18-سبتمبر-2021

الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة (تصوير: فايز نور الدين/ أ.ف.ب)

 

انطفأت شمعة الرّئيس الجزائري السّابق عبد العزيز بوتفليقة، عن عمر ناهز الـ 84 سنة، لتنتهي فترة تاريخية من تاريخ الجزائر، لرجل عاصر كبار رجالات القرن الحالي، واضطرّ إلى التنحي من الحكم بعد 20 سنة من رئاسة الجمهورية؛ بقرار الشّعب الذي ثار ضدّه في الـ 22 شبّاط/فيفري 2019، رافِضًا أن يبقى في سُدة الحكم لعهدة خامسة.

رغبة الرئيس بوتفليقة في الاستمرار في السّلطة كانت جامِحة، إلاّ أنه أذعن للتنحّي عن واجهة الحكم وتقديم الاستقالة من منصبه في الثاني من أبريل /نيسان 2019

رغبة الرئيس بوتفليقة في الاستمرار في السّلطة كانت جامِحة، إلاّ أنه أذعن للتنحّي عن واجهة الحكم وتقديم الاستقالة من منصبه في الثاني من أبريل /نيسان 2019، بعد أن قضى فيه 20 سنة منها 13 سنة فعلية، وسبع سنوات أخرى من وراء سِتار، فكان مُجبرًا على التخلِّي على إثر احتِجاجات دَامت أقلّ من شَهرين ترفض ترشّحه لعهدة رئاسية خامسة.

اقرأ/ي أيضًا: رحيل بوتفليقة.. الجزائريّون ينقسمون حوله مرّةً أخرى

ما يُعرف عن الرّئيس وفقا لمحيطه المقرّب أنّه مولع بالحكم، أو بشهوة السلطة كما وصفها أحد رموز جبهة التحرير الوطني الراحل عبد الحميد مهري، في ندوة سياسية في شهر آب/أوت2011، هكذا كان بوتفليقة مولعًا بالحكم والأمر والنّهي، ولا كلمة تضاف إلى كلامه.

رغم الظروف التي أتيحت للرئيس بوتفليقة لأن يتنحى عن الحكم بشرف والخروج من الباب الواسع، إلا أنّه رفض التنحي قبل العهدة الرابعة 2014، وهو على فراش المرض، وغيابه عن الساحة وحتى في الحملة الانتخابية للرئاسة، لم يكن حاضرًا، وأدى الدور بدله رجالات من محيطه السياسي وتابعيه آنذاك، ومن اصطفوا إلى جانبه، أو بالأحرى لإبقائه رئيسًا يضمن لهم المصالح والاستمرار في مخطّط  "نهب المال العام".

عبد القادر المالي

ولد بوتفليقة في الثاني من شهر آذار/مارس 1937 في مدينة وجدة المغربية، وتنحدر عائلته من ولاية تلمسان غرب الجزائر، لكن كانت وجدة قاعدة خلفية للثورة التحريرية الجزائرية في الحدود الغربية، انضم وهو في مقتبل شبابه إلى صفوف جيش التحرير في العام 1957، وحمل لقبًا حَرَكيًا  هو"عبد القادر المالي"، إلى غاية استقلال الجزائر.

تقلّد سابع رؤساء الجزائر عدة مناصب في الدولة الجزائرية المستقلة، بداية بمنصب وزير الشباب والرياضة وعمره 25 سنة، ثم وزيرًا للخارجية من سنة 1963 إلى غاية 1979، إذ بقي في هذا المنصب السيادي لأزيد من 15 سنة، وبات يلقب آنذاك بـ "الدبلوماسي المحنّك"، في فترة حكم الرئيس الراحل الهواري بومدين، حين كانت الجزائر تدعم حركات التحرر وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وكان من أشدّ المدافعين على حقّ الشّعب الفلسطيني، إذ ترأس بوتفليقة باسم بلاده سنة 1974، الدورة الـ 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وخلالها فسح المجال للرئيس للراحل ياسر عرفات لإلقاء خطبته القوية والشهيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتمت يومها المصادقة على قرار حقوق الشعب الفلسطيني.

دبلوماسيًا دائما، كان لبوتفليقة الدور الرئيسي في فضّ أزمة الرهائن وتحريرهم بعد اختطاف "جماعة كارلوس" للوزراء وموظفي منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" في عاصمة النمسا فيينا.

تهمة وهجرة

اختفى بوتفليقة عن الأنظار في مناسبتين: الأولى بعد نشر وثيقة رسمية في صفحات جريدة "المجاهد" الحكومية في سنة 1983، بعد إعلان تورّطه من قبل مجلس المحاسبة بتهمة اختلاس أموال الخزينة العمومية، حيث ذكرت الوثيقة أنها كانت مودعة في صندوق دعم "حركات التحرر" فترة حكم الرئيس بومدين، إذ كان الأخير يدعمها بالآلاف من الدولارات، حمل الرجل حقائبه نحو عدة بلدان ، من بينها دول الخليج العربي.  

استفاد عبد العزيز بوتفليقة من عفو أقرّه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد سنة 1986، فعاد للجزائر في أطر سياسية حزبية، إذ تمّ انتخابه عضوا في اللجنة المركزية لـ"جبهة التحرير الوطني" سنة 1989.

كما جرت بينه وبين الجيش مفاوضات متقدِّمة  ليكون خليفة الرئيس المغتال محمد بوضياف،  لكن تعثّرت تلك المفاوضات ولم يحقّق الإجماع لدى ألوية في الجهاز العسكري آنذاك، حيث رفضت آليات الصلاحيات التي ستُمنح له كرئيس للجمهورية، وخسِر بدوره فرصة العودة من بوابة الرئاسة.

عشرية كاملة بعد ذلك، تمكّنت أجهزة الجيش في إقناعه بالرئاسة في العام 1998، ليكون خليفة الرئيس-الجنرال اليامين زروال، بعد حدوث توافق بينه وبين المؤسسة العسكرية، وإعطاءه صكَّا على بياض، فانتخب في نيسان/أفريل 1999 رئيسًا، ليعود للجزائر من بوابة "شهوة السّلطة"، التي كانت تراود نفسه المحبة للحكم والكرسي منذ وفاة الراحل الهواري بومدين.

مصالحة وطنية

تسلّم الرئيس بوتفليقة مقاليد الحكم في مايو 1999، رغم أن الانتخابات التي جرت وقتذاك كانت مثيرة للتساؤلات والجدل، بعد انسحاب ستة من منافسيه، إذ كان الأمر محسوما لصالح بوتفليقة، وباشر بذلك الحكم، في إطار استكمال ما بدأه سابقه زروال فيما تعلق بـ "قانون الوئام المدني"، لتحقيق السّلم وإنهاء نار الفتنة في الجزائر.

وينصّ هذا القانون على اتفاق أجرته قيادة المخابرات مع قيادات "الجيش الإسلامي للإنقاذ" الجناح العسكري لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحلّة، بغية إحداث قطيعة بين عشرية الدّم والدموع.

عقب سنتين من الحكم، واجه الرئيس بوتفليقة أحداث منطقة القبائل والمسيرة الكبرى نحو العاصمة في 14 حزيران/جوان 2001، والتي أسفرت عن مقتل 126 شخصًا، انتهت باعترافه الرسمي باللغة الأمازيغية كلغة وطنية، واستتباب الأمن.

في عهدته الثانية 2004-2009، أطلق الرئيس بوتفليقة مشروع ميثاق المصالحة الوطنية، ثم استفتاء شعبي حيال هذا الميثاق، الذي يعتبر استكمالا لإجراءات الوئام المدني، في إطار تسوية للأزمة الأمنية ووضع المسلحين في الجبال لأسلحتهم، وهو ما قبله الشعب عبر الانتخابات وبالصندوق، فلقب وقته برجل " المصالحة".

خزينة ومشاريع 

توفّرت للرئيس بوتفليقة الأموال مستثمرًا ارتفاع أسعار البترول وانتعاش مداخيل الجزائر من هذه الثروة الطبيعية التي بلغت وقتذاك 198 مليار دولار أميركي، إذ تمكّن من دفع كافة ديون الجزائر الخارجية، ثم إطلاق مشاريع للبنى التحتية، وإصلاحات على أكثر من صعيد وفي عديد القطاعات، أغلب هذه المشاريع تشوبها الأسئلة والفساد لحدّ يوم النّاس هذا.

في العام 2007، تعرّض الرئيس لمحاولة اغتيال أثناء زيارته لعاصمة منطقة الأوراس ولاية باتنة شرق الجزائر، وتبنى تنظيم ما يسمى "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" العملية وأغلق ملف التحقيقات لحدّ اللحظة.

أمنيًا وعسكريًا، تخللت فترة حكم الرئيس بوتفليقة، العديد من الفترات الساخنة، على غرار تقليص نفوذ الجهاز العسكري والمخابرات، وخاض حربًا صامتة مع العديد من الأسماء النافذة في السلطة، نحو: الجنرال إسماعيل العماري، ومحمد العماري ومحمد تواتي، علاوة على الإطاحة برجل الظلّ في المخابرات وصانع الرؤساء؛ الجنرال محمد مدين المدعو "توفيق" في سنة 2015.

لأجل البقاء في الرئاسة والمرض

لم يخول الدستور الجزائري للرئيس بوتفليقة الترشح لعهدة رئاسية ثالثة، فأقدم على تفصيل مواد معدلة في الدستور في 2008، لأجل ذلك المسعى، ولتحقيق تلك الرغبة، وفعلا فاز بالعهدة وبنسبة معتبرة، رغم رفض العديد من المكونات السياسية التعديلات وتغوله في الحكم.

واجه بوتفليقة عدة أزمات تزامنت مع ثورات الربيع العربي، إذ أحجم من جذوة الغضب الشعبي بسبب ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، في أحداث ما سمي بـ"الزيت والسكر" في الخامس جانفي/ ياناير 2011، وأقدم على العديد من الإصلاحات السياسية وشراء السلم الاجتماعي.

غير أنه تعرض لوعكة صحية أرقدته مستشفى "فال دوغراس" الفرنسي لمدة 81 يوما، دفعت بالعديد من الأحزاب والشخصيات القانونية إلى طلب تنحيه من الرئاسة بسبب عجزه عن مواصلة الحكم، غير أن الجهاز السياسي والعسكري ورجال المال ونفوذ شقيقه السعيد بوتفليقة، حال دون ذلك، بل عرفت الجزائر فترة من أصعب الفترات في السياسة والأكثر ضبابية..

السؤال الذي طرح في العديد من المنشورات الصحافية والمنابر الإعلامية: من يحكم في الجزائر، في غياب شبه تامّ للرئيس عبد العزيز بوتفليقة؟

خلال سبع سنوات الأخيرة من حكمه، ظهر الرئيس مرات نادرة في الشاشة خاصة في يوم الانتخاب الرئاسي للعهدة الرابعة وهو على كرسي متحرّك، وظهوره القليل أثناء قيامه بفحوصات طبية في الخارج، في مقابل تمددّ أجهزة المال والحكم في الجزائر بختم مستشار الرئاسة شقيقه السعيد بوتفليقة.

آخر أيام حكمه

غاب عن المشهد لكن بقي في الخيال، نعم هكذا كانت آخر فترة حكم الرئيس بوتفليقة، إذ كان يستقبل بعض زوار الجزائر الرسميين وهو شارد الذهن، غائب البديهة، في صور ينقلها التلفزيون الرسمي بعد تعرّضها للقص واللصق، إذ يكاد الجزائريون يتطلّعون لرؤية رئيسهم الغائب دومًا، لكنه "دُفع دفعًا" للترشح لعهدة خامسة لاستكمال مشاريع "العصابة"، وهو الأمر الذي انتفض له الشارع الجزائري في احتجاجات مليونية عرفت بالحراك الشعبي، في الـ22 فيفري/ شباط 2019.

اضطر الرئيس بوتفليقة إلغاء الانتخابات التي كانت مقرّرة في الرابع نيسان/أفريل 2019، وقدّم استقالته للمجلس الدستوري يوم الاثنين أفريل/نيسان 2019، عقب إعلان قائد الجيش آنذاك الراحل قايد صالح تطبيق المادة 102 من الدستور وإعلان شغور المنصب.

انتهت وريقات الرئيس بوتفليقة في قصر المرادية بأعالي العاصمة بتوقيع الاستقالة، دون أن يُستدعى للمحاكمات حول قضايا الفساد، رغم مطالب الكثيرين بذلك، وأولهم الشعب، واختفى عن الأنظار وهي المناسبة الثّانية والأخيرة له، في المقابل ظلّ اسمه ولقبه يتردّد في جلسات محاكمات الفساد دونما يتمّ الزجّ به في أي قضية رسميًا.

ضيّع الرئيس بوتفليقة عدّة فرص على الجزائر والجزائريين لنهضة اقتصادية في شتّى القطاعات، إذ توفّرت له مختلف الإمكانات المادية والبشرية، والظروف المحيطة بهما

التاريخ يحكم

 لا مناص من القول إن الرئيس بوتفليقة دخل التاريخ، ومرحلة التقييم لم تحِن بعد وستكون منقوصة التفاصيل، لكنّه في مقابل ذلك ضيّع الرئيس بوتفليقة عدّة فرص على الجزائر والجزائريين لنهضة اقتصادية في شتّى القطاعات، إذ توفّرت له مختلف الإمكانات المادية والبشرية، والظروف المحيطة بهما، غير أن جملة الفضائح التي تمت تعريتها في السنوات الأخيرة، وآخرها ملفات الفساد وحجم الأموال التي تمّ تبديدها في فترة حكمه، تثبت مدى استشراء الفساد ومدى تغوُّل محيطه، واختلاس المال العام.

رحل بوتفليقة الرجل، ولكن تظلّ صورة الشخصية التي عاصرت كبار رجال العالم تتصدر المشهد السياسي الجزائري، فلا يمكن تمزيق فصل كامل من كتاب التاريخ، تبوأ مكانة في الداخل منذ مجيئه للحكم، وحظي باحترام الخارج، لينتهي عمر وتبقى الكثير من ملفات حُكمه غامِضة تستحقّ النّبش والحفر من قِبل خبراء السياسة والقانون والتاريخ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جون أفريك: تجريد زوجة بوتفليقة من امتيازات دبلوماسية في فرنسا

عصر بوتفليقة.. من تقديس الوطن إلى تقديس الفرد