تَمَاسِين .. واحة الجنوب الجزائري وأرض "الجُمعة الأخيرة"

 في هذه المدينة العريقة، تُقام صلاة الجمعة في وقت مُتأخّر عن باقي المساجد، حيث تُصلى قبل العصر بقليل، تقليد يعكِس ارتباط مدينة "تماسين" الواقعة شمال صحراء الجزائر بتعاليم الزوايا والطرق الصوفية، فما هو السرّ في ذلك؟

عند النُّقطة الكيلومترية العشرين على الطريق الوطني رقم ثلاثة الذي يربط بين ورقلة وتُقرت جنوب شرق الجزائر، تقع بلدة ذات اسم رنان يسهل ترداده على اللسان تُدعى "تَمَاسين".

للوهلة الأولى، قد يظنّ المرء أنّها بلدة نائية في قلب الصحراء، ولكن بمجرد التجول في أرجائها يتضح لك أنها جوهرة منسية، بما تحتويه من معالم فريدة لا تزال بارزة بين أطلال قصر قديم ومئذنة عريقة تعُود إلى قُرون مضت.

هذه البلدة كانت في يوم من الأيام حاضِرة من الحواضر الجزائرية، حيث لا يزال هيكلها الهندسي العام سليمًا رغم تهدُّم البيوت واهتراء الجُدران وامتلاء المكان بالرمال

أبرز ما أكسب البلدة شُهرتها الواسِعة هو زاوية "تماسين التيجانية" التاريخية، بالإضافة إلى البُحيرة الزرقاء المدهِشة، لكن الأغرب والأكثر لفتًا للنّظر هنا هو مئات الخيول البربرية التي تأقلمت ببراعة مع مناخ الصحراء القاسي.

سرّ تأخير صلاة الجمعة

على بُعد كيلومترين من مدخل بلدة "تماسين"، وبين بساتينها الغنّاء، تقع زاوية كبيرة تتميّز بألوانها البهيجة وزخارفها الأنيقة والدقيقة.

يزورها الشيوخ والأطفال للالتحاق بالصلاة؛ كان الوقت عصرًا، حين فاجأ أحد الشيوخ "الترا جزائر" قائلاً: "سنصلي صلاة الجمعة بعد قليل، حيث من عادة النّاس هُنا أن تقام في الساعة الثانية والنّصف ظهرًا، ويُنادي لها المؤذن ثلاث مرات، ثم يمكث الناس لتلاوة القرآن حتى موعد العصر، حيث يؤدّي الجميع الفريضة، ويُواصلون الذكر والتلاوة حتى الساعة السادسة مساءً."

في هذه المنطقة، تُقام صلاة الجمعة في توقيت خاص بها، إذ تُؤدّى في زاوية "تماسين" قبل العصر بقليل، بينما تُصلى في باقي المساجد في التوقيت المعتاد.

وقد أرجع المرشد عبد الباسط قدير، ابن مقدّم الزاوية، هذا التوقيت إلى ظروف وأحكام فقهية معروفة. يقول عبد الباسط: "من عادة الزوايا تأخير صلاة الجمعة لارتباط اليوم المبارك بأعمال وأذكار خاصة تُسمى "الوظيفة"، مثل قراءة سورتي الكهف والمُلك، ثم ممارسة الذّكر والتسبيح بين الصلاتين.

يستمرُّ هذا حتى المساء، ولتفادي الإرباك على النّاس نحرص على تقريب الوقتين المشتركين. لذا، تُعدّ هذه آخر صلاة جُمعة تُؤدَّى في تماسين والجزائر من حيث التوقيت الزمني، لتكون بذلك مسك ختام صلوات الجمعة."

من جانبه، يُضيف بحري قوني، أحد أبناء المنطقة، قائلاً لـ"الترا جزائر": "يأتي عدد كبير من الناس لأداء صلاة الجمعة هنا. ومنذُ طفولتي، ونحن نتمسك بهذا التقليد الراسخ.

ويسمح هذا التوقيت للعاملين في البساتين والمزارع بأداء الصلاة جماعة، خصوصًا في حال عدم تمكنهم من اللّحاق بالصلاة في المساجد الأخرى بسبب تعب العمل والإرهاق."

دبلوماسية روحية

تتربّع الزاوية التيجانية في تماسين على مساحة تمتدّ إلى 12 هكتارًا، وتُحيط بها واحات من النّخيل. أسسها مؤسسها الأول، سيدي الحاج علي التماسيني، في منطقة "تملاحت" بالسبخة عام 1805.

يضمّ ضريح سيدي الحاج التماسيني، جامع الجمعة، والمدرسة القرآنية، إضافة إلى المجمع الثقافي الذي يحتوي على مكتبة وقاعات محاضرات تُعقد فيها الندوات الوطنية والدولية

وُلد هذا المُتصوِّف العامل في تماسين سنة 1766، وتلقى الطريقة التيجانية على يد القطب الرباني أحمد التيجاني في عام 1790. وُلد أحمد التيجاني في عين ماضي بالأغواط عام 1735، وتوفي في مدينة فاس عام 1815.

في هذا السياق، يُعلّق عبد القدير قائلاً: "عاد سيدي الحاج علي إلى بلاده مصطحبًا معه نجلي أحمد التيجاني بعد وفاته بفاس، ودُفِنا بدورهما في زاوية بعين ماضي، التي تعدّ العاصمة الروحية للطريقة التيجانية في العالم."

اشتهر التماسيني بعِلمه وزُهده واهتمامه بالعمل، ويُقال عنه إنّه كان يُردِّد قولًا مأثورًا: "السبيحة والمسيحة واللويحة حتى تخرُج الرويحة"، وهو ما يعني الذكر بالسبحة، وفلاحة الأرض باستخدام المسحاة الصغيرة، والتعليم في اللوح حتى خُروج الروح.

ويُضيف قدير: "أنشأ سيدي الحاج علي زاويته هنا وزرع بجوارها نخيلاً، وشرع في تعليم أهل المنطقة القرآن الكريم والأذكار، وكذلك إصلاح ذات البين. توفي ودفن في الضريح الذي يقع على يمين مسجده في عام 1844."

تتربّع الزاوية التيجانية في تماسين على مساحة تمتدّ إلى 12 هكتارًا، وتُحيط بها واحات من النّخيل. أسسها مؤسسها الأول، سيدي الحاج علي التماسيني

يُشير المتحدث إلى أنّه "خلال العُقود الماضية، أصيبت جدران هذه المعلمة بشقوق، ولكن في فترة حُكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، تمّ ترميمها وفقًا لنمطها العمراني الأصلي. وتمّ إضافة صومعة لم تكن موجودة سابقًا".

وأضاف: "تتكون البِناية من قسمين: المجمع الديني الذي يضمّ ضريح سيدي الحاج التماسيني، جامع الجمعة، والمدرسة القرآنية، إضافة إلى المجمع الثقافي الذي يحتوي على مكتبة وقاعات محاضرات تُعقد فيها الندوات الوطنية والدولية. هناك أيضًا مدرسة قرآنية يتعلم بها نحو 400 فرد، من مختلف الأعمار والمستويات، ومن بينهم كبار السن الذين ختموا القرآن الكريم في العام الفائت."

اليوم، يرأس الزاوية البروفيسور سيدي علي التيجاني، أستاذ مُبرّز في علوم المادة وكان له دور مهمّ في جامعة منتوري في قسنطينة. تحظى الزاوية بزيارة العديد من الوفود الأفريقية والدولية الموالية للطريقة التيجانية، كما تحظى بدورها بدعم خاص من السلطات، نظرًا لأن خليفة أحمد التيجاني الأول جزائري المولد والمنشأ.

وفقًا لأحدث الإحصائيات، تُقدّر أعداد أتباع الطريقة التيجانية بحوالي 400 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم، بينهم 9 رؤساء دول أفريقية، من بينهم رئيس دولة السنغال.

هذا العدد الكبير يجعل الزاوية مركزًا دبلوماسيًا ذا تأثير ديني وسياسي في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء والساحل، عبر ما يُعرف بـ "الدبلوماسية الروحية."

وفي هذا السياق، نظَّمت الزاوية ملتقى حول هذه المقاربة الجيوسياسية قبل عامين، حضرته شخصيات علمية ودبلوماسية بارزة من مختلف أنحاء العالم.

حائِط المودّة

للترويح عن النّفس؛ يُفضّل التماسينيون الجلوس على حافة بحيرة تماسين التي تعجّ بالطيور والأسماك، حيث ينعكِس الهدوء على المكان.

تم بناء عدة مقاهي ومحطات للراحة من الخشب وجُذوع النّخيل في هذه المنطقة، ممّا يضفي على الأجواء سحرًا خاصًا. بالقرب من البحيرة، توجد بناية مربّعة الشكل على هيئة قبة تُسمى "قرابية"، بيضاء اللون ومزينة ببقع حناء تركها الأزواج الذين يعقدون قرانهم ثم يقصدون المكان.

الجدران مزيّنة بقُلوب تحوي حُروفًا رمزية لأسماء الأزواج، وكأنّ هذه العادة سابقة لظاهرة الأقفال المعلّقة على جسور الحب والفنون في باريس والبندقية

يقول شيخ مُقيم بالمنطقة لـ"الترا جزائر": "من عادة الأزواج القدوم إلى هنا، حيث يقوم الشيخ الحناي بتحنية أيديهم تيمّنًا بالخير والبركة في حياتهم الزوجية."

يُمكِنُك أن تُلاحظ بوُضوح أنّ الجدران مزيّنة بقُلوب تحوي حُروفًا رمزية لأسماء الأزواج، وكأنّ هذه العادة سابقة لظاهرة الأقفال المعلّقة على جسور الحب والفنون في باريس والبندقية.

كما يُفضّل العديد من الأهالي، سواء رجالًا أو نساءً، الجلوس على ربوة رملية لتناول الشاي، غير بعيد عن أطلال بلدة قديمة تنتهي بقبة، وتقابلها من بعيد مدينة "تماسين القديمة".

هذه البلدة كانت في يوم من الأيام حاضرة كاملة، لا يزال هيكلها الهندسي العام سليمًا رغم تهدُّم البيوت واهتراء الجُدران وامتلاء المكان بالرمال. يوحي شكلها العام بأنها كانت مدينة منظّمة وماضيها المزدهر.

 من بين الأنقاض، يُطلّ مسجِد أرجواني اللون يُشبه مسجد المنصُورة في تلمسان، من حيث الشكل والمضمون. بُني هذا المسجد المُسمّى "مسجد الحاج عبد الله المغراوي" عام 1192، وصومعته التي يبلغ ارتفاعها 22 مترًا، شيّدها محمد الفاسي لتكون مشرفة على الدور والواحات المُنتشرة في المنطقة.

قد يظنّ الزائر في البداية أنّ الناس يقصِدون هذا المكان لتأمل البحيرة الواقعة أسفل التلّة، ولكن مِضمارًا تُرابيًا ينسِف هذا التخمين.

يُوضّح معاذ بولنوار لـ"الترا جزائر": "من عادات أهل المنطقة، تربية وركوب الخيل، حيث يُقيم الفرسان عروض الفنتازيا في الملعب الترابي. لذلك، يجتمع الناس بعد عصر كل جمعة فوق الهضبات للاستمتاع بهذه الألعاب حتّى غُروب الشمس."

طلقات البارود 

في الواقع، من المألوف جدًا أن ترى النّاس في تماسين يغسِلون خُيولهم أمام الأعين الجارية أو يمتطونها بشكل طبيعي، كما لو كانت الوسيلة الأولى للتنقّل، رغم وجود السيارات الحديثة. في أحد الأيام، دعانا أحدهم للانضمام إليه إلى منطقة "الغبغوب" لحُضور عرض خيالي للفرسان، وهو حدث يُقام بمُناسبة زواج شاب خيال. وكانت المفاجأة الكبرى الوقوف أمام استعراض يضمّ خمسمائة حصان، معظمها من السلالة البربرية الأصيلة، التي كانت قد صنعت مجد الفرسان النوميديين قبل ألفي عام.

عبد الكريم قدير، الملقّب بـ"بولحية"، هو عميد ممارسي الفنتازيا في تماسين، وهو مؤسّس أول فرقة خيالة في المنطقة. يروي لـ"الترا جزائر" قائلاً: "بدأت شغفي بالفروسية في عام 1971، عندما اشتريت فرسًا بـ 500 دينار جزائري، وكان نقله قد كلف 120 دينارًا. ومع حلول عام 1996، أسست جمعية الخيالة، ومنذ ذلك الحين بدأت ظاهرة تربية وتوليد الخيول، التي نشتريها من مناطق مثل بريكة وتيارت وباتنة. واليوم، لدينا حظيرة تضمّ 500 فرس في بلدة تماسين وحدها، وأكثر من 300 حصان منها. وأغلب الخيول هنا من السلالة البربرية الأصيلة، لأنّها تتلاءم مع المناخ والطبيعة الجُغرافية للمنطقة."

أمّا عبد الرزاق النّحوي، رئيس رابطة الفروسية لولاية "تقرت"، فيُضيف قائلاً: "عدد الخيول على مستوى تقرت يصل إلى 900 فرس، دون احتساب غير المسجلة. أغلبها من سلالة "البارب"، وهو التعريف المُختصر للحِصان البربري الأصيل. وهذا الحصان يتميّز بملاءمته للفروسية والفنتازيا الجماعية، فهو متوسط البنية، ليس طويل القوائم لكنه عريض وله ناصية مرتفعة. أمّا الخيول الأخرى مثل "الكابياس" والإنجليزي، فلا تساعد في هذه الأنماط بسبب طول قوائمها. بالطبع، هناك السلالة المهجّنة بين البربري والعربي الأصيل، التي تُعد أيضًا ملائمة لهذا الغرض."

فُرجة مجانية

يستمتع سكان تماسين كل يوم جمعة بفرجة مجانية من فوق الربوة المطلة على البحيرة. أما في الأعراس، مثل هذا العرس الفجائي، فتتحول الفعالية إلى كرنفال ملون، حيث تشارك العديد من الجمعيات بألبسة متنوّعة وخاصة.

تبدأ الأفواج بالتشكّل على شكل مجموعات منظّمة، على وقع أنغام الزّرنة والربُّوخي، بينما يبدأ قائد الرتل، الملقب بالعيادي، برفع موال خاص بالصلاة والسلام على رسول الله. ثم يعطي إشارة للعدو، حيث يؤدي الفرسان حركات متناسقة تُشك فيها البنادق في أنماط بهلوانية، وتختتم النوبة بطلقات بارود أثناء الحركة. يتكرر هذا المشهد على مدار ساعات حتى غروب الشمس.

ورغم عشق التماسينيين للخيول، إلا أن ثمنها منخفض مقارنة ببعض المناطق الأخرى. فأغلى حصان هنا لا يتجاوز أربعمائة ألف دينار جزائري، بينما يصل سعره في تيارت إلى مليون دينار جزائري أو أكثر.

ويُفسر الناس هذا بأن الأهالي في تماسين ليسوا تجارًا، بل هواة فروسية، يفضلون الركوب والتمتع بالخيول دون التفكير في الربح المادي. حيث يُعتبر امتلاك الحصان عادة متجذرة في الأجيال. وعلى عكس بعض المناطق الجزائرية، حيث يُعدّ امتلاك الحصان علامة للثراء والبرجوازية، يختتم "عراب الفنتازيا" بولحية قائلاً: "أغلب خيالة المنطقة لا يملكون عشاء ليلة."