالمائة من حجم الاستثمار لفائدة المجاهدين وأبناء وأرامل الشهداء، وخلال سنة 1988 تم تعديل القانون التجاري والتشريعي للمؤسسات.

1989-1992 التيار الإصلاحي

بعد أحداث أكتوبر 1988 شهدت البلد انفتاحًا سياسيًا وديمقراطيًا، انعكس على صعود وتحرر القطاع الخاص من قبضة احتكار الدولة بشكل كامل، وساعد التيار الإصلاحي بقيادة رئيس الحكومة مولود حمروش(1989-1991) بمعية الثلاثي إسماعيل أومزيان، وغازي حيدوسي ومحافظ البنك سابقًا الحاج ناصر على إدراج إصلاحات اقتصادية ومالية، وإصدار النصوص التنظيمية والتشريعية المتعلقة بالتوجه نحو اقتصاد السوق.

صدر في تلك الفترة قانون النقد والقرض الجديد، وتحرير قيمة العملة، وتحرير المبادرات الفردية، وَتشجيع القطاع الخاص وتمكينه من الاطلاع بالدور الأكبر تنمويًا، حيث تجاوزت عدد المؤسسات الخاصة خلال تلك فترة إدارته للحكومة عتبة 5000 مؤسّسة خاصة متوسطة وصغيرة، لكن وبسبب الاضطرابات السياسية لم تدم حكومة الإصلاحات الوطنية طويلًا وقدم حكومة حمروش استقالتها في الخامس حزيران/جوان سنة 1991

حكومة بلعيد عبد السلام

في سنة 1992 دخلت الجزائر مرحلة تطبيق برنامج إعادة الهيكلة الموقع مع صندوق النقد الدولي، وتم تعيين رضا حمياني وزير منتدبًا مكلفًا بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في حكومة بلعيد عبد السلام، وهو رجل أعمال من وسط عائلة تَنشط في مجال صناعة الأنسجة، وصاحب ماركة قميص Redman، وتفاءلت الأوساط الصناعية من القطاع الخاص من هذا التعيين في الدفع بمكانة أقوى في المشهد الاقتصادي.  

غير أن الظروف المالية الصعبة والأزمة الأمنية، لم تُمكن القطاع الخاص من تجاوز الهشاشة والركود، شأنه شأن المؤسسات العمومية الغارقة في الديون والإفلاس، لتختفي أغلب المؤسسات الخاصة والحرفية، بل حتى رضا حمياني نفسه طَور مجال أعماله إلى استيراد المواد الغذائية والصيدلانية والسيارات.

1992-1999 اقتصاد السوق 

مرّت الجزائر خلال فترة 1991 إلى غاية 1999 بظروف أمنية صعبة جدًا وحرب داخلية دامية، وتعرض خلالها رجال الأعمال إلى ابتزاز الجماعات المسلحة، وتهديدات من طرف العصابات والمنحرفين، وقد سُلبت وأٌحرقت الكثير من المصانع والمؤسسات التابعة للخواص، وفي سنة 1994 وفي إطار مواصلة تطبيق برنامج إعادة الهيكلة، حدث توجه نحو اقتصاد "البازار" وخصخصة المؤسسات العمومية، برغم من وعود بدعم القطاع الخاص، وضخ ميزانية قدرت بـ 21 مليار دولار (1994-1998).

وفي ظل ظروف أمنية واقتصادية صعبة، لم يتمكن القطاع الخاص من تحقيق وثبة حقيقة، بسبب اقتصاد السوق، وإغراق السوق الوطنية بالسلع العالمية، وعدم تمكن القطاع الخاص من منافسة السلع الآسيوية والأوروبية الأقل سعرًا والأكثر جودة، إضافة إلى تراجع قيمة الدينار التي تسببت في إفلاس العديد من المؤسسات الخاصة، زيادة على ارتفاع نسبة التضخم التي وصلت إلى 29 بالمئة، بينما تحولت غالبية النشاطات إلى مجال الاستيراد والتجارة الخارجية.

1999-2020 المال السياسي والأوليغارشية  

لطالما اُعتبر عبد العزيز بوتفليقة إبان فترة حكم هواري بومدين أنه قريب من الدوائر البرجوازية، وقد تزامن عودة الرجل إلى الحكم في 1999 طفرة مالية، وامتلأت الخزينة العمومية نتيجة ارتفاع الأسواق النفطية، وفي ظلّ البحث عن توازنات سياسية جديدة، عمد بوتفليقة إلى اعتماد على رأس المال الخاص كقاعدة سياسية من أجل بسط حكمه، فاختار وزراء خريجي المدراس الأميركية على غرار شكيب خليل، الوزير عبد الحميد تمار، ومهندس الإصلاحات مراد بن أشنهو، مراد مدلسي وزيرا للمالية، وتقلد عبد الوهاب بوكروح منصب وزير المؤسسات والصناعات الصغيرة والمتوسطة، ويتبنى بوكروح التوجه الليبرالي.

وباشر بوتفليقة حملة خصخصة الشركات العمومية، وتحويل المؤسسات الدولة إلى الملكية الخاصة، وأصدرت تعليمات إلى البنوك من أجل تمويل رجال الأعمال المقربين من الدوائر السلطة، وقد تمكن رأس المال الخاص من السيطرة على الاقتصاد الوطني، ماعدا بعض المؤسّسات العمومية الكبرى التي قاومت كل محاولات الخوصصة أو البيع لصالح الأوليغارشية الحاكمة.

وبين اختلالات القطاع الخاص تلك الفترة، أنه تحول إلى طغمة من رجال أعمال تسيطر وتحتكر قطاعات هامة، وبرزت على الساحة زبائنية جديدة، تَفكك فيها القطاع العام، وبات القطاع الصناعي الخاص خاضع إلى احتكار وإملاءات أوليغارشية مالية وسياسية.

يتضمن النسيج الاقتصادي الوطني 1 مليون و300 مؤسسة كبيرة وصغيرة منها 85 بالمائة تابعة للقطاع الخاص

يتضمن النسيج الاقتصادي الوطني 1 مليون و300 مؤسسة كبيرة وصغيرة منها 85 بالمائة تابعة للقطاع الخاص، ورغم هذا أهمية هذا القطاع غير أنه ما يزال مرتبط دائما بتلبية "الطلب العمومي"، وخاضع إلى العقل البيروقراطي الذي لم يتحرر من فكرة الدولة فوق الجميع.

 

دلالات: