16-أكتوبر-2021

المناضلة الجزائرية جيلبرت شمويلي (الصورة: ألجيري 24)

رحلت المناضلة اليسارية الجزائرية جيلبرت شمويلي، زوجة المناضل الجزائري من أصل يهودي ويليام سبورتيس نهاية شهر آب/أوت الماضي، بعد صراع طويل ومُنهِكٍ مع المرض والشيخوخة حسب شهادة ابن زوجها، الكاتب ميشال سبورتيس، أيامًا قليلة قبل عيدها الـ 104، في أحد المستشفيات الباريسية.

عاشت جيلبرت رفقة زوجها ويليام في الجزائر إلى غاية سنة 1994 وغادرا الوطن بعد عدة تهديدات بالقتل من طرف الجماعات المتشدّدة خلال العشرية السوداء

 تمرّ أخبار كثير المناضلين الذين ساهموا في صناعة وكتابة تاريخ الكفاح السياسي والنضال في الجزائر، ممن  ينتمون جنسيات أخرى في الغالب، بشكلٍ هادئ دون الإشارة إليهم أو تخليد ذكراهم من طرف السلطات الرسمية ووسائل الإعلام الوطنية، لتبقى الذاكرة الوطنية منقوصةً من عشرات الشخصيات التي أثرت التاريخ النضالي.

اقرأ/ي أيضًا: إلين مختفي.. مناضلة أميركية في ثورة التحرير الجزائرية

أصول مختلطة

تعد جيلبرت شمويلي واحدةً من أبرز مناضلات اليسار الشيوعي المناهض للاستعمار، ومن بين اللواتي دعمن النضال في الجزائر بداية من سنة 1938، كما كانت واحدة من أهمّ النساء اللواتي انتمين إلى الحركة العُمَّالية والحزب الشيوعي الجزائري، حيث عانت من التعذيب في السجون طويلًا تحت حكم فرنسا الفيشية والشرطة الاستعمارية.

ولدت شمويلي سنة 1917 في حي باب الواد العتيق بالعاصمة الجزائرية، من والدٍ يهودي وأمٍّ مسيحية، وهو الزواج المختلط الذي صنع هذه المرأة التي دافعت كثيرًا عن جزائر متعددة الأعراق، وهو أيضًا ما جعل عائلة الوالد اليهودية تلوم ابنها لزواجه من امرأة "أجنبية" من غير ديانته.

 ترك والد جيلبرت العائلة وحيدةً، عندما كانت ابنته طفلة بغية المشاركة في الحرب، وغابت أخباره منذ ذلك الحين، حيثُ لم يعد قطُّ بعدها إلى الوطن.

 التحقت الشابة العشرينية بالحزب الشيوعي الجزائري، وكان ذلك خلال سنة 1938، حيث بدأ مشوارها النضالي، في الوقت الذي عرفت فيه الحركات التحررية الكثير من التضييق والقمع وكان الشارع يشهد غليانًا كبيرًا وتغييرات كثيرة في الوعي الشعبي مع اقتراب الحرب العالمية الثانية.

زيجاتٌ النضال

خاضت المناضلة اليسارية معركة كبيرة ضد النازية والفاشية، ومن ثم واصلت مشوارها بشجاعة ضد القوى الاستعمارية، وخلال رحلتها هذه، عرفت جيلبرت شمويلي ثلاثة زيجاتٍ من ثلاث مناضلين متقاربين في الميولات السياسية والفكر التحرري.

لم تكن علاقتها الأولى متداولة كثيرًا في المؤلفات القليلة التي تناولت سيرتها، إذ ربطتها علاقة حب بشاب شيوعي من أصل يهودي، كانا يحملان الأفكار والأحلام نفسها، واستمرت هذه العلاقة حتى بعد دخولها إلى سجن "ميزون كاري" حيث حكم عليها بسنتين.

بعد خروجها تزوجت من هذا الشاب الذي انتظرها، وعاشا معًا لفترة، ثم تجند في جيش شمال أفريقيا كما هو متداول، وارتحل بين تونس وإيطاليا وفرنسا محاربًا، لكن الانفصال تم بينهما بعد عودته.

بعد ذلك، تعرفت جيلبرت على المناضل طالب بوعلي الذي ينحدر من مدينة الشلف "الأصنام" سابقًا، وتم زواجهما سنة 1945 بعد عودتها إلى نشاطها النضالي.

كان طالب بوعلي زعيمًا لحركة الشباب الديمقراطي، وفي سنة 1946، أصبح عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري، وسكرتيرًا للتنظيم في العاصمة الجزائرية، في حين كانت جيلبرت تشغل منصب سكرتيرة إدارية في جريدة "آلجي ريبيبليكان".

اشتغل الزوج في عدة مناصب، وبرز نقابيًا ومارس مهنة السباكة، وكافح رفقة زوجته من أجل أن يتحقق حلم الجزائر المستقلة المتعددة.

انضم طالب بوعلي إلى جيش التحرير، وسرعان ما استشهد خلال معركة في الجبل سنة 1957، كما تم القبض على جيلبرت بعدها مباشرة ورُحّلت إلى باريس حيث مكثت إلى غاية الاستقلال، وكُلفت بعدها بالذهاب إلى براغ رفقة الوفد الأجنبي للحزب الشيوعي الجزائري في عمله الدولي الداعم لحرب التحرير في الجزائر. أما زواجها الثالث فكان من زوجها المناضل اليهودي ويليام سبورتيس الذي قضت بقية حياتها معه.

العودة إلى الوطن

عادت جيلبرت إلى الجزائر بعد الاستقلال، واستعادت منصبها في جريدة "آلجي ريبيبليكان"، كما تحصلت على الجنسية الجزائرية سنة 1964، وكانت من القلة الجزائريين المناضلين من أصل أوروبي ممن نجحوا في الحصول عليها، كما عاشت مع زوجها ويليام سبورتيس، سليل عائلة يهودية مناضلة أشهرهم لوسيانشقيقه الذي اغتيل من طرف الجيستابو، وكان يشغل منصب السكرتير العام للجريدة نفسها، حيث أحبا بعضهما وتزوجا، ومع ذلك لم يحصل ويليام على الجنسية الجزائرية إلا بعد 12 سنة من الاستقلال.

سُجن ويليام وزوجته جيلبرت بعد محاولة الانقلاب على الرئيس الراحل هواري بومدين سنة 1967 لانتمائهما إلى حزب الطليعة الاشتراكي، وكانا من بين الذين تعرّضوا للتعذيب، وبعد خروجها من السجن، عملت المناضلة سكرتيرة في صندوق الضمان الاجتماعي واستمر نشاطها النضالي من خلال حزب الطليعة الاشتراكي السري الذي كان امتدادًا للحزب الشيوعي الجزائري المحظور، وبعد حل الحزب التحقت بالحزب الجزائري للديمقراطية والاشتراكية (حزب الشيوعيين الجزائريين).

عاشت جيلبيرت رفقة ويليام في الجزائر إلى غاية سنة 1994، حيث غادرا الوطن بعد عدة تهديدات بالقتل من طرف الجماعات المتشدّدة خلال العشرية السوداء، وانتقل المناضلان للعيش في مدينة أوبيرفيليي، ضواحي شمال باريس الفرنسية.

جيلبرت الرقيقة الجبارة

من خلال الاطلاع على كتاب " "المغامرة الكبيرة لآلجي ريبيبليكان" والذي كتبه بوعلام خلفة، هنري علاق، وعبد الحميد بن زين، كانت هنالك فقرة تحدثت عن شخص المناضلة جيلبيرت شمويلي جاء فيها: "في قاعة التحرير، كانت شخصًا نحيلًا، كانت كتومة ولا تكلّ أبدًا، لكنها لا تفتقد للابتسامة أيضًا. شغلت (جيلبرت شمويلي)  منصب سكرتيرة إدارية، لكنها في الحقيقة كانت أكثر من ذلك بكثير، لقد كانت مناضلة يسارية حتى قبل الحرب العالمية، وقد عانت من التعذيب في السجون الفيشية، وبعدها، وخلال الحرب التحريرية، واجهت ألم فقدان زوجها ورفيقها في النضال طالب بوعلي الذي توفي في الجبال".

وصف المناضل هنري علاق جيلبيرت في كتابه "مُعَذَّبو الحرّاش" على أنها "مثالٌ للبَسالة"، "لقد كانت جد هشة، جِد واضحة، جد بسيطة أيضًا في طيبتها المطلقة وإخلاصها، كانت حياتُها في مجملها، (مثلما كانت حياة زوجها بوعلي طالب الذي قُتِل في الجبل خلال حرب التحرير الوطني) صنيعةَ الألم والتضحية". 

يضيف المؤلّف: "إنها متواضعة جدًا، لدرجة أنها لم تدرك بطولاتها حينما كانت تشرح أسباب محاولتها الفرار عند إلقاء القبض عليها، قالت إنها كانت مرتعبة من أنها قد لا تحتمل التعذيب، وكانت تتمنى أن يتم إطلاق النار عليها لحظة الهروب".

من جهته، قال السياسي صادق هجرس في رثاء الفقيدة: "إذا ما ألقت ثغراتٌ خطيرة عدائية وإمبريالية بظلالها على البيئة العالمية، فإن السنوات الأخيرة من حياة جيلبيرت قد أشرقت بتطوراتٍ تعارضت مع ثرثرة أنبياء الليبرالية الجديدة" وأضاف هجرس أن "كفاحات جيلبيرت وغيرها من الملايين لم تذهب سدى، لأنها سقت جذور عالم أفضل ما يزال في طور البناء عبر الآلام والتحديات".

جيلبرت.. الأم الثانية

في حديث عن الراحلة جيلبرت شمويلي سبورتيس، قال الكاتب ميشال سبورتيس ابن المناضل ويليام في مقال له عقب وفاتها، إن هذه السيدة كانت الزوجة الثانية لوالده بعد أمه مارسيل ريسبولي التي أنجبته رفقة أخيه التوأم في بودابست في هنغاريا سنة 1954، وقد تزوجته بعد قصة حب بينهما أثناء عملهما معًا في جريدة "ألجي ريبيبليكان".

 عبر ميشال عن احترامه الشديد لمسار جيلبيرت كمناضلة وكزوجة أب، رغم ما كان يحصل من اختلاف للأفكار بينه وبين الزوجين، وأكد أنها كانت دائمًا بمثابة أم ثانية له ولشقيقه التوأم كلود، وأنها كانت جد متفهمة لوضعهما الحساس بصفتهما يهوديان في الجزائر قبل وبعد الاستقلال، بحكم أنهما عاشا مشتتين بين ثقافتين مختلفتين وحبيسي الخيار الصعب.

عبر ميشال أيضًا عن امتنانه لوجود جيلبرت في الوقت الذي كان يشعر فيه بأن معظم شبابه كان بمثابة "ورطة"، حيث ضاع في التساؤل عما إذا كان جزائريًا أو فرنسيًا، فقد كان حسب ما قال، ذا طبع شرقي وثقافة غربية، ورغم حبه واشتياقه للجزائر، فضل العيش في فرنسا.

يعترف ميشال بأن حب جيلبرت في قلبه كان كبيرًا حيث كانت بمثابة أمٍ ثانية له 

في هذا السياق، يعترف ميشال بأن حب جيلبرت في قلبه كان كبيرًا حيث كانت بمثابة أمِ ثانية له، وأنه هو وشقيقه كلود عملا جاهدين على عدم تخييب أملها وأمل والده الذي كان يصر عليهما بأن يبقيا على صلة بوالدتهما البيولوجية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رحيل محامية الثورة التحريرية الجزائرية جيزيل حليمي

إيزابيل إيبرهارت في الذكرى 115.. المتمرّدة الهائمة في صحراء الجزائر