14-أغسطس-2021

بورتريه: جمال بن اسماعيل (فيسبوك/الترا جزائر)

إنها اللعنة! لقد أصابتنا في مقتل، نحن ملعونون بحق، شعب حاول مرارًا الخروج من خرم الإبرة بشق الأنفس، حيث كنا نحاول مداواة جراحنا المتراكمة جراء كل هذه الأحزان التي أتت على صبرنا منذ سنوات.

قضى الجزائريون ليلة بيضاء تحت الصدمة التي ستستمر طويلًا في انتظار القبض على الجناة

تخلصنا من دكتاتورية بوتفليقة، لكننا لم نتخلص من أمراضنا المتراكمة ولم نداوٍ ذواتنا، وقعنا في أزمة سياسية واقتصادية، تسمم مجتمعنا، أغتيل حراكنا الشعبي ولم نتعلم شيئًا من تلك التجربة الإنسانية العظيمة، فقدنا كثيرين جراء الوباء وما يزال ذلك كابوسنا الأكبر، لينتهي بنا الأمر رهينة للتقلبات الاقتصادية وارتفاع معدلات الجريمة بعد سنتين من حراك أبهر العالم، ومن ثم تشتعل نيران الغابات وتقضي شيئًا فشيئًا على رئة الجزائر، وبعدما جعلنا التضامن نتنفس قليلا، تضرم نيران الفتن والجريمة والضغائن كما كل مرة.

اقرأ/ي أيضًا: مقتل جمال.. صدمة في الشارع الجزائري ودعوات للتهدئة

بين ليلة وضحاها، عشنا مأساة عظيمة لم نستوعبها بعد، ضربة قاصمة اغتالت كل الآمال والأحلام التي كنا بالكاد نستطيع التشبث بها، لقد وقعنا في هوة سحيقة بلا قرار، وبعد ما أصاب مناطق عدة من حرائق مهولة وتشريد لآلاف المواطنين وموت العشرات بين مدنيين وعسكريين تطوعوا لنجدتهم ليتوحد الجزائريون من كل صوب لمساعدة إخوانهم، ونشهد هبة شعب جمعه الخير والحب والتضامن أخيرا بعدما فرقته المكائد  والعنصرية، "تسقط علينا السماء فجأة"، كما قال أحد الأصدقاء، وينهار كل ما بني من تآزر بين أفراد الشعب، جراء جريمة قتل فظيعة ما زلنا لم نستوعبها بعد لقسوتها، ولفرط الشر المحيط بها.

اليوم، نشهد طعنة أخرى في قلب كل جزائري، وفي قلب المواطنة الغائبة التي لم نعرف كيف نصنعها، طعنة في خاصرة ما صنعه الجزائريون في الأيام القليلة الفارطة. لقد قُتل جمال، ذلك الشاب الفنان، رسام ومطرب وشاعر ومحب للطبيعة، أحبه الجميع، ذهب إلى حيث الحرائق ليمد يد العون بعد أن جمع إعانات أوصلها إلى قرية "لاربعا ناث إيراثن"، حيث قتل في المنطقة التي كان يعشق طبيعتها وسكانها حسب ما قال مقربوه.

بعدما ردد بعض المتجمعين في الحشد بأن جمال كان يحاول إضرام النار في الجبل، ألقي القبض عليه، ثم أخرج بشكل هستيري من سيارة الشرطة بعدما تم طعنه، ضرب بقسوة وتم سحله من قبل جمع غفير من الناس الغاضبين، قتل حتى قبل أن يدافع عن نفسه من تلك التهمة، أحرق بشكل إجرامي، ونُكّل بجثته طيلة ساعات طويلة مرميًا في مكان وسط ساحة عمومية لينتهي الأمر بقطع رأسه وهو متفحم، تحت الأهاجيز وصور السيلفي، في مشهد سوريالي وًصف بأنه الأكثر دموية منذ سنوات.

بعد ذلك، بقي المجرمون طليقين، وقضى الجزائريون ليلة بيضاء تحت الصدمة التي ستستمر طويلًا في انتظار القبض على الجناة، شعور بالضيق والأرق، مزيج من الغضب والحيرة والدهشة، إذ انتشرت فيديوهات الجريمة بشكل واسع على مواقع التواصل وشاهدها الجميع، حدث كل هذا في غياب السلطات، وتحت صمت مريب خيم على الجميع.

فلنعترف أننا مقهورون، وأن القهر صار محرك هذا المجتمع وأفراده، إننا نقبع تحت رحمة ذواتنا المريضة، ولنعترف أننا فشلنا في الاعتراف بعللنا التي استفحلت فينا دونما فطنة منا.

 كلنا مسؤولون عن هذا الجرم الفظيع بشكل أو بآخر،  لأننا استسلمنا كأفراد للضغينة ولنظريات المؤامرة التي زرعتها فينا السلطة لسنوات، وانشغلنا عن صحتنا النفسية المهترئة منذ عقود، وأفكارنا التي تغذيها الأحقاد والعنصرية، ليخرج من بيننا هؤلاء المجرمون الذين لا يرون في ما قاموا به إجرامَا وإنما عدالة!!! 

يقول خبراء علم النفس، إن الإنسان الذي يعاني من القهر المجتمعي دائمًا ما يعمل على رد الاعتبار الذاتي واسترجاع كرامته من خلال بعض الآليات الدفاعية، ومع ذلك فإن هذه الآليات لا تمتلك القدرة الكافية  للحد من وطأة توتره النفسي المتراكم، لهذا، لا يجد الإنسان المقهور مهربًا إلا العنف كطريقة للتخلص من حدة توتره ذاك، حتى أنه يتنصل من المحاسبة الذاتية ويوجه تلك العدوانية نحو محيطه الخارجي، خاصة إذا ما وجد دعمًا من طرف حشد غاضب يضم أشخاصًا يشابهونه أو يفوقونه حدة.

  حينما يسيطر القلق الذاتي والتوتر على المرء بصفة عامة، يضعانه في حالة من التعبئة والاستعداد الدائم لخوض الصراعات والمناوشات، بعيدا عن العقلانية والمحاورات الجادة وبالتالي يتم الانتقال إلى العنف اللفظي والجسدي الذي تتفاوت نسبه على قدر كمية الضغوطات والتوتر، فهل هذا ما شهدناه خلال ارتكاب تلك الجريمة الشنيعة التي قادها ذلك الحشد الأعمى ؟

لا يمكن الجزم بتاتا، فسيكولوجية العنف هذه لا تبرر بتاتا دوافع القتل الظاهرية التي تكمن في إلقاء اللوم على الضحية المغدور به دونما أدلة ثابتة، ولا هذه الرغبة القوية في تطبيق العقاب والقصاص حسب نظام همجي غابي وليس عبر القانون، لأن تراكم كل هذا يأتي دائما بعد تصريحات عبثية تخرج بها السلطة، عن وجود جهات تنوي الشر للبلد وعن أن الحرائق مفتعلة دون ذكر جهة أو أشخاص معينين، ما يعني أن غياب الدولة وعدم الثقة في عدالة هذا البلد، صارا يغديان هذا الفكر الغابي ليستفحل في المجتمع، لأنها في الحقيقة (الدولة) فقدت زمام الأمور وفقدت ثقة الحشد.

في ظل كل هذا الشتات الذي استفحل، يظهر والد جمال، يقف محاولا استجماع قواه ليمنح الغفران، هو لا يغفر لمن قتل ابنه، لكنه يصفح عمن لم يحركوا ساكنا لنجدته، يصفح عن أهل القرية هناك، فضل أن يكون صوتا للعقل بعدما كان ابنه رمزا للتسامح، هذا المفجوع في مقتل ابنه الأول، فقد التاني قتلا أيضا،  قال بأنه خسر ابنا لكنه ربح هؤلاء الذين كانوا يطلبون منه الصفح ويتنكرون للمجرمين، فيفاجئهم بقبول قبلاتهم وأحضانهم في مشهد رمى بعض السكينة على القلوب المفجوعة التي كانت ترقب ردة فعله، مع ذلك، ومن جهة أخرى يقف كشخص مفجوع تحت الصدمة، ولا تبدو ردة فعله تلك، سوى هدوء غريب وجب أن يعالج في أقرب الآجال.

بين اللعنة والغفران، طمرنا في قلب هوة عميقة، وإن لم نرجع إلى سكة العدالة والقانون والتحضر، سنغرق أكثر فأكثر، وسيصبح من الصعب بما كان أن نبني تلك الدولة التي نحلم بها من خلال شعب يعاني من الهشاشة، شعب ينساق خلف الشائعة والضغينة والتفرقة والإيديولوجيات المقيتة، ليحاول تطبيق قوانينه الخاصة وبطرق بشعة وإجرامية.

إن دم جمال سيبقى في رقابنا جميعًا، لأننا كنا ندعو الناس إلى الذهاب لإنقاذ الأرواح، لا لأن تزهق أرواحهم وتعذب أجسادهم هناك في الساحات العامة.

نحن نعزي أنفسنا اليوم، لأن كلا منا فقد قطعة من روحه والكثير من آماله بمقتل جمال، لقد أحرقت قلوبنا بعد إحراق جثته، وعلى رجال القانون أن يجمعوا الجناة وكل من شاركوا في هذه الجريمة ليتم عقابهم بما يستحقون، ومن ثم ربما، سنفكر في تسلق جدران هذه الهوة شيئَا فشيئَا، لعلنا نبلغ ذلك النور البعيد في الأفق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وفد وزاري في تيزي وزو

استشهاد 25 عسكريًا إثر تدخّلهم لإجلاء السكان من حرائق الغابات