"البيت الطيني بيت يتنفس، ومن لا يحب التراب والطين مشكوك في آدميته"، بهذه العبارات الشاعرية تلخص المهندسة المعمارية عائشة سعيد حداد حلمها الذي أنفقت سنوات لتحقيقه على أرض الواقع، كما لو أنها رحلة نحو الأصول الأولى للخلق البشري، إلى الحمأ المسنون، الماء والطين، ووفاء أبدي لسلالتها العائلية.
عائشة سعيد حداد: البيت الطيني بيت يتنفس، ومن لا يحب التراب والطين مشكوك في آدميته
تقول عائشة لـ"الترا جزائر"، وهي تتوسد بظهرها بيت القباب الطيني الذي أنجزته في ولاية باتنة شرق الجزائر: "أخيرًا وضعت حملي الجميل الذي صنعته في مخيلتي، وأنجزته بيدي. ولا غرابة، فقد وُلدت في أرض المقراني في مجانة بين برج بوعريريج وبجاية. عشت في بيت جدي، الذي بناه بالطين والحجارة، لذلك ظل هذا العالم يسكنني منذ الطفولة. كما أن خالتي قامت بغسل حناء عرسها بعد انفضاض الضيوف من حفل زفافها، كي تنزل لمعاونة جدي في توسعة غرفة النوالة بالماء والحجر والطين".
حلم تيميمون
تملك عائشة روحًا لطيفة وحسًّا حميميًا بالموجودات. فهي كاتبة تسرد نثرًا، ورسامة تشكل اللوحات الطبيعية والحسية، وشاعرة تقرض أبياتًا، ومغنية عندما يتوفر لها الشوق والحنين في لحظات المزاج الرائق. لكنها في الأصل مهندسة معمارية ذات تكوين علمي رصين.
درست التخصص في سطيف، ثم أكملته في المدرسة العليا متعددة التقنيات للهندسة والتعمير بالعاصمة. وعند تخرجها، عملت في مكتب خبرة عقارية، لكنها عانت من غياب الكيمياء الروحية مع الخرسانة والإسمنت والحديد. ظلت هذه الشغوفة بالحرية بعيدة عن المكعبات والأقفاص والقوالب، حتى راودها حلم شخصي قديم ظل يتمخض في أعماقها.
تفصح عائشة لـ"الترا جزائر" عنه قائلة: "فكرة بناء البيت الطيني الإيكولوجي راودتني عام 2003، عندما كنت أعمل على مذكرة التخرج، التي خصصتها للبيوت الطينية في المدينة العتيقة والمعمار التقليدي في تيميمون. يبدو أن تلك الديار المقببة نفثت شيئًا من حسّيتها فيّ عبر بذرة الطين. وكل ما في الأمر أنني قررت استرجاع ذلك الحلم؛ إذ لا شيء يضيع، وكل شيء يتجدد، كما يقول الكيميائي لافوازييه".
أنهت مذكرة التخرج في السنة الرابعة بتفوق، ولتجسيد مشروعها الراهن ، أجرت عائشة عدة أبحاث، خاصة حول تلك التي طوّرها المهندس الأمريكي ذو الأصول الإيرانية نادر خليلي. درست تلك التقنيات وطرقت عدة أبواب بحثًا عن منفذ متاح، حتى وجدته بعد سنوات من السعي والاجتهاد، في قرية تابعليت الكائنة ببلدية غسيرة، دائرة تكوت، ولاية باتنة.
ففي ذلك الفضاء المثالي الذي يطل على وادي غوفي الشهير ببيوته الحجرية المعلقة وكهوفه العجيبة، منحها أحد المواطنين قطعة أرض مساحتها 42 مترًا، لتشرع في أولى خطواتها العملية لتشييد أول بيت إيكولوجي في الجزائر.
ضريح لالّة صفيّة
صممت عائشة المخططات والدوائر بخيط ومدوّر، وبدأت العمل مثل بنّاء صبور. وخلال نوبات عجن الطين بالماء، كانت تتماهى مع تشكيل التربة، فتتعامل معها كما الجسد روحًا وحسًّا. كانت تغني مواويل شاوية وتونسية وسطايفية بطريقة بديعة تطرب مسامع مساعديها من أبناء المنطقة، الذين هبوا لمعاونتها على طريقة التويزة، بحمل أكياس التراب ودلاء الماء وخشب العرعار وجذوع النخيل، والصلصال الأحمر والأبيض المعروف بـ"البياضة".
تروي لـ "الترا جزائر" التقانة التي اعتمدتها فتقول: "خلافًا لتقنية مكعبات الطين المستخدمة في مشونش وغرداية ووادي سوف، أو صب الطين في قوالب مباشرة، اعتمدت طريقة ثالثة تقوم على تحضير الطين في عين المكان واستعماله فورًا في البناء. هذه التقنية طوّرها المعماري نادر خليلي، الذي أضاف لها اجتهاده الشخصي عبر البناء بالأكياس المحشوة بالطين. من المثالي استعمال شكائر الخيش، لكني لجأت لأكياس مصنوعة من مادة البوليبرولان النظيفة، التي تطوع بها مجمع بن حمادي بمحبة كبيرة".
تشرح المعمارية، طريقة وضع دعامة الغرف الثلاث، التي تستند جميعها إلى أساسات بعمق 50 سنتيمترًا. تم رص 10 سنتيمترات منها بحجارة الوديان الصلبة، ثم أُتبعت بأربع طبقات من الأكياس المحشوة بالطين، متخذة شكلًا دائريًا موحدًا ينتهي بقبة مخروطية.
تضيف عائشة موضحة: "نادر خليلي اعتمد هذه الطريقة، التي قال إنها كانت تقنية استخدمها سكان شمال إفريقيا القدامى. وقد بحثت في الموضوع مع أساتذة من جامعة بسكرة، لأكتشف أن هذا الأسلوب هو ذاته الذي بني به ضريح الولية الصالحة لالة صفية في شتمة ببسكرة.
وهذا يعني أنني عدت بالأثر الرجعي لتراثنا المعماري الغابر، الذي يملك مستقبلًا زاهرًا وفق تعريفات الهندسة العضوية والمعمار الطيني". وكما لو أنها تذكرت أمرًا مهمًا، تستدرك قائلة: "الجميل في هذا المشروع أنه أنجز بأيادٍ جزائرية، خلافًا لمشاريع مماثلة في دول مجاورة، التي أُنجزت بتصميم وإشراف مهندسين فرنسيين وسويسريين"
طين وقوارير
يتكون البيت النموذجي من غرفة جلوس نصف قطرها متران، وغرفة نوم يبلغ نصف قطرها مترين ونصف، تحتوي على موقد يشكل قاعدة مطبخ مدمج، شأنه شأن البيوت الأمازيغية التقليدية القديمة. أما بيت الراحة، فيبلغ نصف قطره مترًا وبضعة سنتيمترات. وقد صُممت النوافذ باستخدام زجاجات ملونة محشوة في الطين بشكل طولي، مما يضفي على البيت لمسة مشعة بالألوان المبهجة والمريحة للنفس.
في هذا السياق، تقول عائشة:"في الواقع، لا تستغرق أعمال بناء البيت سوى أسبوعين فقط، لكن عمره الافتراضي يفوق بخمس مرات عمر البيت العادي. من الأفضل استخدام نوافذ وأبواب قديمة لأنها أكثر مقاومة للتغيرات المناخية، بخلاف الأبواب الجديدة التي تنتفخ مع الرطوبة، مما يتطلب أعمال صيانة قد تؤثر على سلامة الجدران. أما الكوات المنجزة على شكل نوافذ، فتعكس أنوارًا كريستالية متلألئة طوال النهار، خاصة في فترتي الشروق والغروب".
في الواقع، لا تستغرق أعمال بناء البيت سوى أسبوعين فقط، لكن عمره الافتراضي يفوق بخمس مرات عمر البيت العادي
في المرحلة الأخيرة، خضع البيت العضوي لعملية تلبيس الجدران بطبقتين: الأولى باستخدام الطين الأحمر المخلوط بالشعير، والثانية بمزيج من الرملة البيضاء والماء.
أما التزيين، فقد اعتمد على أشكال مستوحاة من التراث المحلي ورموز أوراسية، مثل الأبازيم ومربعات الزينة والزخارف المنسوجة في الزرابي التقليدية والمنحوتة في الحلي العتيقة.
خلوة روحية
اختارت عائشة الشكل القببي القديم، الذي ألهم لاحقًا العمارة الجيوديسية الحديثة، نظرًا لتأثيره النفسي الإيجابي. تفسر ذلك قائلة: "أول دار نسكنها هي رحم الأم، ولذلك يبدو البيت الدائري شبيهًا بمهدنا الأول في الوجود، وبحضن الأرض، فهو أصل النشأة ومنتهاها. هذا التصميم خالٍ من الزوايا الحادة والقائمة، التي قد تسبب شعورًا بالتهديد أو الإزعاج النفسي. البيت القببي هو سُكنى روحية قبل أن يكون مأوى ماديًا، وهو أشبه بالإنسان، حيث تتسم جميع خطوطه بالحرية والعضوية، من الخلية إلى المظهر العام للجسد".
تشير عائشة إلى المساند الخشبية المثبتة داخل البيت، التي يمكن استخدامها كمشاجب لتعليق الأثاث أو الزينة المستقبلية. وتضيف:" الطين مادة طبيعية تمتص الموجات الصوتية، مما يقلل من صداها ويجعل البيت مكانًا هادئًا ومريحًا نفسيًا".
يتميز هذا البيت، بجدرانه المصنوعة من الطين بسمك 65 سنتيمترًا، بعزل تام عن المؤثرات الخارجية، فلا يتأثر بالضوضاء أو الحرارة، ولا يسمح بدخول الإشارات الهاتفية، كما أنه لا يسمح وفقا للتجربة بتسرب المياه. تتراوح درجة حرارته بين 19 و23 درجة مئوية، مما يضمن اعتدال المناخ داخله طوال العام.
مضاد للزلازل
وفقًا لعائشة، فإن البيت مقاوم للزلازل بفضل قاعدته الصلبة وهيكله المتكامل المصنوع من الطين المضغوط في أكياس. توضح قائلة:" هذا التصميم يمتص الاهتزازات، مثلما تُستخدم الأكياس المملوءة بالتراب في المواقع العسكرية لامتصاص تأثير الانفجارات".
إضافةً إلى ميزاته البيئية، يتميز البيت بتكلفة اقتصادية منخفضة. تقول عائشة إن "هذه المنازل أقل تكلفة بعشر مرات من المنازل المشيدة بالإسمنت والآجر لأن جميع المواد المستخدمة محلية وطبيعية. المشكلة الوحيدة التي واجهتها هي نقص اليد العاملة المؤهلة. كما أنها ليست ملوثة عند هدمها بعد انتهاء عمرها الافتراضي، نظرًا لأنها مصنوعة بالكامل من مواد طبيعية".
تؤمن عائشة بأن هذا النوع من البناء يتمتع بمستقبل واعد، خاصة إذا انخرط المستثمرون في دعمه. يمكن تزويد هذه المنازل بكل وسائل الراحة الحديثة، بما في ذلك المسابح في الساحات المحيطة بها.
لكنها تشير إلى عقبة قانونية قائلة:"ما يؤسفني هو غياب تشريعات تعترف بهذا النمط العمراني أو تسهل استخراج رخص بنائه. هناك تأخر قانوني مقارنة بدول مجاورة، بدأت منذ سنوات في إنشاء رياض أطفال ومباني عامة وفق هذا التصميم العمراني، الذي يساعد على النمو النفسي المتوازن. في ألمانيا، مثلاً، تُمنح قروض مالية لدعم مشاريع البناء البيئي".
تؤمن عائشة بأن هذا النوع من البناء يتمتع بمستقبل واعد، خاصة إذا انخرط المستثمرون في دعمه
رغم هذه التحديات، تشعر عائشة بفخر كبير وهي ترى حلمها يتحقق. لا لأنها أعادت الاعتبار للطين فقط، بل لأنها نجحت في تقديمه في قالب عمراني حديث.
تختم لـ"الترا جزائر" مبتسمة: "حلمي الذي وُلد في تيميمون كان يحمل هاجسًا داخليًا: أن أثبت للعالم أن بيوت الطين ليست رمزًا للبؤس، بل يمكنها أن تكون نموذجًا للعمران الفخم وبيتي النموذجي هو الدليل الحي الذي لن أتوقف عنده، فلديّ اهتمامات لدراسة الهندسة المستدامة التي قطعت شوطا هائلا في أوروبا عموما، إسبانيا خصوصا ".