29-نوفمبر-2022
تبون

في قراءة متأنية للبرقية التي نشرتها وكالة الأنباء الجزائرية بعنوان:" الجزائر في عهد التطور والبروز"، تضمّنت وعودًا بمفاجآت يحضر لها الرئيس عبد المجيد تبون العام المقبل للجزائريين، فهي لن تخرج عن عنوان رئيسي كثيرًا ما يطرحه الجزائريون في سؤال واحد:" أين هي الجزائر الجديدة ؟."

البرقية الرسمية التي نشرتها الوكالة الرسمية بدون توقيع من صحابها تأتي في سياق سياسي يشهد ركودًا في الفترة الحالية 

لم تخرج البرقية الرسمية التي نشرتها الوكالة الرسمية عن إطار شعار " الجزائر الجديدة"؛ إذ تشير إلى منجزات كبرى حققها الرئيس تبون منذ اعتلائه سدة الحكم في نهاية 2019، بعد انتخابات رئاسية متردّدة على وقع مسيرات الحراك الشعبي التي استغرقت أكثر من 54 أسبوعًا رفضًا لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، وانتخابات جرت على خلفية إلغاء المسار الانتخابي لمرتين.

أكبر من رسالة و أهم من خبر

من الناحية الإعلامية البحتة، فالمادة المقدمة عبر 13 سطرًا وبحجم مئتي كلمة وكلمة (201 كلمة)، تبقى قصيرة الحجم من حيث الكمّ، وذلك بما هو متعارف عليه في حجم البرقيات الخاصة بوكالات الأنباء العالمية، لكن ما يلاحظ دوما في سلك المهنة وتدرجاتها الإخبارية، فالبرقية أهم من الخبر في حد ذاته، خاصة وأن سطرًا من برقية بإمكانه أن يعادل صفحة جريدة من حيث المعايير الإعلامية، كما هي أيضًا أكبر من خطاب سياسي قد يكلف أسبوعًا من التحضير والكتابة والتنقيح، وساعات من التدريب والعرض.

يعتقد العارفون بخبايا البرقيات الرسمية من هذا النوع وهذا الحجم، أنها أكثر الأنواع الصحفية صعوبة في إعادة القراءة والتحليل ثم التفسير فالتأويل، كما هي تفسح المجال أمام أطروحات عديدة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء؛ أولها أن البرقية عمومًا هي جزء من إعلام السلطة أو كما توسم في المهنة بخزان المعلومات الرسمية، وتحمل لغة اتصالية أو تواصلية، أما ثانيًا وبلغة الواقع فكبار الخبراء يعتبرون الإعلام جزء من الاتصال، بل يقدرون مفهومه بالآتي: "الجزء المهم في الاتصال هو سماع ما لم يقال"، وبتنزيل هذا الكلام على محتوى البرقية فما لم تذكره بين سطورها هو الأهم والأكثر جذبًا للاهتمام من أي عبارات أخرى تم تناولها في متنها.

أما الجزء الثالث فهو يوضع على عاتق مسؤولي الوكالة، وذلك راجع إلى غياب السبب الرئيسي لنشر هذه البرقية، حيث بقي مبهما أو غائبا عن المحتوى أو المضمون السياسي لمادة تؤكّد على إنجازات الرئيس تبون.

عطفًا على ما سبق ذكره، يطرح البعض من المتابعين للشأن السياسي في الجزائر هذا السؤال البسيط: "ماهي دوافع هذه البرقية؟ خاصة أنه لا وجود لنقاش سياسي في الساحة وأن الرئيس في أريحية تامة في مواصلة مهامه واجتماعاته وسنّ قراراته، ما يدفع إلى طرح عدة فرضيات أو بالأحرى أطروحات يمكن اختصارها في عدد من الأسئلة البسيطة: لماذا بالذات هذا التوقيت؟ وماهي دواعي هذا الطرح الخام من العبارات التي أوردتها هذه البرقية؟ وهل يحضر الرئيس لقرارات سيادية في قادم الأسابيع مع بداية سنة جديدة؟

تعبيد العهدة الثانية؟

يتبادر للبعض، أن مثل هذه الخرجات الإعلامية غير الموقعة من صاحبها في وكالة الأنباء، تأتي في سياق سياسي يشهد ركودًا حاليًا، رغم إعلان مبادرة لم الشمل، حيث يواصل الرئيس تبون المضي في تنفيذ برنامجه الرئاسي منذ توليه الحكم.

وعلق أستاذ علم الاجتماع السياسي من جامعة الجزائر موسى جفال على ما جاء في البرقية بأنها: "تدخل في إطار حملة انتخابية مسبقة للعهدة الثانية للرئيس تبون"، مستطردًا أنه "حتى وإن افترضنا ذلك، فإن العهدة الرئاسية الأولى ستنتهي في نهاية سنة 2024، لكن رغم ذلك فإن التحضير لها يبدأ من الآن خصوصًا أمام تداعيات الأزمات التي عاشتها الجزائر منذ تولي الرئيس تبون السلطة، بداية بالأزمة الصحية بتفشي وباء كورونا إلى التركة الثقيلة على المستوى الاجتماعي  إلى غاية الأزمة الاقتصادية العالمية وكيفية تسيير الجزائر للعلاقات الدولية".

وأضاف الأستاذ جفال أن "قراءة سياسية لمادة إعلامية تحمل العديد من التعبيرات والخطابات في خطاب واحد، أراى أن لها عدة أوجه، أو أنها كبرقية قصيرة تبقى حمّالة أوجه وقراءات وتفسيرات وتأويلات أيضًا"، على حد تعبيره.

من الناحية المضمونية، فالمحتوى كان إنشائيًا، بحسب محدّث " الترا جزائر" إذ لا توجد أرقام كحجج وأدلة على الإنجازات التي تم تحقيقها في فترة حكم دامت ثلاث سنوات تقريبًا، إذ جاء في المصدر الرسمي:" لقد تحولت الجزائر بفضل رئيس الجمهورية إلى دولة جذابة للغاية تتوفر فيها ظروف العيش الرغيد، حيث تحققت معجزة منذ سنة 2019 من شأنها وضع الجزائر في الطريق نحو الانضمام إلى مجموعة البريكس".

قول كلمة: "معجزة" يجعل من مضمون البرقية مبالغًا فيه وغير مكتمل إذ لا ترافقه على الأقلّ أرقام من الإنجازات التي تحققت في الفترة التي باشر فيها الحكم إلى غاية يومنا هذا، إضافة إلى أن اختيار الكلمات في حدّ ذاته يعتبر خطابًا أحاديًا موجّها، أو بالأحرى فإن الكلمة في اللغة الإعلامية تحيل القارئ-الجمهور إلى تأويلات فضفاضة.

هناك مبالغة كبرى في العبارات التي حملتها البرقية؛ إذ من المقترح دوما أن ترفق البرقيات من هذا النوع بأرقام مشفوعة بأدلة وحجج أو إحصائيات موثقة حول "إنجازات تحققت تحت قيادة الرئيس تبون" دون أن بخس حقّ المسؤولين في مؤسسات الدولة من الطاقم الوزاري إلى رؤساء المجالس المحلية". 

محاربة العصابة

الحرب مستمرة على العصابة، أي على (رجالات الرئيس السابق بوتفليقة، وغالبيتهم في السجون لدواعي قضائية وقضايا فساد تحت النظر والتحقيق)، خصوصًا وأن ملفات ثقيلة مازالت تجر العشرات إلى المحاكم ليومنا هذا، وهو ما في البرقية: "رغم أنف بقايا العصابة أي ومعاول الهدم، فالجزائر الجديدة التي يرسي دعائمها الرئيس تبون لا تمت بصلة للنظام القديم".

ويتضح جليًا أن محاربة الفساد مازالت متواصلة وليست الطريق إليها سهلًا في تلميح لأطراف أخرى، لازالت تلعب دورًا في الظلام، بحسب أستاذ العلوم السياسية كريم عمارة، حيث تشير هذه الخطوة حسبه إلى تحسن تلمسه الجزائر منذ تولي الرئيس تبون الحكم؛ إذ عرفت البلاد خلال السنوات الأخيرة جمودًا سياسيًا واقتصاديًا وإقليميًا ودوليًا، مرده تعطل آلة الحكم وانصهارها فترة مرض الرئيس الراحل بوتفليقة، وبروز ملفات الفساد التي التهمت المال العام وعطلت أجهزة التنمية والمؤسسات الاقتصادية.

هذا الأمر، تعكسه الخطوات التي أقبل عليها القضاء بفتح ملفات كبيرة حول الفساد، وذلك لم يكن ممكنا قبل 2019، لافتًا في تصريح لـ"الترا جزائر" أنه يعتقد أن المادة الإعلامية التي وسمت بالبرقية ينتظر أن تستكمل بالعديد من المواد الصحافية لإظهار تلك الخطوات التي وصفتها بـ" المفاجآت في العام المقبل"، موضحًا في السياق إلى أنه "لا يمكن التطلع لغد أفضل دون جرد كامل لما قدمته مؤسسات الدولة من إنجازات ومحاولة إتمام المشاريع وإصلاح الأخطاء إن وجدت".

خطاب مسبق

المادة الإعلامية الخام فتحت نقاشًا آخر، إذ أنه حتى مع الإقرار بوجود بعض التغيير أو وجود محاولة للتغيير، فإن ذلك لا يرقى مطلقًا إلى تحوّل أو تحولات تعرفها الجزائر، فما بالك بـ"المعجزة"، خاصة وأن العارفون بخبايا المنظومة السياسية في الجزائر، فضلًا عن تجارب التغيير التي لا يمكن أن ترى النور بين ليلة وأخرى أو في ظرف أقل من ثلاث سنوات، لأنه ببساطة "حلقة يصعب رسمها في ظل حجم الفساد الذي تكبدته الخزينة العمومية، وانتشار أضلعه في الإدارة".

ورغم ذلك لا أحد ينكر أن هناك بعض البوادر الإيجابية مع فتح الملفات وترك الباب مواربًا للملمة شمل الحساسيات السياسية والمجتمعية في البلاد والسماح للقضاء أن يحاسب المتورطين في تلك الفترة الممتدة على مدار عقدين من الزمن.

وبذلك فالتغيير هو جزئية بسيطة في سلسلة متكاملة من الانتقالات التي وجب على صانع القرار السياسي في الجزائر أن يضع له حدودا قانونية وزمنية، لتشهد الجزائر التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي الفعلي.

بعيدا عن القراءات المتشعبة، تبقى برقية من هذا الحجم وفي هذا التوقيت تلقي بظلالها على المنظومة السياسية في الجزائر، خصوصا وأن مواجهة العصابة ليس بالأمر الهين على الرئيس تبون، وهو ما حاولت الآلة الإعلامية العمومية والخاصة التّرويج له منذ بدء المحاكمات التي طالت رؤوسا كان يصعب في وقت سابق قطفها، ودعما لتعهدات تبون منذ دخوله غمار الانتخابات الرئاسية.

نهاية السنة الثالثة من الحكم

اللاّفت للنظر أن ما لوّحت به البرقية أيضًا أثناء الحديث عن: ".. وضع بناء مؤسساتي في مستوى كبرى الديمقراطيات" وغيرها من المنجزات على المستوى الاجتماعي، تفرض قراءة أخرى للمسار الديمقراطي التي تعرفه الجزائر خصوصًا أمام تراجع الحريات الإعلامية والسياسية، إذ تعتبر الأخيرة أحد أضلاع مسار الدمقرطة بحسب المختصين في مجال الانتقالات الديمقراطية عبر العالم.

تبقى هذه البرقية دعاية إعلامية تحضيرًا لإغلاق سنة 2022

أما من حيث الشكل، تبقى هذه البرقية دعاية إعلامية تحضيرًا لإغلاق سنة 2022 ومعها انتهاء السنة الثالثة منذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، فيما هو مستمر في تنفيذ برنامجه الرئاسي واستكمال وعوده.