29-يونيو-2019

بطالون يبعيون ممتلكاتهم بالسوق الشعبي في ساحة الشهداء بالعاصمة (تصوير: أساهي شيمبون/Getty)

مازالت ظاهرة الطوابير الطويلة تسود أجواء مسابقات التوظيف في الجزائر، إذ يشارك الآلاف من الشباب البطّال في هذه المسابقات للظفر بمناصب محدودة جدًا، لقاء راتب شهري وتقاعد غير مريح غالبًا، إذ يفضّل هؤلاء منطق الاستقرار، على المغامرة بكل هذا، وإنشاء مشاريع خاصّة تختصر عليهم سنوات من الإرهاق والضغط النفسي.

يشتكي كثير من الموظّفين من عامل الضغوطات النفسية وتأخّر الرواتب وعقود العمل المؤقّتة 

لم تكن الرّحلة بسيطة، ولم يكن إنشاء مؤسّسة خاصّة أمرًا سهلًا، يقول محمد الطاهر بن عبد الرحمان (39 سنة) في حديث إلى " ألترا جزائر"، بعد أن ذاق مرارة انتظار راتبه لعدّة أشهر، متنقّلًا بين ثلاث وظائف في مؤسّسات عمومية، ثم اشتغاله في شركات مقاولاتية تعود ملكيتها للخواص، بدأ حديثه من النهاية مختصرًا تلك المسافة الطويلة التي قضاها ليؤسّس شركة بناء خاصّة، معترفًا أن هذه المؤسّسات هضمت حقوقه بصفته كان موظّفًا متعاقدًا، بعد تخرّجه من الجامعة بشهادة في علوم التسيير من جامعة الجزائر منذ أزيد من أربع عشر سنة، ليجد نفسه لا يستقرّ في عمل أو وظيفة إلا وهو الخاسر الأكبر فيها.

اقرأ/ي أيضًا: إلغاء التقاعد المبكر يقلق عمال الجزائر

أعمال رتيبة

"الوظيفة قاتلة ومجحفة ومستنزفة للجهد والإبداع"، هكذا يصفها الشاب محمد الطاهر، رغم أنه قضى ما يقارب ثلاث سنوات وهو يتنقّل من عمل لآخر في إدارات عمومية مختلفة، أوّلها عندما تخرج من الجامعة فتمكّن من الحصول على عقد ما قبل التشغيل في إحدى البلديات، كانت مهمّته هي الاستجابة لمطالب المواطنين لاستخراج وثائق الحالة المدنية، غير أن عمله كان "رتيبًا" على حدّ قوله.

يصف هذا الشاب الطموح، العمل في مصلحة البلدية بـ "الموت البطيء"، إذ يحتاج إلى الاستيقاظ مبكرًا ومواجهة المشاكل اليومية والإنشغالات نفسها للمواطنين، كلّ هذا يحتاج إلى نفس طويل لأن موظّف البلدية بحاجة إلى احتواء كل الذهنيات على اختلافها يشرح المتحدّث.

"نخدم عند روحي" .. هي جملة يردّدها كثيرون في الجزائر، ويعني بها قائلها أنه صاحب مؤسّسة خاصّة، إذ يُعتبر إنشاء مشروع خاص،  خلاصة تجارب العشرات من الموظفين، الذين كسرت الوظيفة طموحاتهم، وعطلت مسار حياتهم وأحلامهم.

 الهادي زيتوني (43 سنة)، هو أحد الشباب الذين تخلّصوا من تبعية الوظيفة، وخاضوا تجربتهم الخاصّة، يقول لـ "التر جزائر" إنّه خاض تجارب متعدّدة مع شركات خاصّة بغية الحصول على أجرٍ محترم والتعلّم أكثر، فكانت مواجهته صعبة لمحيط العمل، وانتظار الأجرة في آخر الشهر.

يعتبر المتحدّث أن مشكلة التماطل في دفع مستحقّاته المالية، وتوقّف الشركات بسبب متاعب مالية، وإحالة العمّال في كثير من الأحيان إلى البطالة، هو ما جعل كثيرين يؤسّسون مشاريع خاصّة على حدّ تعبيره.

عامل الاستقرار

في مقابل ذلك، يعتبر فريق آخر أن الوظيفة هي عامل ضامن للاستقرار والحصول على أجرة بشكلٍ منتظم، خصوصًا في مجال التعليم والصحّة، علاوة على حصول الموظّف على تقاعد يحفظ كرامته. غير آبهين بالمشاكل الصحية والنفسية المترتّبة عنها.

هنا، تقول سميّة لطرش، الأستاذة في مادّة الأنكليزية بإحدى ثانويات العاصمة، في حديث إلى "الترا جزائر"، إنّها اختارت الدراسة الجامعية في المدرسة الوطنية للأساتذة كي تضمن وظيفة بعد التخرّج، ولكنّها تواجه الآن مخاطر هذه المهنة التي لا تُرى بالعين المجردّة، إذ تتمثّل في القلق والإرهاق النفسي، الناجم عن طبيعة التعامل مع عشرات التلاميذ يوميًا على حدّ تعبيرها.

"الباحثون عن الأجرة الشهرية، صاروا مع مرور سنوات العمل، لا يبحثون عن تطوير قدراتهم ومواهبهم ورفع سقف طموحاتهم، بل أكثر من ذلك، فالطبيب الذي اختار العمل في المستشفى وحتى في مكتب علاج خاص، يستغني عن المشاركة في المؤتمرات الدولية، ولا يحتك بزملاء له في المهنة أو يكتشف آخر ابتكارات الأدوية والعلاجات، إذ كأنه يكتفي باجترار ما تعمله أثناء دروس وتطبيقات الجامعة"، تقول الممارسة الأخصائية في علاج أطفال مرض التوحّد الدكتورة حياة سوامي في حديث إلى "الترا جزائر"، لافتة إلى أن الكثير من الوظائف تحتاج من الموظف إلى رسكلة دورية، وتدريبات متواصلة وهو ما ليس متوفّرًا في آلاف المؤسّسات على حدّ قولها.

الواقع شيء آخر

رغم الطموحات والأحلام للكثير من الناجحين في الجامعات، إلا أن الآلاف من المتخرّجين الجدد يختارون اجتياز اختبارات مسابقات التوظيف في قطاع التربية، إذ بات هذا القطاع جاذبًا لليد العاملة لما فيه من استقرار، في مقابل مخاوف القطاع الخاص الذي يعتبره جمال (32 سنة)، مستنزفًا للطاقة وللجهد وللوقت في مقابل القليل من المال، وبإمكان صاحب المؤسّسة الخاصّة أن يفسخ العقد الذي يربط بالمؤسّسة بجرة قلم، يضيف المتحدّث. 

كرهًا وطواعيةً، يُفتّش كثيرون في الجزائر عن الوظائف القارّة، غير أن مآل الموظّف في الغالب، استنزاف راتبه الشهري في المصاريف اليومية و الإيجار، فغالبية الموظفين تُرهقهم الأقساط السنوية التي يدفعونها للإيجار، خاصّة  وأن طبيعة استئجار السكنات في الجزائر يشترط الدفع المسبق لمدّة لا تقلّ عن سنة كاملة، وهو مبلغ قد يلتهم أكثر من نصف المداخيل السنوية للموظّف البسيط أو ربّما كلّها، فيستعين بالعمل في وظيفة إضافية لتأمين لقمة العيش.

يتطلّب إنشاء مشروع خاص التضحية بالاستقرار المهني والمغامرة بمنحة التقاعد التي يتحصّل عليها الموظّف كمكافأة نهاية الخدمة

الوظيفة في القطاع العمومي والعمل في الخاصّ خطّان متوازيان، كلاهما يضع المقابل المادي "الأجرة الشهرية" كمؤشّر للميزان، غير أن كثيرين يرجّحون كفّة العمل المستقرّ وضمان قوت الأبناء، وهو ما يحفظ في اعتقادهم كرامتهم، ضاربين عرض الحائط بالأحلام والطموحات، بينما قطاع واسع من الناس يرون في تحقيق الطموح والمكسب المالي الأكبر هو ما توفّره المشاريع الخاصة، إذ تتطلّب التضحية بالاستقرار المهني والمغامرة بمنحة التقاعد التي يتحصّل عليها الموظّف كمكافأة نهاية الخدمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرئيس الجزائري يفصل في قانون التقاعد

مسيرة الكرامة.. كفاح أساتذة الجزائر المتعاقدين