30-مايو-2021

الكاتبة فاطمة آيت منصور (الصورة: ويكيبيديا)

يُحْتَفَى بعيد الأم في الجزائر في آخر أحدٍ من شهر أيار/ماي من كل سنة، وتختلف طرق التّعبير عن التقدير لهذا المخلوق، الّذِي تجلس الجنة في سكينة تحت قَدميه طواعية وتقديسًا.

نصوص الكاتبة الطاوس تحتوي على العديد من الحكَايا والأساطير الشعبية

وعبَّر الإنسان عن هذا الحبّ وعن عظمة وأثر تلك العلاقة بينه وبين أمه عبر التاريخ، بشتَّى أساليب التعبير الممكنة من منحوتات ورسومات وأشعار وروايات خلَّدت تلك المرأة، التي وصل تقديسها إلى وضعها في مراتب التأليه تارة، وفي مصافِّ الملائكة التي تصونها الأديان والأعراف والتقاليد في شتى الحضارات تارة أخرى.

من هُنا، آثرت الاحتفاء بالأم أدبيًا، عبر ترجمة خاطفة لثلاثة نصوص تتبادل الود والحب والذكرى والاعتراف، بين ثلاثة من كتّاب الجزائر المنسيّين، أمّ وابنةٌ وابن.

اقرأ/ي أيضًا: جزائريو كاليدونيا الجديدة.. حنين من وراء البحار

عائلة عمروش الَّتي انحدرت من تيزي هيبل، بدائرة آيت محمود، بتيزي وزو في الجزائر، عائلة أمازيغية اعتنقت المسيحية عبر الجدة آينا العربي أو سعيد.

والدة الكاتبة الأم فاطمة آيت منصور "فاظمة ناث منصور"، التي عاشت طفلة غير مُعترف بها شرعيا، وتزوجت بعدها المدعو أنطوان بلقاسم عمروش، الذي تحول قبل ذلك أيضا إلى الكاثوليكية، وكان ينحدر من ريف إيغي آعلي في بلاد القبائل.

وأنجبت الأم فاطمة منه عدة أطفال، منهم جان الموهوب عمروش، وماري لويز الطاوس عمروش الذين تحولا إلى الأدب والشعر، وترجمة الأغاني والترانيم الأمازيغية التي لقنتها لهم الوالدة إلى الفرنسية.

الأم .. بذرة الفرح

النص الأول مأخوذ من إهداء كتاب "البذرة العجيبة" للكاتبة الطاوس عمروش لوالدتها، ويحتوي على العديد من الحكَايا والأساطير الشعبية، التي تُحيى طفولتنا، إضافة إلى الأقوال الشعبية والتهويدات والأغاني الأمازيغية التي ورثتها عن والدتها:

إلى مارغريت فاطمة آيت منصور

والدتي، الحلقة الأخيرة في سلسلةٍ من الشُّعراءِ المَلحميِّين:

إليكِ، أنتِ التي بَدَوتِ لي دوما كشجرةٍ مُثمرة، ومَزارًا لجمع كبيرٍ من العصافيرِ الطَّرُوبةِ، تلكَ الأساطير وتلك الأغاني المُنَقّاة مع مرور القرون، والتي وصلت من فمٍ إلى فمٍ إليكِ، وأورثتِني إيّاها لأُرسيها في هذه اللغة الفرنسية، العزيزةِ والمألوفة لديَّ تقريبًا بقدر لغتي الأم.

هذه الأقوال الشعبية التي تُستَجَدُّ مِثل صُوَرٍ تستعرض أناشيدك، وتلك الأغاني التي علمني صوتُكِ عبرها ترنيمَ مرثياتٍ جليلة بشغف، وها هي اليومَ تموت في البلد الذي وُلِدَت فيه.

ومن خلالكِ، ستنتقل إلى صغيرتنا "لورونس" التي تُشبِهُكِ، والتي ستنوب عني يومًا ما، وهذا ما أتمنّاه، مثلما أنوبُ عنكِ الآن..

"لورونس" التي كنتِ تُنادينها باللّهجة الأمازيغية: "القطعة الصغيرة من الأزهار" وأيضا: " القصعةُ الصغيرة"، بسبب وجهها الرقيق ذو الأبعاد المُتناسقة.

على أملِ ألاّ يذهب جهدنا هذَا عَبَثًا، وألاّ يكون التلميذ غير جديرٍ بأستاذه، وأن يُسمع أخيرا هذا القول التي لا تكُفّين عن ترنيمه وأنت تفكّرين بي، العبارة التي أطلقتها النسوة المُسِنَّاتُ في بلادنا نحو السّماء، من أجلكِ، مثل بذرةٍ من الفرح: "اذهبي، بُنَيّتي، فليأذنِ الرّبُّ لشمسكِ بأن تَشُقَّ الغيوم".

الرجل طفل أمه الأبدي

كتب الشاعر جان الموهوب عمروش هذه الرسالة من باريس إلى والدته وردت عليه بعدها باقتضاب، نُشرت الرّسالتان في كتاب السيرة الذاتية "قصة لحياتي" للأم الكاتبة فاطمة آيت منصور عمروش، حيثُ كتب في رادس بتونس أين عاشت، ونُشِر في باريس سنة 1968، سنة واحدة بعد وفاتها تطبيقا لوصيتها، وقد كتب مقدمة هذا الكتاب كلّ من كاتب ياسين وفانسون مونتوي.

باريس، 18 نيسان/أفريل 1945.

والدتي العزيزة:

ها قد مرّت عدّةُ أسابيعٍ منذُ عَزْمِي على كِتابةِ رسالةٍ مُطَوَّلَةٍ إِليكِ.

يحدُثُ أن أحلُمَ أنَّكِ تَتَأَبَّطِينَ ذِراعي وأنا أمشي في باريس، نَهيمُ ببطء، ببطءٍ شديد، مثل ذلك المساء على الطريقِ، على طولِ سِكّة الحديد، في رادس.

تَجُرِّينَ قَدَميكِ الهزيلتينِ داخل خُفّيكِ العتيقين، وتَضُمِّينَ على صدرِكِ شَالَكِ الذي بَهُتَتْ ألوانه، لكنّ عينيّ الطِّفلة الصغيرةِ المُحتالةِ خاصَّتِكِ تَحُومَانِ حولنا، فلا يفوتُهُما شيء، ظلال الألوان في السّماء، ونجومٌ ترسل إلينا إشاراتٍ؛ سلامٌ كبيرٌ يصعدُ من الحدائق وسط العطور، فيندمجُ مع سلامٍ آخَرَ قادمٍ من السّماء. وأظنُّ، باغتمامٍ، أن الحياةَ لن تمنحنا الفرصة غالبا للقيام بهذه النّزهات، قبل أن يطوي علينا البيتُ بأجنحته ليلاً.

بيتُنَا في رادِس، لا أكادُ أَستَحضِرُه في الذّاكرةِ إلاَّ وتغمرني العَبَراتُ تأثُّرًا، إنه مُثقلٌ جِدًّا بالذِّكريات، تغمره الرُّؤَى حيث الصّور الآسِفة، وأُخرى تمحوها الفرحة - تلك الأكثر نُدرةً من الأولى للأسف-

 لقد اتَّحَدَت كلّها على نحوٍ وثيقٍ لتُشَكِّلَ تناغُمًا مريرًا ورقيقًا، شبيهًا بالموسيقى التي تسكُن رُوحَ البيتِ ذَاتِه.

أُمَّاهُ الصَّغيرةُ، أُمِّي الرّقيقةُ، أمِّي الصَّبورة المُستسلمة، أمِّي الموجوعة المُفعمة بالعزيمة، هل تُدركين أَنَّ صَغيرك "جانو" لم يبرح أثوابكِ؟ لن يُشفى أبدًا من طفولته، وأنه مهما فعل وحيثما تواجد، تظلين رُفقَته، لا مثلَ صورة هاربةٍ تعبر الذاكرة، بل مثلَ الهواء الذي يتنفّسه، والذي دونه سيموتُ مختنقًا؟

كيف حالك في هذا الرّبيع الذي يشبه الصيف جدًّا؟

كيف تحتملين كل أعمال البيتِ تلك؟

كل الشّحنات تنتهي بالوقوع مجددا على كاهلِ أبي وعلى كاهلِكِ، فبعد أن كدحتما لمُدّة خمسين سنةً، آن الأوان لتستريحَا.

مع ذلك، لا أحد من بين أبنائِكُمَا استطاع توفير هذه الرَّاحةَ لكُمَا بعدُ.

لكن، يا أُمَّاهُ الصّغيرة، أنت معجزتنا الخبيئة، لأن الرَّبَّ منحكِ الهبة الأكثرَ نُدرَةً، رغم كلّ تلك الأعمال الّتي تُنهِكُ الرُّوح والجسد: تحتَ تجاعيدِكِ وشَعرِكِ الأبيض، تحتفظين بروحٍ يانعة، ورصيدٍ من الفرحة أشبهُ بنبعٍ يتدفَّقُ تحت الصخورِ من عينيكِ المُرهَقَتين.

إذا ما حَمَلَنَا بعضُ الشِّعرِ وشيءٌ من الحِسِّ الفَنِّيّ، ماري لويز وأنا، فنحنُ مدينان لكِ أنتِ بذلك، لقد منحتِنا كلّ شيء، أوصلتِ لنا رسالة أرضنا وموتانا.

لكن كتابكِ لم ينتهي، أماه الصغيرة.

في اللحظة التي أهمُّ فيها باستشعار موضعِ جهدي الأهم، أدعوكِ:

يجب أن تكتبي ذكرياتكِ، بلا اختيار، وِفقًا لمزاجكِ وللإلهام، سيكون ذلك جهدا عظيما.

لكن فكري بعمق، أماه الصغيرة، لألاَّ تفقدي طفولتكِ، والتجربة التي عشتِها في بلاد القبائل.

قد تنشأُ عن فعلِكِ هذا دُروسٌ ذات قيمةٍ عظيمة، وسيكونُ ذلك وديعةً مقدسة بالنسبة لي.

أرجوكِ، ماما الصغيرة، راعي طلبي هذا.

أمّاهُ الصَّغيرةُ، أقبلكِ بحنان.

"جانو" خَاصَّتُكِ.

جان عمروش.

سيرة الأم بوصلة الأبناء

ماكسولا- رادس

الفتاح من آب/أوت 1946

إلى ابني جان،

أورثك هذه الحكاية، قصة حياتي، لتفعل بها ما شئتَ بعد مماتي.

إنَّ هذه القِصّة حقيقية، لم أبتدع فيها حلقة واحدة، وكل الأحداث التي حصلت قبل ولادتي، قصّتها عليّ والدتي في السنّ الذي كان سهلا عليّ استيعابها.

إذا ما كتبتُ هذه القِصّة، فلأني قدّرتُ أنّها تستحقُّ أن تُعرَف من طرفكم.

أتمنى أن تُمحى كل أسماء الأشخاص في هذه القصة (إذا ما فكَّرتَ في عمل شيء ما بها)، وأن تتقاسم المداخيل مع إخوتك وأخواتك إذا ما جعلتَ منها رواية، مع احتساب مصاريفك ومُقابِلِ عملك على الرواية.

ستُحفَظُ هذه القصة عندما تتمُّ كتابتُها، وستُسلّم لوالدك الذي سيُعطيكَ إيّاها بدوره بعد وفاتي.

كتبت هذه الحكاية إحياءً لذكرى والدتي التي أحببتها بحق، وذكرى السيدة "مالافال" التي منحتني حياتي الروحية.

1 آب/أوت 1946

السيدة عمروش.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

ويليام سبورتيس.. جزائري يهودي مناهض للاستعمار والصهيونية والاستبداد

قُبلة موقوتة