08-أبريل-2020

مجموعة من الشباب يشرفون على عملية الوزيعة بمنطقة القبائل (الصورة: الترا جزائر)

يجتمع أعيان القرية في منزل أحدهم، يتشاورون حول مكان وزمان لإقامتها، يحمل أحدهم دفترًا وآلة حاسبة، يقوم بقسمة ثمن العجول التي سيقومون بشرائها على عدد أفراد القرية بالتساوي، حيث سيُطلب من أهل القرية المساهمة بنفس المبلغ لشراء عجول يكفي لحمها جميع أهل القرية، بعدها يُنادون لاجتماع في ساحة القرية، يخرج شخص أو شخصين لوسط الجمع، يتبرّعون بثمن الأضاحي للتسريع في شرائها ثم يُعوّضَان من المال الذي سيتمّ جمعه، هذه هي أولى طقوس عادّة لوزيعة أو"ثيمشرط" في منطقة القبائل.

"ثيمشرط" ليس مجرد تقليد هدفه تقسيم حصص اللحم فقط ولكنه فرصة لالتقاء أهل القرية ببعضهم لمعرفة أحوالها   

 

عادة قديمة..

لم يثبّت لإقامة عادة "الوزيعة" تاريخ أو موسم محدّد، رغم أن غالبية القرى في منطقة القبائل تفضّل إقامتها في فصل الربيع، فيما باتت تُنظّم مؤخّرًا تزامنًا مع رأس السنة الأمازيغية، أو في المناسبات الدينية كعاشوراء والمولد النبوي أو قبل قدوم شهر رمضان، ويحرص أهل المنطقة على عدم التفريط في هذه العادة الحميدة فتجدهم يسعون لإقامتها مرّة كل عام أو عامين على أقصى تقدير.

ولا تُعتبر عادة "ثيمشرط" مجرّد لقاءٍ لتقسيم حصص اللحم فقط، بل هي أيضًا فرصة للقاء والتشاور حول أحوال العرش أو القرية، فعادة ما يقطن القرية الواحدة في منطقة القبائل عدّة عائلات كبيرة، فتتوزّع تلك العائلات لتقيم كلّ منها الوزيعة الخاصّة بها، فنجد في القرية نفسها مثلًا "وزيعة آث يحيى"، و "وزيعة آث سعيد" "، و" وزيعة آث وعلي". وغيرها.

ديمقراطية تشاركية..

كما هو معلوم، فلكلّ قرية في منطقة القبائل "برلمانها"، وهي "ثاجماعت" التي تتولّى إدارة الشؤون الجماعية لسكّان القرية أو لأهل العائلة الكبيرة أو العرش، يجتمع أعيانها مرّة كل عام أو عامين من أجل إقامة الوزيعة، تختار كل عائلة ممثلًا لها في "ثاجماعث" ليتولى جمع مساهمات العائلة من أجل الوزيعة، وكذا لطرح الأفكار التي تراها عائلته سديدة، إنّه يشبه بطريقة ما نائبًا منتخبًا.

 يعود ممثل العائلة في "ثاجماعث"مساءً ليجمع عائلته ويخبرها بأنّ "ثاجماعث" قرّرت تنظيم "ثيمشرط" يوم الخميس القادم، وسيتمّ جمع المال قبل يوم الإثنين، وثمن كل حصّة 3000 دينار مثلًا، وقد تمّ تكليف محند أوسعيذ بجمعها"، ويعتبر قرار "ثاجماعث" غير قابل للنقض بعد أن صدر بطريقة تشاورية يُراعى فيها المنطق والإجماع. ويولى فيها بالغ الاهتمام للعائلات التي لا تستطيع دفع مساهمتها لتمنح لها حصص اللحم مجّانًا، أو يتبرّع أحد المحسنين ليدفع ثمن خمسة أو ستة حصص دون أن يعلم هويّة مستحقّيها.

طقوس

بعد أن يتمّ إحصاء عدد العائلات التي ستساهم في الوزيعة، والمبلغ الإجمالي الذي يجب جمعه وعدد العجول التي سيتمّ شراؤها، يمنح أحد ميسوري الحال ذلك المبلغ لأعيان القرية ليتوجّهوا لسوق الماشية ويختاروا أفضل العجول، وغالبًا ما يتمّ الشراء على تجار من أهل الثقة والأمانة، وتٌمنح الأولوية لمالكي الماشية من أهل القرية، وبعد أن يتمّ جمع المال من أهل القرية يتم تعويض ذلك المتبرّع الذي يلقّبُ في أعراف القرية "الضامن"، لأنّه يضمن شراء العجول قبل جمع المال.

بعد ذلك، يجتمع كل سكّان القرية في مكان معلوم من أجل نحر تلك العجول، ويشارك الجميع في العملية، حيث توكل لكل مجموعة مهمّة معيّنة، فمجموعة تنحر العجل وأخرى تحمله لتباشر عملية القطع، فيما تتكفّل مجموعة أخرى بعملية غسل وتنظيف الأحشاء وغير ذلك، كل هذا في جوّ أخوي تغمره الصيحات والنكت وتبادل الأدوار في صورة عميقة عن التعاضد والتآزر.

لتأتي بعدها المرحلة الأخيرة، فبعد أن يتمّ تقطيع العجل إلى حصص صغيرة، توضع في أكياس بلاستيكية مصطفة واحدة تلو الأخرى بعدد الحصص، فيُنادى على الأشخاص بأسمائهم ليأخذ كل واحد حصّته، ويٌستحب أن يرافق الأبناء أولياءهم كي تترسّخ في مخيالهم هذه العادة القديمة.

لحم "مبارك"

في بعض الأحيان تفوق قيمة العجول المبلغ الذي تمّ جمعه من طرف أهل القرية، وهنا لا يطلب أعيان القرية من العائلات أن يضيفوا مالًا، بل هناك طقسًا يرافق عملية الوزيعة، ففي يوم النحر، يحضر إمام ويجلس محاطًا بشيوخ القرية، ويستقبل الصدقات والتبرّعات، أو ما يسمى بـ "الوعذة"، إنها صدقات من بعض أهل القرية أو من خارجها، يريدون زكاة أموالهم أو من يعاني من كربة في حياته، فيطلب من الإمام أن يدعو له بجاه هذه الوحدة والأخوة أن يزيل كربته، فنرى الإمام يحمل ظرفًا فيه مبلغ مالي فيقول "هذه أخت لنا حُرمت من نعمة الولد، قصدت جمعكم هذا، طامعة في صفاء قلوبكم، فادعوا لها، فتتوالى الدعوات لها بصوت مسموع عسى الله يرزقها بالذريّة التي تشفي ظمأ أمومتها".

يدعى إلى عشاء "ثيمشرط" أفراد من خارج العائلة ويعتبر ذلك من ثوابت هذه العادة الجزائرية 

وحين تصل حصص اللحم إلى المنازل، تشرع النسوة في تحضير عشاء الوزيعة، أو "إمنسي نتمشرط"، حيث يُدعى إليه الأهل والأحباب، فمن ثوابت هذا العشاء، أن يتم دعوة الآخرين من خارج العائلة والقرية لتناوله، في هذه الليلة تذوب كلّ الفوارق الاجتماعية، فليس هناك فقير وغني في القرية، فالجميع يجلس مع أبنائه على مائدة تزينها صنوف الأطباق الفاخرة باللحم.