22-يونيو-2019

المفكّر الجزائري محمد أركون، متخصّص في الدراسات الإسلامية المعاصرة (محمد تاعب)

قبل أن يتخصّص محمّد أركون في تاريخ الأفكار وتحديدًا في نقد العقل الإسلامي، كان اهتمامه الأوّل هو دراسة الممارسات الدينية الشعبية في منطقة القبائل، إلاّ أنّ ظروف الحرب التحريرية، حالت دون أن يحقّق هذا المشروع، بسبب صعوبة التنقّل إلى الجزائر ما بين عامي 1956 و1957.

تكمن أهميّة فكر ابن مسكويه في نظر أركون، في أنّه أحد الفلاسفة المسلمين الذين طرحوا فكرة الأخلاق خارج السياق الديني

بعدها، اضطر أركون الشاب إلى تغيير موضوع الرسالة، فوقع اختياره على كتابات فيلسوف فارسي عاش في القرن العاشر للميلاد يدعى ابن مسكويه، صاحب كتاب "رسالة في تهذيب الأخلاق"، وبعد قراءته للكتاب انتبه إلى وجود حركة إنسانوية في الحضارة الإسلامية، تطوّرت في القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، قبل أن تأفل تحت سلطة الفقهاء.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "هالوسين" لإسماعيل مهنانة.. كتابة الكارثة

وتكمن أهميّة فكر ابن مسكويه في نظر أركون، في أنّه أحد الفلاسفة المسلمين الذين طرحوا فكرة الأخلاق خارج السياق الديني، والذي كان متأثّرا بالفلسفة اليونانية.

لقد أدرك أركون، مبكّرا، بأنّ (الأخلاقَ كموضوع للعلم والبحث الحرّ المستقلّ شيءٌ غير موجود في الفكر الإسلامي). وهي مشكلة استمرّت إلى غاية العصور الحديثة، بسبب تحالف السلطة السياسية بالسلطة الدينية.

هذا الأمر الذي أعاق محاولات تجديد العقل العربي والإسلامي، فـ (لا ريب أنّ هذه الخدمة الطويلة قد حوّلت الإسلام من دين للفطرة السليمة إلى صانع مماحك للإيديولوجيات المتعاقبة وصولًا إلى الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، حيث يتمّ تحويل رأس المال الرمزي نحو خدمة تأويلية للمصالح السياسية المتعاقبة أفرادًا وجماعات، ممّا يؤدي إلى بسط مسألة الضرر الذي تلحقه السياسة بتجربة الروح التي يتعهّد بإصلاحها دين الفطرة السليمة، إذ تحوّلها السياسة إلى حال من الجذب غير المجدي).(04)

لقد جاء مشروع محمد أركون لأجل أن يخلّص الدين من الأسيجة الإيديولوجية، ويجدّد أدوات قراءته وفق منظور علمي موضوعي. ذلك أنّ ما حدث داخل المجتمعات العربية الحديثة هو انقلاب في أطر الاجتماع المعرفي، والحد من حركة الإبداع.

إنّ واقع المجتمعات الإسلامية الممزّق إلى فرق دينية ومذاهب متناحرة، سببه أنّ الدين تحوّل إلى كتلة جامدة ومعوِّقة لأيّة حركة تحديثية للأفراد وللمجتمع، فتحوّل إلى أداة للصراع لأجل المصالح السياسية، وقد أشار أركون إلى ظاهرة خطيرة وهي أنّ كلّ حركة دينية تعتبر نفسها المالكة الشرعية للحقيقة/ النص.

كيف يُمكن إذا تحرير الفهم إذا كان أي تراث ديني يفرض على البشر حقيقة مطلقة لا يمكن تجاوزها؟ وهل الانغلاق هو من جوهر النصّ، أم هو ناجم عن محدودية أفق القراءات البشرية؟ في هذا السياق (يمثّل مشروع أركون الفكري تشخيصًا للازمة وتحليلًا للصدمة، ودعوة ملحّة للإسراع في الخلخلة واستحداث منظومة فكرية نقدية، تمكن من اجتياز العتبة والالتحاق بالحداثة. على الرغم من مواقف الشجب والجذب، التي حفّت التصوّرات المؤسّسة لفسيفساء العقل الإسلامي المعاصر حول هذا المشروع، إلا أن اللحظة الأركونية تبدو ضرورية لاستيقاظ العقل واستفاقته، ومن ثم مواجهة الحقيقة ومصارحة الذات، ثم يتمّ الولوج إلى لحظات أخرى).(05)

من بين الأسئلة الكبرى التي طرحها محمد أركون هي: في أيّ ظروف انبثقت وتطوّرت الأنسنية العربية والإسلامية في القرنين العاشر والحادي عشر ميلادي؟ ثمّ في أي ظروف أفلت؟

لم يتوان أركون عن وصف انهيار العقل الإسلامي بصفته حدثًا تراجيديًا، كان أبطالها الفقهاء الذين استولوا على النصّ المقدس، وتحوّلوا إلى الناطقين الرسميين باسم الإله، ثمّ تحوّلوا إلى أدوات في يد السلطان.

لقد اعتبر أركون توقف الاجتهاد فعلًا يعكس إرادة سياسية تهدف إلى احتكار المقدّس والحقيقة، فهو يقول: (الواقع أنّ العلماء من رجال الدين كانوا يعكسون التطلّبات الأيديولوجية لطبقة معيّنة وفئة معيّنة أكثر مما كانوا يفرضون عن طريق هيبتهم الفكرية الصرفة توجهًا عامًا للفكر).(06)

لقد فقد العقل الإسلامي مسؤوليته المعرفية، وأصبح عاطلًا عن التفكير والتجديد والنهضة والإصلاح، واستمرّ الوضع إلى غاية اليوم، حيث أدّى تعطل العقل الإسلامي إلى فشل كل محاولات تحديث المجتمعات العربية والإسلامية، بل إنّ المشروع الوحيد الذي نجح هو مشروع خلق مجتمعات فصامية، غارقة في صراعات دينية، ولّدت الإرهاب الداخلي، وأفشت روح الكراهية (كراهية الحياة/ كراهية الذات/ كراهية الآخر).

أمام هذا الوضع، واجه مشروع محمد أركون الكثير من التحدّيات، من بينها استحداث جهاز مفاهيمي واصطلاحي جديد لأجل قراءة التراث الإسلامي قراءة جديدة، فلكل عصر أدواته في القراءة، كما أنّ لكل عصر لغته التي يتواصل وينتج بها معارفه، فلا يُعقل أن يتواصل العقل الحديث مع حاضره بلغة قديمة تنتمي إلى عصور بعيدة.

أمّا التحدّي الثاني فهو إمكانية إعادة بعث روح النزعة الأنسنية الإسلامية التي انبثقت في القرنين العاشر والحادي عشر، والتي جسدها فلاسفة وأدباء مسلمون، تشبّعوا بروح المسؤولية المعرفية والفلسفية، أمثال: أبي حنيفة، الشافعي، التوحيدي، ابن مسكويه، الرازي، الجاحظ، ابن رشد، الشاطبي...إلخ.

 لن تكون المهمّة سهلة أمام الحصار الذي ضربته المؤسّسة الفقهية على الفكر، الأمر الذي يدفع بالباحث إلى التحلّي بالشجاعة لمواجهة الأخطار التي تحدق به؛ فما زالت الأرثذوكسية الدينية تفرض منطقها بحدّ السيف (لكأنّ التاريخ يمشي بالمقلوب! وهكذا راحت الثورة الإسلامية تنشط من جديد، وعن طريق الرعب والإرهاب. مشروعية سياسية وقانونية وأخلاقية عتيقة لم تحظ بأيّ تجديد منذ زمن بعيد. في الواقع لم تحظ بأي مراجعة نقدية أو تنقيح منذ ظهور كتاب "السياسة الشرعية " لـ ابن تيمية أو "مقاصد الشريعة " لـ الشاطبي أو حتى كتاب "بداية المجتهد" لـ ابن رشد).(07)

أركون والتأريخ للأفكار

أين موضَع محمد أركون نفسه معرفيًا؟ هل هو ناقد للخطاب الديني؟ أم هو مفسّر ومؤوّل للتراث الإسلامي؟ في أحد مؤلفاته الكثيرة، اعتبر نفسه مؤرّخا للأفكار، لهذا فإنّ التاريخ هو اللفظة المفتاحية لكامل مشروعه الفكري، ويهدف مشروعه إلى تعديل طريقة دراسة الفكر الإسلامي.

لم يكن اختياره للفظة التاريخ اعتباطًا، بل إنّه كشف من خلالها عن استراتيجية معرفية في دراسة العقل الإسلامي وفي نقده له نقدًا تاريخيًا، متجاوزًا القراءات الأصولية من جهة، والقراءات الاستشراقية من جهة أخرى.

إنّ مقاربة الظاهرة الدينية من خلال المقاربة التاريخية سيفتح عين الباحث على المناطق غير المطروقة في التراث الإسلامي، وقد حدّدها أركون في ثلاث محاور أساسية: المنسي، المتنكّر واللامفكّر فيه.(08).

نفهم بأنّ هناك مسائل كثيرة أهملها البحث تتّصل بالمعيش اليومي، وبالظواهر غير المكتوبة، مثل الطقوس الدينية، أضف إليها الكتابات التي أهملت بسبب اختلافها في القراءة والطرح، والتي تصدت لها السلطة الأرثذوكسية، بالإضافة إلى الأنظمة غير اللغوية التي لم تحظ بالدراسة، مثل الشعائر، تنظيم المكان، وتنظيم المدن، فنّ العمارة، فن الرسم، الأثاث والملابس، بنى القرابة، والبنى الاجتماعية.(09)

من أجل مقاربة علمانية للظاهرة الدينية

لقد تجاوز أركون المعنى التقليدي للعلمانية الذي هو الفصل الدين عن الدولة، بل اعتبرها بالدرجة الأولى مسؤولية معرفية، وفضاؤها الطبيعي هو المدرسة. كان يحب أن يصف نفسه بالمعلّم العلماني الذي قضى جلّ حياته في تجسيد قيم العلمانية، ويتحدّد موقفه من العلمانية في نقطتين:

أولًا، العلمانية مسؤولية معرفية، لأنّ رهانها الحقيقي هو إشكالية المعرفة: كيف نبني معرفة موضوعية وصحيحة عن الواقع الذي ننتمي إليه؟ وهل يمكن بناء معرفة موضوعية عن الدين؟ من هنا فإنّ العلمانية هي حالة توتّر بين رؤيتين: رؤية علمية تتوخّى الموضوعية العلمية في صياغة نظرية حول العالم والإنسان، ورؤية اجتماعية لأنّ الظاهرة الدينية تنتمي إلى الفضاء الاجتماعي، وهي جزء من المخيال الاجتماعي الذي تصنعه الجماعات عن نفسها، وبين الرؤيتين شرخ تزداد هوّته اتساعًا، لهذا يؤكّد أركون أنّه لا يوجد باحث واحد بإمكانه تقديم دراسة علمية وموضوعية حول الدين دون أن يجد نفسه في مواجهة المخيالات الاجتماعية.

ثانيا، العلمانية إشكالية تعليمية، فضاؤها الأساسي هو المدرسة والبرامج التعليمية. (كيف يمكن بناء مدرسة علمانية ؟)

إنّ العلمانية، كما طرحها أركون (هي المنهاج الجديد لقراءة التراث، وتجاوز الرؤى الكلاسيكية المقدّسة والتبجيلية، وهو من خلالها يتنزّل منزلة وسطية بين التغلغل داخل التراث الفكري الإسلامي القديم، وتزكيته بمنجزات الحداثة الغربية ).(10)

دعوة  أركون إلى الاعتماد على العلمانية كموقف فكري لدراسة تراثنا الإسلامي، ستفيد حتمًا في كسر هالة الافتخار والتعظيم

ويضيف الباحث محمد بكاي (ودعوة أركون إلى الاعتماد على العلمانية كموقف فكري لدراسة تراثنا الإسلامي، من خلال قراءته قراءات جديدة عميقة ومتحرّرة، ستفيد حتمًا في كسر هالة الافتخار والتمجيد والتعظيم، وستكسبنا الخبرة المعرفية والعدّة العلمية لقراءته قراءة تليق بسياق ووضع المسلمين الراهن، الذي سادته التصوّرات التقليدية والتفسيرات الكلاسيكية وما يلفّها من جمود وسكون، وهو ما يجعلها اليوم خارج مجالي القوانين المعرفية السائدة والأنساق الفكرية). (11)

 

اقرأ/ي أيضًا: 

شجاعة النقد.. أمين الزاوي يضرم النيران في الجنّة!

التفكير في التوقيت الخطأ.. ماذا لو أفتى علماني؟!

إحالات البحث:

1. من بين فروع المعرفة التي تأثّر بها أركون، نذكر الأنثروبولوجيا، فأهمية العمل الميداني يُمكّن للباحث من الاقتراب من الظاهرة الدينية ضمن فضائها الاجتماعي الشعبي البسيط، خاصة وأنّ الممارسة الدينية في المناطق الريفية البسيطة تتميز ببساطتها. وسبب هذا الاهتمام يعود إلى أنّ الممارسة الدينية تتعرّض للتشوهات بسبب التيارات الدينية الدخيلة التي أتت من المشرق، ومن جهة أخرى بسبب إيديولوجيا الدين الرسمي للدولة.

2. بين عامي 1953 و 1954 أنجز أركون مذكرة بعنوان ( الجانب الإصلاحي من أعمال طه حسين)، وقد اعتبر أنّ هذا الأخير من بين أوّل ضحايا الحركات الإسلامية الأصولية، لاسيما بعد صدور كتابه عن الشعر.