31-يوليو-2019

في السوق الشعبي بشارع الشهداء (فيديريك ريغلان/Getty)

أصبح التخلّص من فاتورة استيراد الحبوب، والتي تكلّف الخزينة العمومية ميزانيات طائلة، الشغل الشاغل للحكومة الجزائرية اليوم، إذ توالت الاجتماعات الحكومية والأيّام الدراسية التي تناقش هذا الملف، لكن هل ستستطيع البلاد معالجة هذا الإشكال وتحقيق خطوة هامّة في طريق تحقيق الأمن الغذائي والحفاظ عليه في هذه المرحلة؟، أم أن الطريق مازال طويلًا عن مرمى هذه الأهداف؟.

مازال القمح الفرنسي يتصدّر قائمة الاستيراد الجزائري، رغم محاولة الحكومة تنويع مصادر وارداتها

بداية هذا الأسبوع، جمعت وزارة الفلاحة على مدار يومين خبراء فلاحيين ومختصّين في الزراعة في لقاء وطني لدراسة سبل تنمية شعبة الحبوب، والتي يظلّ إنتاجها دون الإمكانيات المسخرّة لها، سواءً من حيث المساحة المخصّصة لها أو الأرصدة المالية التي تُنفق من أجل ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: تصريحات ماكرون تفتح جرح الماضي بين فرنسا والجزائر

مردودية متواضعة

تحصي وزارة الفلاحة والتنمية الريفية الجزائرية، أكثر من 600 ألف مستثمرة تنشط في مجال زراعة الحبوب وإنتاجها، لتشغل بذلك مساحة 3.5 مليون هكتار، وهو ما يمثل 41 في المائة من المساحة الإجمالية الصالحة للزراعة في البلاد.

لكن ثمار هذه الإمكانيات، تظلّ إلى غاية اليوم دون التطلّعات المرجوة، فقد أشار وزير الفلاحة الحالي شريف عماري، إلى أن البلاد لم تجن سوى ما مقداره 41 مليون قنطار سنويًا خلال الفترة الممتدّة من 2013 إلى 2018.

يتفاوت الإنتاج السنوي بين موسم فلاحي وآخر، فقد بلغ إنتاج البلاد العام الماضي 60 مليون قنطار، ولكنّه بقي مرتبطا بكمية التساقط التي تعرفها البلاد، الأمر الذي جعل الجهات المختصّة تتوقع محصولًا أكبر هذا الموسم بالنظر إلى كميّة الأمطار المتهاطلة.

من جهتهم، يعتقد خبراء الفلاحة أنّ المراهنة على كميّة الأمطار لن يُمكّن البلاد من تحقيق الاكتفاء الذاتي، لذلك يدعون إلى توسيع المساحات المسقية المخصّصة لزراعة الحبوب، خاصّة بعد نجاح التجارب في بعض المناطق الصحراوية التي تتوفّر على كميات هائلة من المياه الجوفية، يمكن استعمالها في عملية السقي، إضافة إلى المراهنة على تطوير عملية تطهير المياه المستعملة لاستغلالها هي الأخرى في السقي الزراعي خاصّة لشعبة الحبوب.

تبعية للخارج

رغم التفاؤل بأن يكون الإنتاج الوطني من الحبوب هذا العام معتبرًا، إلا أن وزير الفلاحة لم يتردّد في القول إنه سيتحتّم على الجزائر هذه السنة أيضًا "اللجوء إلى الاستيراد خاصة بالنسبة للقمح الليّن الذي نستورد منه كميات معتبرة ومتزايدة".

تظلّ واردات الجزائر من الحبوب التي تصنف من قبل بعض التقارير الاقتصادية على أنها أكبر مستورد للقمح في العالم تنهك الخزينة العمومية للبلاد، فقد وصلت قيمتها السنة الماضية إلى 3.1 مليار دولار، والتي تشكّل 33 بالمائة من واردات المواد الغذائية.

تُظهر إحصاءات الجمارك، للشهور الأربعة الأولى من سنة 2019، أن الواردات بلغت 33. 921 مليون دولار مقابل 163. 1 مليار دولار في الفترة ذاتها من السنة الماضية 2018، أيّ بانخفاض مهمّ قدر 20.81 في المائة، إلا أنه يبقى غير كاف لتقليص فاتورة استيراد الحبوب الباهضة.

طرح الديوان الوطني للحبوب مؤخرًا، مناقصة دولية لشراء 50 ألف طن من القمح والتي أغلقت يوم الثلاثاء 30 جويلية/ حزيران الجاري، وستشحن هذه الكمية على فترتين من 1 إلى 15 سبتمبر/أيلول المقبل، ومن 16 إلى 30 من الشهر نفسه.

مازال القمح الفرنسي، يتصدّر قائمة الإستيراد الجزائري، رغم محاولة الحكومة تنويع مصادر وارداتها، للتخلّص من تبعيتها لباريس، إلا أنّ هذه المحاولات كانت تصطدم بعراقيل بيروقراطية وسياسية واقتصادية، إذ لم تُفلح المفاوضات التي خاضها الطرف الجزائري مع روسيا لاستيراد القمح حتى الآن.

تورّط مطاحن الحبوب

لا يتوقّف عدم تحقيق وفرة إنتاج الحبوب، في تعميق أزمة الجزائر في مجال الأمن الغذائي فحسب، فسوء التسيير الذي ينخر المؤسّسات الموكلة لها إدارة هذا القطاع زاد من حجم المشكلة.

في 10 جويلية/ تمّوز الماضي، عرض وزير المالية في اجتماع للحكومة نتائج فوج عمل يشرف عليه مكلف بدراسة الفاتورة المرتفعة لشعبة القمح، والتي كشفت عن تجاوزات بعض المطاحن، تتعلّق بالتصريح بقدراتها الإنتاجية الفعلية وتضخيم الفواتير للاستفادة غير القانونية من حصص إضافية من مادّة القمح اللين المدعّمة.

وتقرّر بعد العرض الذي قُدم للحكومة، الغلق الفوري لـ 45 مطحنة تم إثبات مخالفتها للقوانين المعمول بها، لاسيما تضخيم الفواتير والتصريح الكاذب، وإقرار متابعات قضائية بخصوص باقي المطاحن التي قدمت تصاريح كاذبة فيما يخصّ قدراتها الإنتاجية الفعلية، وهذا بعد الانتهاء من عملية التدقيق الشامل.

على إثر عذه التحقيقات التي تزامنت مع الحراك الشعبي، تمّ توقيف المدير العام للديوان الوطني المهني للحبوب، وهو الهيئة الحكومية المكلّفة بمتابعة مخزون البلاد من القمح ومختلف أنواع الحبوب، بتهم متعلّقة بالفساد.

في هذا السياق، لا تزال وزارات الفلاحة والتجارة والصناعة تواصل عملية التدقيق بخصوص 333 مطحنة في الجزائر، حول معايير احترامها لقدراتها الإنتاجية وعدم الوقوع في جرم التصريح الكاذب وتضخيم الفواتير.

القمح المدّعم يجلب الأطماع

بسبب الدعم الذي تقدّمه الدولة لأصحاب المطاحن والمخابز من منتوج القمح اللين المستعمل في صناعة الخبز، يعمد بعض النشطين في هذا المجال إلى استهلاكه خارج الإطار المحدّد قانونًا مستفيدين من سعره المدّعم، إذ يستعمل كأعلاف للمواشي نظرًا لانخفاض أسعاره المقتطعة من أموال الدعم، الأمر الذي جعل الكثيرين يطالبون السلطات بإعادة النظر في سياسة الدعم العمومي، والعمل على الدعم المباشر للفئات التي تستوفي شروط الدعم بدل دعم المقاولين أصحاب المطاحن.

في مايو/ أيار الماضي، حجزت مصالح الدرك الوطني الجزائري بولاية الجلفة  جنوب العاصمة الجزائر قرابة 760 قنطارًا من القمح اللين، كان موجهًا لغير وجهته المحدّدة قانونًا، وهي الاستهلاك البشري.

 اهتمام الحكومة الحالية بملف الحبوب والأمن الغذائي في الوقت الحالي، لا يتوقّف عند الجانب الاقتصادي، بل يخفي وراءه تخوّفات سياسية واجتماعية جمّة، إذ مازالت الذاكرة الشعبية تحتفظ بتجربة سيئة في التسعينات، عرفت ندرة في دقيق القمح وارتفاع أسعاره إلى مستويات قياسية، وهي الفترة التي تزامنت مع توقيف المسار الانتخابي والدخول في عشرية الدم والحرب الأهلية.

اللوبيات المالية في الجزائر كانت تستعمل الأمن الغذائي ورقة ضغط على السلطة 

يبدو أن السلطة الحالية، ترى في أزمة رغيف العيش التي عاشتها مصر بعد ثورة 25 جانفي/ يناير، نموذجًا آخر عن ارتباط أزمات الأمن الغذائي بالأزمات السياسية، إذ كانت تستعمل اللوبيات المالية في البلاد هذه الورقة، لتحريك الشارع وممارسة الضغط على السلطة، وهو ما جعلها اليوم تقطع الطريق أمامهم وتستبق الأحداث لتتفادى تكرار التجارب السابقة، في بلد ما زال يبحث عن مخرج سياسي لأزمة تكاد تبلغ شهرها السادس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يريد الجزائريون عودة فرنسا؟

هل "تتواطأ" الجزائر مع مهاجريها في فرنسا كي لا يعودوا؟