15-يوليو-2022
معتقلون جزائريون في فترة الاستعمار الفرنسي 1956 (الصورة: Getty)

معتقلون جزائريون في فترة الاستعمار الفرنسي 1956 (الصورة: Getty)

ما تزال عبارة "الحبس كَيَان" تدوي بقوة في أذهان كثير من الجزائريين، وتستحضر المقولة روايات ومشاهد عن مكان قضى فيه آلاف الجزائريين نحبهم بعد نفيهم من طرف إدارة فرنسا الاستعمارية إلى غويانا أو "جزيرة الشيطان"، إذ يعتبر من أكثر السجون قسوة ووحشة، فما هي قصة "الحبس كَيان" وأين يقع؟ وفي أيّة فترة تأسس المعتقل؟ وماذا نعرف عن هؤلاء السجناء الجزائريين وعن جزيرة الشيطان؟

سجّلت عدة وفيات وسط السجناء الجزائريين بسبب الأمراض الموسمية وسوء التغذية وسوء المعاملة والعنصرية والأعمال الشاقة

بفضل ما تناقله الأحفاد، يتحدث مؤرّخون عن قصة جزائريين تم نفيهم إلى كاليدونيا الجديدة خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي ما بين 1864 و1897، حيث رُحّل أكثر من 2100 جزائري، وحوكموا أمام مجالس عسكرية خاصة، وتقرر نقلهم إلى هذه المستعمرة الفرنسية الواقعة وراء المحيط الهادي، وتبين أن هناك سجناء جزائريين  المعاناة نفسها وتعرضوا للنفي والترحيل إلى معسكرات ومعتقلات أخرى، من بينها إلى غويان الفرنسية إبان الفترة الاستعمارية، وتداول من تمكن من البقاء على قيد الحياة في مستعمرة غويانا قصص التهجير والإبعاد عن الوطن.

غويانا الفرنسية

تقع غويانا (Guyane) على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، ولها حدود مع دولتي البرازيل وسورينام، وهي من الأقاليم الفرنسية فيما وراء البحار، وتتكون من ثلاث جزر متجاورة، ومنذ القرن الخامس عشر تولت حكم المنطقة كل من الدول المستعمِرة البرتغالية والبريطانية والهولندية، لتتم السيطرة في الأخير على المنطقة من طرف القوات الفرنسية.

جزيرة الشيطان

بعد اعتلاء نابليون الثالث للعرش في فرنسا، ارتبطت غويانا الفرنسية تاريخيا بكونها مستعمرة عقابية من أقسى المعتقلات والمحتشدات وكانت تسمى "جزيرة الشيطان"، ظلت فرنسا ترسل إليها المحكوم عليهم بالأعمال الشاقة وتنفي إليها السجناء السياسيين والمتمردين والثوار واللصوص، كما عُرفت معسكرات سجن "كيان" هناك على أنها من أبشع المحتشدات، ليتم غلق هذا السجن سنة 1945 وإعادة السجناء إلى فرنسا.

بدأت المستعمرة العقابية الفرنسية في استقبال أولى الدفعات من الجزائريين بعد الإعلان عن نشأة معسكر غويانا سنة 27 آذار/مارس 1852، وتم الإعلان عنه رسميًا من قبل نابليون الثالث في 30 أيار/ماي 1854.

تقدر المصادر التاريخية عدد الجزائريين الذين تم ترحليهم إلى الجزيرة العقابية “كيان"  بـ 20145 جزائريًا، من بينهم 30 امرأة، و300 من رجال المقاومات الشعبية، حوكم أغلبهم في محاكم جماعية على غرار 212 جزائريًا مقاومًا من مدينة قسنطينة، أما 18 ألف الباقية، أغلبهم من الجزائريين دفعتهم ظروف الاستعمار إلى الدفاع عن الشرف، والحق في الدفاع عن المال والعرض، أو ممن فرضت عليهم الظروف القاسية الاعتداء على المعمرين من أجل لقمة العيش، وتصفهم المحاكم الاستعمارية بـ "القذرين".

خلال فترة 1852 إلى غاية 1938، كانت السلطات الاستعمارية عبر المحاكم العسكرية الخاصة الواقعة في كل من الجزائر ووهران وقسنطينة وعنابة، تحاكم كل من يتمرد على سلطتها، سواءً من المقاومين أو من المواطنين العاديين، حيث يحاكمون ويقرر إرسالهم وترحليهم إلى جزيرة غويان.

كان معتقل الحراش" maison carrée" مكانًا يُجمع فيه المساجين، و يتم نقلهم عبر سفن حربية إلى موانئ فرنسية مثل "Rochefort" "Brest" و"Toulou"، و كانت هناك السفن المحملة بالسجناء التي يذكر منها (la Loire ،la Martinière ) حيث يوضع السجناء المرحلون إلى غويانا في أقفاص ضيقة وصغيرة تفاديًا للتمرد والعصيان، وخلال مدة رحلة العبور التي تمتد إلى أربعة أسابيع، لقي العديد من المرحلين حتفهم قبل الوصول نحو غويانا الفرنسية.

في السياق نفسه، تذكر مصادر تاريخية أن العديد من السجناء الجزائريين تعرضوا إلى الاختناق والموت بسبب الأمراض وسوء التغذية وغياب أدنى شروط الحياة الكريمة، وكانت جثث الموتى ترمى في البحر خلال رحلة العبور، أما من يصل إلى الجزيرة فلا يصمد إلا أيامًا وليالٍ معدودة، وكان معدل البقاء على الحياة لا يتعدى العام الواحد بسبب الجوع والأمراض والمعاملة السيئة.

يروي أحد المساجين مشهد نقله من معتقل سجن الحراش إلى الميناء: "كنا مكبلين بالسلاسل، منهكين من الجوع والأوجاع، وأمام مدخل الميناء كانت تقف نساء وعائلات المساجين، بعضهم يودعون السجناء إلى مصيرهم المجهول، أما بعض العائلات فكانت تتطلع إلى أخبار الأزواج المساجين والبحث عن أبنائهم".

لم يتمكن الجزائريون المرحلون من جلب زوجاتهم وأبنائهم، حيث تم توظيف الأطفال في حقول ومزارع العنب، أما النساء فقد صرن خادمات في بيوت المعمرين، أما في المعتقل، فقد تم عقد قران 13 امرأة جزائرية مرحلة، أما من تبقى ونظرًا للظروف الصحية والمعيشية لم يتمكن من الزواج، وقد استطاع بعض الأزواج بعد انقضاء مدة السجن مغادرة المعسكر، والانتقال إلى كاليدونيا الجديدة.

الظروف المعيشية

كانت الظروف المعيشية في الجزيرة صعبة وقاسية، فالمناخ الاستوائي ونسبة الرطوبة العالية ضاعفوا من المتاعب الصحية للجزائريين المرحلين، والمحكوم عليهم بالأعمال الشاقة، زيادة على انتشار الأمراض في منطقة غابية، إذ تشكل غويان 90 ٪ من محمية الأمازون، تنتشر فيها الأمراض الموسمية والمعدية والأوبئة على غرار الملاريا والطاعون والسل والجرب، وقد سجلت العديد من الوفيات وسط الجزائريين، إضافة إلى سوء التغذية وسوء المعاملة التمييزية والعنصرية والأعمال الشاقة.

أمام انسداد الأفق وانتظار الموت الحتمي، حاول العديد من الجزائريين الفرار من جهنم المعتقل والمعسكر، لكن الجزيرة كانت مقبرة جماعية لكل من يحاول الهروب، فقد وجد بعض من فروا من الجزائريين وسط أدغال من الغابات الشاسعة، وقد تعرضوا إلى الافتراس من النمور والضباع، ومن نجا منهم توفي بسبب الامراض الوبائية ولذعات الحشرات والبعوض، ولم يتمكن أيّ سجين جزائري من الفرار ما عدا بعض الأوروبيين المنفيين الذين استفادوا من مساعدة من طرف أنصارهم.

مأساة الجزائريين في غويان تحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة التاريخية لمعرفة مصير ضاحيا سجون الاستعمار الفرنسي

على العموم، تحتاج قصة مأساة الجزائريين الذين تم ترحليهم إلى غويانا الفرنسية إلى المزيد من البحث والدراسة التاريخية لمعرفة مصير آلاف من المواطنين الجزائريين ضحايا جرائم فرنسا الاستعمارية، حيث بقيت المصادر والمؤلفات التي تتحدث عن سجون غويان شحيحة جدًا، وخلفها تختبئ الكثير من الحكايا والقصص تتردد بين العائلات التي فقدت أبناءها في غويانا.