01-فبراير-2025
محل الأنتيكا لعلي بوحادي (الصورة: الترا جزائر)

محل الأنتيكا لعلي بوحادي (الصورة: الترا جزائر)

لم يكن علي بوحادي، البالغُ من العمر 47 سنة، بعد تنقّله من تيزي وزو للعيش في حي الحراش بالعاصمة الجزائر، يتصوّر يومًا أن يقوده شغفه بجمع الأشياء القديمة إلى أن يصبح تاجرَ أنتيكا في سوق غرداية العريق؛ حيث افتتح محلًّا أصبح مقصدًا للسياح المحليين والزوار الأجانب، ويُطلق عليه "مغارة علي بابا".

أحد الأطباء كانت له قصة غريبة مع هذا المحل، قادمة من عوالم هاري بوتر السحرية، و قد عثر فيه بالصدفة، على صورته داخل زجاجة، معروضة للبيع

بعضُ الزوار يتردّدون على المحلِّ في شبه طقسٍ يوميّ، لا من أجل الشراء، بل للتجوّل في مساحته الصغيرة. يقول أحدهم لـ " الترا جزائر": "صحيحٌ أنّ المحلّ ضيّق، لكنه واسعٌ بموجوداته، ويشتمُّ فيه المرءُ عبقَ الماضي، كما لو أنه ملجأ يبحث فيه الحالمون عن جزءٍ مفقودٍ من أرواحهم".

باب الماضي

يصابُ كلُّ من يلجُ المحلَّ بالدهشة، ويتوقّفُ به الزمن، لا بسبب الساعاتِ الحائطيةِ القديمةِ التي توقفت عقاربها في موانئها، بل بالأدواتِ الكثيرةِ التي يعرضها للبيع، مثل بوابير الغاز، والمنبّهات، والشمعدانات، والقراديش التقليدية، وفوانيس القطارات، وحتى فنارات عربات الخيول، والمثيرُ هو تلك الغسّالاتُ، وآلاتُ التصوير، والثلاجات، التي تعمل كلُّها بالفحم الحجري، إلى جانب سخّانة ماءٍ تشتغلُ بالحطب الموقود.

الأنتيكا

عن بداياته كواحدٍ من المتخصصين في تجارة الأنتيكا، النادرة بالجزائر، يقول علي لـ"الترا جزائر: "بدأتُ هذا النشاط كهوايةٍ قبل أن يصيرَ مصدرَ رزقي. وأنا صغيرٌ، مارستُ تجارةَ النحاسِ والأشياءِ القديمةِ في أسواقِ سانكوري بالحراش، وتلمسان، وغيليزان، ووادي سوف، وتخصّصتُ في بيعِ الطَّبْطَابات النحاسيةِ التي تُدقُّ بها الأبواب.

ثم مع بدايات سنة ألفين، يواصل محدث "الترا جزائر"، ولجتُ سوقَ غرداية العريقَ الذي كان يُنصَبُ كلَّ يوم. كنتُ أحملُ أغراضي في حقيبةٍ وأستقلُّ حافلةً من العاصمةِ لأعرضها في هذه "البطحة"، وأحيانًا كنتُ أنامُ في الشارعِ كي أوفّرَ القوتَ الأبيضَ لليوم الأسود".

ويُضيف الأنتيكار المولعُ بأشيائه: "اشتريتُ سيارةً قديمةً من نوعِ "فيات"، وبدأتُ بيعَ النحاسِ في بوسعادةَ وغرداية. أدركتُ أن سكانَ الصحراءِ، وخاصةً بني ميزاب، لهم تقاليدُ عريقةٌ في استعمالِ النحاس، وقبل أن أستقرَّ في مكاني الحالي، كنتُ قد أجرتُ متجرًا في شارعِ شعبةِ اليهود".

مخلفات المعمّرين

في واقعِ الحال، عاش اليهودُ في غرداية منذ قرونٍ طويلةٍ، قبل رحيلهم إلى فرنسا و"إسرائيل" بعد ثورة التحرير واستقلال البلاد، تاركين وراءهم بعض القطع النحاسية، والأدوات التقليدية والأنتيكا، التي آلت إلى مواطنين حصلوا عليها بالاتجار أو المبادلة، ولذا لا تزال بقايا هذا النحاس سائدة لدى عديد الخواص هنا. لكن الكثير من تلك المستعملاتِ القديمة لها مصدرٌ آخر، حيث يؤكد بوحادي هذه الحقيقة هامسا "إنَّ جُلَّ بضائعِ سوقِ الأنتيكا مصدرُها عائلاتُ المعمّرين الذين باعوا ممتلكاتهم، ومن هناك بدأ تداولها بين الناس، قبل أن تصلَ إلى تُجّارِ سوقِ الأشياءِ القديمة".

الأنتيكا

وللتدليلِ على كلامه، يقودني إلى رَفٍّ يعرض عليه نماذجَ من أداة "القِرْدَاش" التي تُستعملُ في نسجِ الزرابي في "السدايات"، قائلًا: هذه ثلاثةُ أنواع: الأولُ من منطقةِ الأوراس، والثاني من منطقةِ القبائل، والثالثُ يهوديٌّ، حسبما تدلُّ عليه طريقةُ صنعه وشكله. سبق لي بيعُ شمعداناتٍ عبرية".
فوق الرفوف، يتجلّى لك الماضي في أدقِّ تفاصيله وألوانه، مثل كانكياتِ "الكربين"، ومرافعِ العرائسِ الخشبية، وبوابيرِ الغاز التي صارت تعمل بوقود الطائرات "الكيروزان" منتهي الصلاحية، لاختفاء تلك المادة من السوق، وأباريقَ مختلفةِ الألوان والأشكال، وعصّاراتِ قهوةٍ قديمةٍ سبقت عصرَ "البراس" بزمن طويل، وأجراسِ بيوتٍ وكنائس، ومنافخِ نارية، أي شاليموهات تقليدية، وأقفالٍ ومفاتيح، ورَحَاياتِ البن، ومقابضَ نحاسيةٍ، ومرايا، ومصابيحَ قديمةٍ تُذكِّرُك بقصصِ علاء الدين وفانوسِه السحري.

صنع في الجزائر

يُخصّص بائع الأنتيكا عدّةَ رفوفٍ لمنتجاتٍ جزائريةٍ قديمةٍ لم تعد متوفّرة، فيتولى محلّهُ مهمّة التأريخ لها. تجد هناك عُلبًا كثيرةً من سجائر "الريم"، و"الدوزا"، و"الأفراز"، و"شيليا"، و"ألجيريا"، أعوادَ زلاميتٍ وثقاب، قوالبَ سكرٍ مخروطيةَ الشكل، زجاجاتِ ماءٍ مغوّز، بينها زجاجةُ ليمونادا التي عمّم الجزائريون اسمها على كلِّ المشروباتِ الغازية، علبَ غاسولِ "الأومو"، التي صار اسمُها مرادفًا لكلِّ مساحيقِ رغوةِ الغسيل، زجاجاتِ عطرِ "الزواوي" الأصلي، معجونَ أسنانِ "ميري" المصنوعِ في الجزائر، صوابينَ "مايا" و " مينا"، ومبيداتِ "العاصفة" المنتجةِ من قبلِ عملاقِ النفطِ الوطني سوناطراك الجزائرية.

الأنتيكا

يرفضُ الرجلُ بيعَ هذه المصنّفاتِ الوطنية، لاهجًا: "هذه مقتنياتي الخاصةُ التي تُعرضُ ولا تُباع. أدرجتُها في الدكّانِ كي تكونَ نافذةً على الماضي الجزائري بكلِّ تفاصيله الجميلة. وحقًا، فإن بعضَ المصنوعاتِ كانت ذاتَ جودةٍ عاليةٍ وتنطوي على مواصفاتٍ فنيةٍ وجماليةٍ كبيرة، مثل مصبّرات الفلفلِ المطحونِ "روسينيول"، وعبواتِ العسلِ الوهرانية، وما يسترعي الانتباهَ أنها متقنةُ الصنعِ إذا ما قورنت بمنتجاتٍ حالية، وحقًا أصاب بالدهشة حين أعثر على دمغة صنع في الجزائر في أدوات زجاجية أو معدنية دقيقة التفاصيل ".

دموع و نوستالجيا 

قد يتساءل المرء عن جدوى بيع هذه الأشياء التي ألقتها منتجات عصر التكنولوجيا الرقمية إلى هامش الحداثة، لكن "علي بابا" يردّ ضاحكًا: "كل مصنوع مبيوع. فكما أنني شغوف بجمع هذه الصنائع، هناك أيضًا أشخاص شغوفون بالحصول عليها. بعض هذه الأشياء ذات قيمة وليست ذات ثمن، لأنها ترتبط بحياة الأفراد، فهي مثل صورة تذكرك بشبابك أو طفولتك بعدما يغزو رأسك الشيب، أو مثل أغنية تذكّرك بلحظات عاطفية جمعتك بمن تحب. وعلى هذا الأساس، تكون القيمة أهم من السعر. بعض المعروضات تفجر ينابيع الحنين لدى الزبائن، فيتجمدون أمامها تحت عصف وابل من الذكريات".

يبدو علي بوحادي كما لو أنه بائع ذكريات وحنين أو ما يسميه كل شخص " الزمن الجميل"، ويؤكد ذلك من خلال قصص مؤثرة لزبائنه الذين هزمتهم الهشاشة الإنسانية، واستسلموا لدموعهم بين هذه البيوع القديمة. بعضهم يدفع أسعارًا تفوق ما يُطلب، تعبيرًا عن فرحة العثور على أشياء فقدوها.

الأنتيكا

يوضح لـ "الترا جزائر" متأثرًا: "زارني ذات مرة عمال بناء إيطاليون، كانوا في ورشة عمل بأحد الفنادق هنا، وصُعقوا عندما شاهدوا الشعار الأصلي لشركتهم، وتساءلوا كيف وصل هذا الرمز النادر من إيطاليا إلى سوق غرداية. اقتنوه مني ليهدوه لمدير الشركة الأم".

ويُضيف قائلًا: "كثير من النساء يَذرفن الدموع عندما يأتين للتبضُّع من المحل. ذات مرة، جلست عجوز عاصمية على الكرسي تبكي بمجرد ما رأت بابور الغاز وغلاية القهوة. اقترحت عليَّ مبلغ سبعة آلاف دينار جزائري مقابل أداة ذكّرتها بذكرياتها العائلية وبأبويها، رحمهما الله. إحداهن انهارت تحت سيل من الدموع حينما رأت مرفَعًا خشبيًا، فقد ذكّرها بيوم زفافها بزوجها الراحل، وبوالدتها التي أثّثت فيه جهاز بيتها الجديد".

الزجاجة السحرية

يتردَّدُ على هذا الدكان في غرداية زبائن من نوع خاص، فأغلبهم إطارات من المهن الراقية، مثل القضاة، والضبّاط، والمدراء، والأطباء، ووكلاء الجمهورية، وكلهم يأتون من أجل شراء أغراض عتيقة وذات زينة تصلح للديكور المنزلي أو المكتبي.

من بين زبائنه الأوفياء، الطبيب البروفيسور المرموق رشيد منانة، المختص في طب النساء، والذي يحرص على اقتناء الأدوات النحاسية الأصلية، إذ يقول لـ "الترا جزائر" مسرورًا: "إنه أفضل مكان بالنسبة لي، فقد عثرت على صورتي فيه، ومنذ تلك اللحظة صار من عاداتي الدائمة اقتناء لوازم الديكور القديمة من هنا، مثل الشمعدانات، والنحاس، كما أملك سلسلة مفاتيح زجاجات السدّادات الفلّينية التي أهوى جمعها منذ الصغر".

الأنتيكا

لهذا البروفيسور قصة غريبة مع المحل، قادمة من عوالم هاري بوتر السحرية، كيف لا وقد عثر فيه بالصدفة، على صورته داخل زجاجة، معروضة للبيع. يروي ذلك:" دخلت ذات مرة لشراء مقتنيات عتيقة غير أني فوجئت بزجاحة قديمة تحوي صورتي داخلها وقد رسمت بتقنية تشكيل الرمل، فتذكرت أن صديقًا قديمًا كان أنجزها منذ عقود غابرة، فقررت شراءها".

ويعقب علي معلقًا على الحادثة: " جلبت لي زوجة الرسام تلك الزجاجة دون أن تعرف قيمتها الحميمية. لكنها عادت بعد أيام لاسترجاعها بطلب من زوجها الذي نبهها بأنها تذكار لصديقه العزيز، لكن تلك السيدة النبيلة تفاجأت حين أخبرتها بأن صاحب الصورة اشترى زجاجته، فوقفت ذاهلة من القدر العجيب".

الأنتيكا

بعض الزبائن يملكون ولعًا غير عادي بجمع التذكارات، يكاد يُشبه الهوس. يعقّب علي ضاحكًا: "كان لديّ زبون يُداوم على شراء المنبّهات، حتى أني بعت له ثمانين ساعة ومنبهًا. ذات مرة، جاءتني والدته تطلب مني التوقف عن بيعها له، معتبرة أنه يبدّد أمواله في أغراض غير ذات فائدة. وعندما سألته عن سرّ شغفه بها، أجابني بأنه يعشق النقرات الصوتية التي تصدرها المنبهات لدرجة الإدمان".

سجل الممنوعات

رغم المتعة التي يجدها الزوّار في هذا المحل في غرداية، إلا أن هناك عوائق كبيرة ومحاذير مهنية يواجهها التاجر. يقول بوحادي موضحًا: "يأتي سياح أجانب لشراء قطع نادرة، لكنهم يُضطرّون للتخلي عن جزء كبير منها بسبب عائق الوزن المسموح به في الطائرات، والمبالغ الطائلة التي يُلزمون بدفعها عن الكيلوغرامات الزائدة".

أما المحاذير فقد تتخذ طابعًا جزائيًا وقانونيًا غليظًا إذا ما تعلق الأمر بعرض مصنفات ممنوعة للعرض والمتاجرة، وفي هذا الصدد يشير: " كنت محل متابعة قضائية بسبب مسدس قديم ومستعمل، وقد حصلت على البراءة بعدما تأكدت قاضية الجلسة بأني بائع أنتيكا وتحف قديمة للزينة لا تاجر أسلحة، خاصة أني أملك سجلًا تجاريًا وبطاقة مهنية كجامع تحف".

الأنتيكا

ومن بين الممنوعات أيضا يضيف المتحدث: " عرض الأدوات التراثية المصنفة، مثل النقود والتحف النوميدية والفينيقية والرومانية والإسلامية المصنفة من قبل دوائر حماية التراث الجزائرية".

يأتي هذا التاجر، إلى غرداية ليعمل أسبوعين كل شهر، ويمضي النصف الآخر منه مع زوجه وأطفاله في العاصمة، بما تجود به مهنته النادرة، فيقول: "أجمع ما تيسر من المال، وهو يكفيني لتلبية احتياجاتنا الضرورية. وفوق ذلك أتلقى كثيرًا من دعوات الخير من الشيوخ والعجائز الذين يقصدون محلي، نظير ما توفرهم لهم الأدوات القديمة من مشاعر الحنين الجارف، وطبعًا ما أجمل هذا الشعور بالذكريات الذي لا يباع ولا يشترى".

في هذا المحل يتجلّى لك الماضي في أدقِّ تفاصيله وألوانه، مثل كانكياتِ "الكربين"، ومرافعِ العرائسِ الخشبية، وبوابيرِ الغاز التي صارت تعمل بوقود الطائرات

ويختم عاشق مهنته بقصة ستبقى عالقة بذهنه إلى آخر أيام حياته راويًا: "زارني ذات مرة رجل في هيئة رثة وأسمالٍ بالية، دلت على أنه مجنون أو درويش. طاف في الدكّان، فقررت أن أتركه يأخذ شيئًا دون مقابل. لكنه فاجأني باقتناء مفتاح قديم، وفانوس عريق، وبعض المشغولات، ثم استلّ من جيبه ثمانية آلاف دينار، دفعها لي شاكرًا اهتمامي ببيع التحف القديمة، ونصحني بمواصلة طريقي، ووعدني بأنه سيعود لزيارتي، لكن مرت سنوات دون أن يظهر له أثر. وحقًا فهذا الزائر الغريب حيّرني ولا يزال، ولذلك صرت متشوقًا لإطلالته كل يوم".