تيديس الأثرية في قسنطينة.. حِصنٌ مُعلّق بين الإرث النّوميدي والتّأثير الرّوماني
13 أكتوبر 2025
ما يزالُ موقع تيدّيس الأثري مُتشبثًا بالمُرتفعات الوَعرة على أطراف مدينة قسنطينة، شرق الجزائر، حيث تقفُ آثاره بصمتٍ مُقاوم يتأرجح بين الزّوال والبقاء، فمن مدينة نوميدية إلى مستعمرةٍ رومانية، شهد هذا الحصن الممتدّ على مشارف قسنطينة على تاريخٍ طويلٍ مُتشابك، طبعته تحوّلاتٌ كثيرة من الغزو إلى التّكيّف، ومن الانصهار في الحضاراتِ إلى إعادة التّكوين الثّقافي.
هُجِرَت تيدّيس في القرن السّابع الميلادي، وأعيد اكتشافها خلال العهد الاستعماريّ، حيث تمّ إحياؤها من جديد بفضل حفريات منهجية خلال القرن العشرين
تيدّيس ، تلك المدينة الّتي تخفي في قلبها ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنةً من تاريخ الجزائر، عبر فتراته اللّيبية، البونيقية، الرّومانية والبيزنطية،كثيرا ما احتُجِبت في السّرد التّاريخي خلف بريق المدن الأثرية الكبرى، مثل سيرتا، تيمقاد وجميلة، لكنّها ما تزال تقدّم نموذجًا فريدًا لما يمكن تسميته (الرّومنة المرنة)، حيث تتجاور فيها الأشكال الإمبراطورية مع التّقاليد المحلّية دون أن تبتلعها، وقد عكست في موقعها شديد الانحدار وصعب المنال، موقعًا دفاعيًا واضحًا، كما كشفت عن رمزيات أعمق حول مدينة عُلِّقَت بين السّلطة، والطّبيعة والذّاكرة الأثرية.
هُجِرَت تيدّيس في القرن السّابع الميلادي، وأعيد اكتشافها خلال العهد الاستعماريّ، حيث تمّ إحياؤها من جديد بفضل حفريات منهجية خلال القرن العشرين.
واليوم، نغوص في طبقات هذه المدينة المنسيّة، عبر كيفية اشتقاق اسمها، تخطيطها العمرانيّ ووظائفها الدّينية والعسكرية، ثمّ سردياتها الشّعبية، مع تسليط الضّوء على التّحديات الرّاهنة المرتبطة بصونها واستعادتها.
اسمٌ محفورٌ في الأرض والذّاكرة
تقع تيدّيس على مُرتفعات بلدية "بني حميدان"، في ولاية قسنطينة، شرق الجزائر، على بعد نحو 30 كيلومترًا شمال غرب المدينة، حيثُ تحتلّ موقعًا جبليًا ضمن سفوح الأطلس التلّي، وتشرف على جزء من أخاديد الرّمال المعروفة محليًا ب"الخناق".

لم يكن هذا الموقع مجرّد مشهد طبيعيّ آسر، فقد حمل بُعدًا استراتيجيًا شديد الأهمية، إذ شُيّدت المدينة القديمة على نتوء صخريّ وعر تحيط به منحدراتٌ حادّة من ثلاث جهات، وهذا ما منحها تحصينًا طبيعيًا جيّدًا، كما جعل اقتحامها أمرًا في غاية الصّعوبة عبر الزّمن ومختلف الغزوات، إضافة إلى أنّ تموضعها مكّنها من مراقبة واسعة للمنطقة المحيطة، خاصّةً لطرق الوصول من سيرتا وإلى وادي الرّمال.
كانت تيدّيس في الأصل قرية بربرية تُعرف باسم تادّرت أو (رأس الدار)، وما تزال من أكثر المدن الرّومانية تفرّدًا، من حيث موقعها الجغرافيّ، أو من حيث البراعة في التكيّف مع تضاريسها الجبلية، التي أبان عنها بناتها الأوائل؛ حيث جعلوا من هذه المدينة العسكرية، القائمة كحارسٍ أمام سيرتا العتيقة، موقعًا رومانيًا بحقّ، لكنّه لا يخضع لأيٍ من القواعد المعمارية المألوفة لجمهورية روما.
حافظ اسم تيدّيس على وجوده مع مرور القرون، فلم يكن تسميةً عابرة، لأنّه حمل في طيّاته آثار حضارة موغلة في جغرافيتها وفي علاقتها بالمقدّس، ونسبةً لبعض الفرضيات اللّسانية، اشتُقّت كلمة تيدّيس من الكلمة الأمازيغية (إيديس = تلّ)، أو من (تيدّست) الّتي تعني (البطن أو الرحم)، كما قد ترتبط هذه القراءة بوجود "البازينات"، وهي قبورٌ جماعية دائرية نوميدية مُتناثرة في الموقع، غالبًا ما يُنظر إليها بوصفها رموزًا للانبعاث أو الانتماء إلى الأرض الأم. لهذا، يعدّ هذا الاسم في حدّ ذاته شاهدًا على التّعلّق العميق بالمكان.
يُشير معنى كلمة (كاستيلوم) إلى حصن صغير أو نُقطة دفاعية مُتقدّمة، وهو ما يعكس بوضوح الطّابع الدّفاعي للموقع، إضافةً إلى تبعيته الإدارية لكيان أكبر، كما لا يزال بعض سكّان المنطقة حتّى اليوم يُطلقون على الموقع اسم "قسنطينة القديمة"
أصبحت المدينة تُعرف رسميًا باسم كاستيلوم تيدّيتانوروم (Castellum Tidditanorum) خلال الحقبة الرّومانية، وهو اسم أبرَزَ وظيفتها العسكرية ضمن الشّبكة الدّفاعية المُتقدّمة التّابعة لمنطقة "سيرتا" (قسنطينة الحالية)، عاصمة نوميديا الرّومانية، كما يعبّر هذا الاسم اللّاتيني عن منطق الرّومنة "الغزو الرّوماني".
ويُشير معنى كلمة (كاستيلوم) إلى حصن صغير أو نُقطة دفاعية مُتقدّمة، وهو ما يعكس بوضوح الطّابع الدّفاعي للموقع، إضافةً إلى تبعيته الإدارية لكيان أكبر، كما لا يزال بعض سكّان المنطقة حتّى اليوم يُطلقون على الموقع اسم "قسنطينة القديمة"، في إشارةٍ إلى طبوغرافياه اللّافتة والمُعلّقة الّتي تستحضر هيئة قسنطينة نفسها، المبنية بدورها على نتوء صخريٍّ شاهقٍ يصعب اختراقه.
تنظيم الموقع ومنطق الاستيطان
يمتدُّ الموقع الأثريّ لتيدّيس على مساحة تتوزّع على ثلاثة قطاعات رئيسية؛ أوّلها "الهضبة العُليا" الّتي كانت تحتضن المُنشآت العامّة الأساسية، مثل المنتدى، الحمّامات، المعابد، وبعض مساكن النّخبة، إضافة إلى "المنحدر الشّرقيّ"، حيث عُثر على مساكن أكثر تواضعًا، وورشاتِ عملٍ، وصهاريج جماعية، وكذلك، "قاعدة الجرف" الّتي يُرجّح أنها كانت مخصّصة لاستخداماتٍ مُتعددة كالمناطق الحرفية، المقابر والمخازن.
على خلاف المدن الرّومانية المبنية على أراضٍ مُنبسطة، تعاملت تيدّيس مع تحدّيات الجبل وأظهرت نمطًا من "الرّومنة المرنة"، حيث التقى التّخطيط الإمبراطوريّ بالتّقاليد المحلية
وعبر هذا التّوزيع المدروس، كشفت تيدّيس عن عقلانية عُمرانية راعت تضاريس المكان، ولبّت مُتطلبات الدّفاع، الحياة اليومية، والعبادة.
يبدو التّنظيم المكانيّ في تيدّيس نابعًا من منطق تكيّف مع التّضاريس، مع المُحافظة على العلامات العُمرانية الكلاسيكية للمدينة الرُّومانية في ذات الوقت؛ (مُنتدى، شارع رئيسي، كاردو، معابد...) حيث تندمج كلّها في إطار محليّ خاصّ.
وعلى خلاف المدن الرّومانية المبنية على أراضٍ مُنبسطة، تعاملت تيدّيس مع تحدّيات الجبل وأظهرت نمطًا من "الرّومنة المرنة"، حيث التقى التّخطيط الإمبراطوريّ بالتّقاليد المحلية.
كشف التّموضع الاستثنائيّ لتيدّيس بين الارتفاع والعُزلة والمراقبة، عن إرادة للسّيطرة الرّمزية، حيث لم تكن مجرّد نقطة عسكرية أمامية، بل كذلك، واجهة للسُّلطة الرّومانية، حيث أقيمت في قلب إقليم مُشبعٍ بالثّقافة النّوميدية، كما أنّ اختيار الموقع خدم غَرَضًا مُزدوجًا تمثّل في الدّفاع من جهة، والإعلان عن الحضور والهيمنة من جهة أخرى، كما دلّ على نوعٍ من الحوار المَشحون والمُتوتِّر أحيانًا بين الإمبراطورية والشُّعوب المحلية.
تاريخ تيدّيس ووظائفها الحضرية
قبل وصول الرّومان إلى نوميديا، حملت تيدّيس بصمات استيطانٍ بشريّ قديم، حيث كشف علماء الآثار عن وجود "بازينات"، وشظايا فخّار مصنوعة يدويًا، جدران ضخمة، إضافةً إلى سور بُنيَ بالحجارة الجافة، حيث دلّت هذه العناصر على وجود حضارة بونيقية-نوميدية تعود على الأرجح إلى القرنين الثّالث أو الثّاني قبل الميلاد.
لقد كان هذا الاستيطان جزءًا من شبكة دفاعية أوسع تشكّلت من "الأوبيدا"، أي القلاع الجبلية الّتي كانت تحيط بعاصمة المنطقة "سيرتا"، وكانت تؤدي أدوارًا عسكرية، طقسية، اجتماعية وسياسية.
من هنا، شكّلت تيدّيس، مثل غيرها من هذه المراكز، نقطة ارتكاز ثانوية ضمنت استمراريةً للسّلطة المحلية عبر العصور، ووفّرت ملاذًا في الأزمات، ومواقع مراقبة استراتيجية.
رَومنة مَرِنَة في شمال إفريقيا
عكست تيديس من خِلال تَطوُّرها ظاهرةَ رَومنة براغماتية، فعِوَضًا عن فرضِ قطيعةٍ تَامّة مع ما سبق من حضارات، عملت السُّلطات الرُّومانية على إدماج البُنى المحلّية وتحويلها بشكلٍ تدريجيّ، حيث كانت المدينةُ مركز إداريّ تابع لها، وفضاءً للتّفاعل الثّقافي المُنوّع، حيث تجاورت الأسماء اللّاتينية مع الطّقوس المحلية، وعلت الحجارة الرّومانية على أُسسٍ نوميدية قديمة، كما تداخلت الأساليبُ المعمارية الأجنبية مع أشكال التكيّف المحلي.
بهذا المعنى، قدّمت تيدّيس قراءةً دقيقةً لديناميكيات التّهجين الثّقافي الّتي كانت ساريةً في نوميديا الرّومانية، وأظهرت كيف أنّ الغزو لم يكن دائمًا قمعًا مُباشرًا، بل اتّخذ شكل إعادة تشكيلٍ تدريجية سَمَحت ببقاء بعض الرّموز والانتماءات الأصلية، ولكنّها ارتدت ثوبًا جديدا في الوقت ذاته.
حافظ اسم تيدّيس على وجوده مع مرور القرون، فلم يكن تسميةً عابرة، لأنّه حمل في طيّاته آثار حضارة موغلة في جغرافيتها وفي علاقتها بالمقدّس، ونسبةً لبعض الفرضيات اللّسانية، اشتُقّت كلمة تيدّيس من الكلمة الأمازيغية (إيديس = تلّ)، أو من (تيدّست) الّتي تعني (البطن أو الرحم)
بدأ الفتح الرّوماني لنوميديا في عهد يوليوس قيصر وترسّخ في عهد أوغسطس، وقد شكّل نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ تيدّيس، حيث أُدرج الموقع تدريجيًا في النّظام الإمبراطوري، وتحول أولاً إلى "فيكوس"، أي تجمّع سكّانيّ ثانويّ لا يتمتّع بكامل الامتيازات البلدية. وقد عكس هذا الوضعُ مرحلةً انتقالية، احتفظت فيها تيدّيس بجزء من استقلالها، لكنّها بدأت تمتصُّ شيئًا فشيئًا ملامح الإدارة الرّومانية وتنظيمها العُمراني.
خلال فترة حكم الإمبراطور "أوغسطس" في نهاية القرن الأول قبل الميلاد وبداية الأول بعد الميلاد، رُقّيت تيدّيس إلى مرتبة كاستيلوم، وهو تصنيف يكرّس وظيفتها كحصن أمامي تابع مباشر لمدينة سيرتا. وقد أُدمجت حينها ضمن (الاتحاد السّرتي)، وهو تحالف إداريٌّ جمع بين مدن وقرى حول العاصمة الإقليمية، بهدف تسهيل الإدارة، جمع الضّرائب، وتزويد الجحافل العسكرية، ونشر القانون الرّوماني.
تكيّف وإدماج العمران في سفح الجبل
شهد تطوّر تيدّيس العُمرانيّ أيضًا التزامًا بالأنماط المعمارية الرّومانية، لكنّه كان في تجاوب مع التّحديات التّضاريسية الحادّة للموقع في الوقت ذاته، حيث نجح المُهندسون الرّومان في استغلال الانحدار الطّبيعي للجبل، وبنوا المدينة حول عدّة محاور هندسية دقيقة؛ مثل "كاردو ماكسيموس"، المحور الرّئيسيّ الطّوليّ الّذي يخترق الهضبة العليا، وتتفرّع منه عدد من الشّوارع الثّانوية الّتي تبعت التّعرّجات الطّبيعية للتّضاريس.

من جهة أخرى، جُهزت المدينة بشبكة من الخزّانات والأنفاق المائية لجمع مياه الأمطار وتخزينها، نظرًا لغياب الينابيع الدّائمة في المنطقة، كما بُنيَ المنتدى على مصطبة صخرية، واحتوى على قاعات عمومية، وأروقة، ومحلات تجارية.
تُبرِزُ كلّ هذه العناصر كيف أنّ تيدّيس لم تكن مجرّد نُقطة مراقبة أو ثكنة، بل مدينة كاملةً ومُتكاملة، ترجمت قُدرة روما على نقل نموذجها الحضريّ إلى أقاصي العالم، مع احترام خصوصيات البيئة والذّاكرة المحلية.
اندثارٌ بطيءٌ لمدينة تيديس
بدأَت مظاهرُ الحياةٓ في تيدّيس بالتّلاشي تدريجيًا بعد القرن السّابع ميلاديّ، حيثُ عجزت وظائفها الدّينية والإدارية والعمرانية عن الصّمود أمام التّحولات العميقة الّتي رافقت مجيء الإسلام، ونشوء أنماط استيطانية جديدة، ومسارات تبادل مختلفة، ومن خلال عُزلتها الجغرافية، بدأت المدينةُ تفقد شيئًا فشيئًا حيويتها الدّيموغرافية، فتراجع عدد سكّانها، وانسحب من تبقّى منهم نحو المناطقِ المُجاورة الأكثر انفتاحًا أو اندمجوا في القرى القريبة.
خلال ذلك، تعرّض موقع تيدّيس إلى تفكيك تدريجيّ، حيثُ استُخدمت حجارته الضّخمة وكُتله المِعمارية في تشييد منازل ريفية، جدران زراعية، أو ملاجئ بسيطة، كما يحدث غالبًا في تاريخ الآثار عندما تتحوّل الأنقاض إلى موارد للبقاء، لهذا، تعطّلت المُنشآت العامة، وتلاشت معابدها، وتوقّفت نُظمها الهيدروليكية المعقّدة عن العمل.

مع الوقت، بدأت الطّبيعة تدريجيًا تغمر المكان، كما ساهمت النباتات، الانجرافات والعُزلة، في إخفاء أو طمر أجزاء كبيرة من المدينة، حتّى صارت مكانًا قديما خفيًا في قلب الجبل، تحيط به الهالة الشّعبية كموقع غامض، وتُنسج حوله الأساطير والقصص الشّفوية.
الذّاكرة الشّعبية وعودةُ السّرديات
رُغم التّناسي، استمرّت تيدّيس في تواجدها عبر الذّاكرة الشّفهية المحلية لسُكّان المنطقة، حيثُ ما تزال الحكايات المحلية تذكر "القبور الغامضة"، و"الأحجار المَنصوبة"، و"الأسوار القديمة" المُخبّأة في أعالي التّلال، وغالبًا ما رُبطت "البازينات" بأساطير عن أبطالٍ مجهولين، أو طقوسٍ ضائعة، أو بعالم الأجداد الّذي لا يُرى.
هكذا، تحوّلت تيدّيس إلى رمزٍ غير ملموس حمل شحنةً خياليةً وتاريخية ورُوحيةً هائلة، وقد بقيت في أذهان السّكان، مثال "المدينة المُعلّقة"، أو "قسنطينة القديمة"، أو حتّى "قلعة الموتى" الّتي تُراقب الأحياء من عِلّ.
من أطلال منسيّة إلى موقع مُعترف به
لفتت ملامحُ تيدّيس الأثرية انتباه بعض المُستشرقين والضّباط الفرنسيّين في أواخر القرن التّاسع عشر، في إطار الجهود العامّة الّتي بُذلت لفهم العمق التّاريخي لشمال إفريقيا في سياق استعماريّ.
كان هذا الاهتمامُ هامشيًا لفترة طويلة، حيثُ اتّسم بزياراتٍ عابرة ووصفٍ سطحيّ للموقع ضِمنَ سياقٍ أوسع لاستكشافات المُستعمر، إذ كانت تيدّيس حينها أقرب إلى "أثر مجهول"، يثير الفضول أكثر ممّا يحرّك مسارات بحث جدّية.

في بداية القرن العشرين، ومع تطوّر علم الآثار وظُهور نخبةٍ من الباحثين المُتخصّصين في تاريخ شمال إفريقيا القديم، حَظِيَ الموقع بعناية علمية منهجية، فكان لعالم الآثار آندري بيرثيي دورٌ محوريّ في هذه الطّفرة، حيث قاد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حملات تنقيبٍ دقيقة ومُوسّعة، هدفت إلى استخراج الآثار، وفهم البنية العُمرانية والثّقافية للموقع في سياقها الزّمني، من العصر النّوميدي إلى الحقبة البيزنطية.
كشفت هذه الجهود عن معالم كانت مَطمورةً تحت الرّكام والتّراب: المنتدى، المعابد، الشّبكات المائية، البازينات، الأبنية الدّينية المسيحية، وحتّى الدّروب الرّومانية الّتي تروي وحدها قصّة انصهار المدينة بين طبوغرافيتها الوَعرة والنّموذج المدنيّ الإمبراطوريّ.
بعد الاستقلال، انتظر هذا المسارُ الطّويل من البحث والاهتمام حتّى سنة 1992، لكي تُصنّف تيدّيس ضمن "القطاع المحفوظ" في التّراث الوطنيّ الجزائريّ.
لم يكن هذا التّصنيف مجرّد إجراء إداريّ، بل مثّل - أخيرًا - اعترافًا بهويةٍ حضاريةٍ عميقة، وبقيمةِ مدينةٍ ظلّت لقرون طيّ النّسيان، كما شكّل خطوة ضرورية نحو إدماج تيدّيس في النّقاش العام حول حماية الذّاكرة المادية، واستثمارها في إنتاج معرفة تاريخية رصينة، تُنقذ ما تبقّى من الآثار والمعاني.
محاولات استعادة موقع تيدّيس
بعد إهمالٍ كبير دام لعشرات السّنين، لمسنا في الآونة الأخيرة بعض الاهتمام المُتزايد بموقع تيدّيس الأثريّ بوصفه أثراً مهمًّا، وأيضًا، كرافعٍ للتّنمية المحلية والسّياحة الثّقافية.
من أبرز المشاريع الّتي طُرِحت في هذا السّياق، نجد"المُخطّط الدّائم للحفاظ على المواقع الأثرية وتثمينها"، والّذي قُدّم خلال سنة 2024 من طرف الأستاذة سامية بن عباس قغوش، ضمن الأكاديمية الجزائرية للعلوم والتّكنولوجيا، حيث يهدف هذا المخطّط إلى تنسيق إجراءاتٍ قانونية، عُمرانية، تُراثية وسياحية لحماية الموقع، وفي الوقت ذاته، فتحه للزّوار وجعله فضاءً حيًا يعيد تيديس إلى صدارة المشهد الثّقافيّ.
من بين التّدابير المُقرّرة في هذا الإطار، نجد مشروع تهيئة الطّريق المُؤدّي إلى الموقع، وتركيب لافتات تعريفية ملائمة، وإضاءة الموقع ليلاً، إضافةً إلى تنظيم مساراتٍ موضوعاتية (ثقافية، دينية... ) تُيسّر على الزّوار فهم مُختلف جوانب المدينة القديمة، كما تمّ التّخطيط لأعمال تنظيف وإزالة الغطاء النّباتي العشوائيّ الّذي يهدّد المعالم الأثرية المدفونة هناك.
أمّا من النّاحية المؤسّسية، فيتولّى الدّيوان الوطنيّ لتسيير واستغلال الممتلكات الثّقافية المحمية، مهمّة الإشراف على الموقع، حيث كلّف بصيانة المواقع المصنّفة، مراقبتها، وتنظيم عمليات تثمينها وإتاحتها للعموم.

مع أنّ هذه المبادراتِ تبدو خطواتٍ واعدة، إلّا أنّ التّحديات لا تزال قائمة، حيث ما تزالُ تعاني من نقص التّمويل، هشاشة البنية التّحتية، قلّة الكوادر المُتخصصة، وغياب رؤيةٍ تَشارُكية طويلة المدى تُشرك المجتمعات المحلية في هذا المشروع.
لهذا، تتعلّق الآمال الآن بانطلاق سريعٍ لتنفيذ هذا المخطّط الوطنيّ، وبإرادة تُبين عن نيةٍ حقيقية لإحياء تيدّيس من طرف المؤسّسات الرّسمية لإخراجها من دوّامة التّهميش وجعلها من أبرز المعالم الأثرية في قسنطينة والجزائر كافةً.

مرفأ الغزوات غرب الجزائر.. معقل السردين ورصيف يربط بين الجزائر وإيطاليا
في أقصى غرب الجزائر، حيث تعانق الأمواج جدار البحر الأبيض المتوسط، يقف ميناء الغزوات شاهدًا على تحوّلاتٍ عجيبة في ذاكرة المكان.

"قوات صاعقة جزائرية في ميدان التحرير".. ياسر جلال يعتذر عن تصريحاته في مهرجان وهران
قدّم الفنان المصري ياسر جلال اعتذاره عن التصريحات التي أدلى بها خلال مهرجان الفيلم العربي بوهران، بعد الجدل الواسع الذي أثارته في مصر بشأن ما قاله عن "دور قوات الصاعقة الجزائرية في حماية ميدان التحرير بعد نكسة 1967".

"الكوّاي".. العلاج الشعبي بالنار في سوق "القيصرية " بولاية تلمسان غرب الجزائر
في عالمٍ يضجّ بشكاوى أطباء أوروبا وأميركا من غزو الذكاء الاصطناعي الذي زاحمهم في مهنتهم، ينهض الشيخ الطيب مداني باكرًا من قريته أولاد يوسف القريبة من "لالة ستي" على مشارف ولاية "تلمسان" غرب الجزائر، ليقصد دروب سوق "القيصرية" في المدينة العتيقة، حيث يمارس طقسه اليومي في حجرةٍ صغيرة بين أطلال مقهى الرمانة المهجورة.

طبق "الببوش" الجزائري.. من أزقة وهران إلى موائد أوروبا الفاخرة
في شرق الجزائر، تنتشر على قارعات الطرق عربات الفول والحمص بالكمّون، فيما تزدهر في الربوع الممتدة من وهران إلى ندرومة، ومن تلمسان إلى معسكر، عادةُ بيع طبق الحلزون المعروف محليًا باسم الببوش أو البوجغللو. يُقدَّم هذا الطبق في الكشاكيل والعربات كما تُباع الفطائر في البراري، مما يجعل غرب الجزائر معقله الأول في التحضير والاستهلاك.

احتجاز سفينة فرنسية في ميناء الجزائر.. ما السبب؟
احتُجزت السفينة الفرنسية "جان نيكولي" التابعة لشركة "كورسيكا" في ميناء الجزائر منذ وصولها صباح 12 نوفمبر، وفق ما نقلته الصحيفة البحرية المتخصصة "لومارين" وتتولى مصالح الملاحة البحرية الجزائرية إجراءات الاحتفاظ بالسفينة، دون الكشف عن أسباب القرار حتى الآن.

انهيار بناية في حسين داي.. السلطات توجّه أصابع الاتهام لصاحب ترقية عقارية
وجهت مصالح ولاية الجزائر أصابع الاتهام نحو صاحب ترقية عقارية خاصة ببلدية حسين داي، بعد انهيار نصف بناية مكونة من طابق أرضي وأربعة طوابق حيث انهارت أربعة طوابق من الجزء الأيمن للبناية بشكل كامل.

وزارة الفلاحة توقف نهائيًا عمليات قتل الحيوانات الضالة في الجزائر
أعلنت وزارة الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري، عن الوقف الفوري والنهائي لجميع حملات قتل الحيوانات الضالة عبر بلديات الوطن، مؤكدة أن هذا القرار يأتي في إطار صلاحياتها القانونية ومسؤوليتها المباشرة عن صحة الحيوانات ورفاهيتها، وفق التشريعات والتنظيمات المعمول بها.

أدين في عدة قضايا.. ترحيل جزائري ملاحق منذ 15 سنة في كندا وأميركا
رحّلت السلطات الكندية، مساء الخميس، الجزائري يحيى مداح إلى الجزائر بعد أن خسر آخر محاولة قانونية لمنع ترحيله، في قضية تمتد جذورها لأكثر من 15 سنة وتخللتها ملاحقات قضائية واتهامات أمنية وسياسية معقدة.
