11-أغسطس-2019

بعض الطرق الصوفية تُنشد المدائح الدينية داخل المساجد (Getty)

بات ممكنًا للمنشورات والمواقف والتّصريحات والكتابات، التّي تشتم الشّعب في الجزائر أن تمرّ من غير الالتفات إليها، بينما يمكن لأدنى تصريح يتعلّق بنقد التديّن أن يثير زوابع في الواقع والمواقع قد يصل فيها البعض إلى تكفير صاحبه والدّعوة إلى إهدار دمه ومنع دفنه في مقابر المسلمين.

تعرّض صاحب كتاب "التصوّف والإبداع" إلى حملات تشهير كثيرة. وواجه في مرّات قليلة بعض معارضي أفكاره في مناظرات مفتوحة

حصل ذلك في الفترة الأخيرة مع الرّوائيين رشيد بوجدرة وأمين الزّاوي وكمال داود. هذا الأخير أحلّ دمُه من طرف النّاشط السّلفي عبد الفتّاح زراوي حمداش، بسبب ما اعتبره "اعتداءً على الله ورسوله"، من غير أن يتحرّك طرف في مؤسّسة القضاء أو في مؤسّسة أخرى مسؤولة عن حماية الحرّيات والأشخاص في كثير من الأحيان.

اقرأ/ي أيضًا: النصّ المقّدس والمتخيّل الاجتماعي عند محمد أركون

يُعدّ الباحث في التصوّف الإسلاميّ سعيد جاب الخير (1964)، من أكثر الوجوه المثيرة للجدل، من خلال منشوراته، التّي يقول إنّه ينقد فيها مظاهر التديّن المغشوش، ويحاول تنوير الرّأي العام، بأفكار تدعو إلى الانفتاح عوضًا عن الانغلاق، وإعمال العقل في التّعامل مع الموروثات المختلفة، عوضًا عن تلقيها بصفتها نصوصًا مقدّسة لا مجرّد اجتهادات بشريّة.

تعرّض صاحب كتاب "التصوّف والإبداع" إلى حملات تشهير كثيرة. وواجه في مرّات قليلة بعض معارضي أفكاره في مناظرات مفتوحة، كالتّي جمعته بالباحث لخضر رابحي حول قدسيّة النّص الدّينيّ، بتنظيم من جريدة "الحوار".

قبل أيّام، نشر جاب الخير تدوينة فيسبوكيّة نقلها عن الباحث في الشّؤون الاستراتيجية والإعلاميّ السّوريّ حسام ميرو، ورد فيها أنّه يتمنّى أن يدخل إلى أحد مساجد بلاده، "فأرى قاعة للإنترنت، وقاعة للمحاضرات، وقاعة للموسيقى، وقاعة لتعليم اللّغات، ومكتبة، وأن أجد امرأة تقيم (تؤمّ) الصّلاة، وأن تكون الخطبة حول العمل واحترام القانون والتطوّر العلميّ والمعرفيّ وحقّ الآخر في الاختلاف". تواصل التّدوينة: "وبعد الخروج من الصّلاة يلتقي المصلّون رجالاً ونساءً في مقهى مجاور ليخطّطوا لنزهة في الطّبيعة، أو حضور أمسيّة موسيقيّة أو مسرحيّة".

أثار هذا الموقف كثيرًا من الجدل في المجالس الواقعيّة والافتراضيّة للجزائريّين، من زاوية كونها، حسب البعض، تدعو إلى تمييع المسجد باعتباره بيت الله، الذّي وجد للعبادة لا للّهو. وتكفي إطلالة على التّعليقات المتفاعلة مع المنشور لندرك حجم الرّفض والسّخط والسّخرية.

 علّقت رانيا زغار بالقول: "أتمنّى أن تدخل مصلّى الحرّاش (في إشارة منها إلى سجن الحرّاش، الذّي بات حاضنًا لوجوه الحكم البوتفليقي)، فقد تمّ تطويره وفيه مقهى أنترنت وحديقة مختلطة لتحضر أمسية شعرية حكوميّة أو مسرحيّة سلّاليّة". وتساءل أنيس زيّان: "أيّ نوع من الحشيش تستهلك يا أخانا؟". وساخرًا سأل علي حمدي: "هل يمكن إحضار بيرة وفودكا؟".

الباحث سعيد جاب الخير

ومن خلفية مختلفة، كتب أستاذ علم الاجتماع السّياسيّ نوري إدريس أنّ جاب الخير يطالب من جهة بالعلمانيّة، ومن جهة أخرى يريد أن يضمّ كلّ النّشاطات غير الدّينيّة إلى مؤسّسة المسجد، "فينتهي الأمر إمّا إلى ابتلاع الدّين لكلّ هذه الأنشطة، وهذه ليست علمانية، وإمّا إلى ابتلاع هذه الأنشطة للدّين، فتفقده روحانيته وتخرجه من مجاله الطّبيعيّ".

يضيف نوري إدريس: "لماذا يريد جاب الخير أن يغزو الفنُّ المساجدَ، في حين أنّ هنالك فضاءاتٍ للفنّ وللقراءة وقاعة محاضرات للطبّ. أي أنّ هناك تمفصلًا في الحياة الاجتماعيّة. وهو ما تعنيه العلمانيّة، التّي هي التّمايز في المجالات الاجتماعيّة".

من جهته، اعترف سعيد جاب الخير بأنّه تلقّى الآلاف من التّعليقات والرّسائل الشّاتمة. وتساءل: "أين المشكل في أن تكون للمسجد قاعة للموسيقى؟ هل توجد آية صريحة في القرآن تحرّم الموسيقى؟ وأين المشكلة في أن تكون امرأة هي التّي تؤمّ الصّلاة في المسجد؟ هل المرأة نصف إنسان؟ هل هي نجاسة؟ هل هناك آية قرآنيّة صريحة تمنع المرأة من أن تصلّي بالنّاس؟".

يبدو أنّ بعض المشتغلين على السّؤال الفكريّ لم يدركوا أنّ التّنوير يحتاج إلى أرضيّة تخلق الاستعداد للنّقاش

يبدو أنّه لم يحن الزّمن، الذّي يتعاطى فيه الجزائريّون، مع مثل هذه الدّعوات، بروح النّقاش لا بروح الرّفض الجاهز. كما يبدو أنّ بعض المشتغلين على السّؤال الفكريّ لم يدركوا أنّ التّنوير يحتاج إلى أرضيّة تخلق الاستعداد للنّقاش، وإلّا عُدّ كلّ سؤال خروجًا عن الدّين نفسه. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أولياء الجزائر الصالحون.. شموع مضيئة بالأمنيات

التراث الصوفي وتجديد الخطاب الديني