26-يوليو-2021

(الصورة: بلال بن سالم/ Getty)

لا يمكن لشخص أن يخلِف شخصًا آخر، أو ينوب عنه في وجع من نوع الإصابة بفيروس كورونا، ولا حتى في تحمّل تداعيات هذه الأزمة الصحية التي صنعت واقعًا جديدًا في الحياة اليومية، كما لا يمكن لأي كان أن يعيش ألم الآخر، ولا يمكِن لفرحة أن تُزيح حزن من الطريق إلا إذا كانت ممزوجة بالتقبّل والتسليم، ولا يمكن للغريب أن يعيش لحظة فرحة وهو بعيد عن ألفة البيت والعائلة، ولا يمكن أيضًا أن تُعيد الحياة شريط سنوات عاشها الملايين قبل أن يجتاح فيروس مجهري جهاز العالم الصحّي، وحدها الظّروف تصنع الحلول المؤقتة والبعيدة المدى وربما تجعل من الإنسان مشاهدًا رغم أنفه لفيلم لم تنته حلقاته بعد.

قصصٌ لا يمكن لأي كاتب بارع أن يعدّ سيناريو يلائمها، أو يُخرجها في ورق أبيض، بل تفرض نفسها لأن تكون حقيقة لن يصدّقها إلا من عاشها 

خلال أيام الحجر الصحّي في إحدى فنادق مدينة الصخر العتيق قسنطينة، شرق العاصمة الجزائرية، يُمكن التعرّف عن قرب عن حالة البُعد التي فرضتها خطورة فيروس  كورونا، غريبة هي تلك المشاهد بل هي مفارقات الوضع الصحي، إذ باعد بين الأقارب وقرَّب بين الغرباء في مِحنة  الوباء، وباعد بين المسافات، وقرّب من الاحتكاك اليومي لغرباء المنشأ والولاية والمنطقة، عبر حكاياتهم معه، وعرّفهم عن ظروف بعضهم البعض خارج البلد، ونقاشات تجاوزت حدود ماهو متعارف عليه في اللّقاءات العابرة والمؤقتة بحكم السفر الذي أسفر عن حقيقة واحدة: "كلّنا في الغربة بهمّ واحد".

اقرأ/ي أيضًا: وصول الدفعة الأولى من مكثفات الأكسجين إلى الجزائر

في هذه الفرصة التي لا يُمكن أن نحصل عليها إلا في فترات المحنة وربما والخيارات الصعبة أيضًا، فرصة أن نلتقي بأشخاص ربما مرّت السنوات ولم نلتقيهم، يبحث كل واحد منهم عن إفادة الآخر بمستجدات الوضع، والسؤال عن أحواله، وعن ظروف الوصول إلى الجزائر، في تلك اللّحظات أثناء انتظار انطلاق التسجيل قبل إقلاع الطائرة، وأثناء الوصول وانتظار لحاق حزمة الحقائب، وتسجيل الوثائق الشخصية وبعدها حجز جوازات السّفر لغاية إتمام إجراءات الحجر الصحّي وانقضاء مدّته الإلزامية، ساعات ثمينة لمن يعرف اقتناصها، فكلّ قصّة تنسي سابقتها، فالوجع والوحشة واحدة، والتعب والضيق والغصّة واحدة أيضًا، رغم اختلاف التفاصيل، تجعل من كل شخص يستسلم للقدر وللظّرف وللوضع، ويرفع الأيادي تضرعا لله، طلبًا للوصول بخير وبصحة وعافية، ليطمئن كل واحد عن أهله، رغم الأخبار المؤلمة هنا وهناك.

قصصٌ لا يمكن لأي كاتب بارع أن يعدّ سيناريو يلائمها، أو يخرجها في ورق أبيض، بل تفرض نفسها لأن تكون حقيقة لن يصدّقها إلا من عاشها وعايشها وتجرّع مرارة انتظار تذكرة سفر وبأثمان باهظة، فقط لأن : "الوحشة تُعلٍّم الرّضوخ للأمر الواقع".

الرّحلة فترات متتابعة، فائدتها في معابِر الترحال وليس في محطّة الوصول النهائية، لكن هذه المرة وخلال الأزمة كان مسارها  مقسّما على أربعة: حجز التذاكر هي معضلة كبرى للكثيرين خصوصًا لأولئك القادمين من دول لا توّفر الخطوط الجوية الدولية خطّا أو مسارًا مباشرًا نحو الجزائر،  فكان الحل بالنسبة للمغتربين هو اتخاذ تذاكر مزدوجة الاتجاه أو ثلاثية الاتجاه، مِثل القادمين من دول آسيا أو من أمريكا، وحتّى بعض الدّول العربية، إذ كان الحصول على تذكرة واحدة يعادل عشرة تذاكر في الأوضاع العادية.

المال أيضًا عامل ثانٍ وأهم من التّذكرة في حدّ ذاتها، كلّ وظرفه الاقتصادي، فمن يحجز مكانًا للسّفر لعائلة مُشكّلة من خمسة أفراد، عليه أن يفكِّر عدة مرات في قرار العودة للديار والمرور عبر الحجر الصحي في أحد الفنادق، وبعدها يتوجّه برًا نحو محلّ إقامته وهذا مسار آخر للرّحلة التي تكلف غاليًا.

في الأوضاع العادية الرحلة  بين المطارات قِطعة من العذاب، فما بالك في الأوضاع غير الصحية والخطيرة بل المحفوفة بالكثير من المخاطر، فعذابها مليء بالخوف والتوجّس من القادم، وأسئلة حول انتقال عدوى كورونا، في حدّ ذاته أزمة.

الوصول إلى البلد نِعمة من أكبر النّعم، لمن لم يرَ الأهل لأكثر من عامين، ولمن تلقّى أخبار الوفاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي

الوصول إلى البلد نِعمة من أكبر النّعم، لمن لم يرَ الأهل لأكثر من عامين، ولمن تلقّى أخبار الوفاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه في حدّ ذاته موحش وربما قاتل خصوصًا لمن فقَد الأقارب والأحبة والأصدقاء، فيعيش الألم بشكل مضاعف والحزن بشكل قاتم، يشبه إلى حدّ بعيد من يجمع ديونه المتراكِمة، ليدفع حقوقها في لحظة واحدة، وكمن يُمسِك دموع سنتين ليذرِفها في دقائق، ساخنة جدًا جدًا جدًا لا تُبرد نارها إلا بنبرة الخيارات الصعبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 وزير الصناعة الصيدلانية يدعو مصنعي الأكسجين لمضاعفة الإنتاج

معهد باستور: سلالة "دلتا" الهندية تنتشر بنسبة 71 بالمائة في الجزائر