سار الحراك الشعبي في الجزائر، في منحىً تصاعدي خلال الأشهر الأخيرة، تجسّد ذلك في المطالب التي رفعها المحتجّون، وتزايد الوعي الجماهيري الذي جنّبه عدّة عقبات، كانت تتجّه نحو حدوث انزلاقات أمنية ونزاعات عنصرية وإيديولوجية.
كانت بداية الحراك الشعبي من مدينة برج بوعريرج الداخلية، حين خرج عشرات المواطنين يطالبون بإسقاط مشروع العهدة الخامسة
الشرارة الأولى
ميدانيًا؛ كانت أولى شرارت الحراك من جامعة باب الزوار للعلوم والتكنولوجيا بالعاصمة الجزائرية، عندما أعلن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ترشّحه لـ عهدة خامسة في العاشر فيفري/ فبراير الماضي، وهو ما أخرج الطلبة ليلًا للتعبير عن رفضهم.
اقرأ/ي أيضًا: الحراك الجزائري حصاد تراكمي.. لا شيء من العدم!
تاريخيًا، كانت بداية الحراك الشعبي من مدينة برج بوعريرج الداخلية، حين خرج عشرات المواطنين في الثالث عشر فيفري/ فبراير الماضي، رافعين شعارات جريئة تطالب بإسقاط مشروع العهدة الخامسة.
بعد ثلاثة أيّام من تلك الحادثة، انتفضت مدينة خراطة التابعة إداريًا لولاية بجاية شرقي العاصمة، شارك فيها محامون ومواطنون وفاعلون سياسيون، كان مطلبها رفض ترشّح الرئيس السابق لولاية خامسة، ولم تنل هذه المسيرة كسابقتها حظّها من التغطية الإعلامية، خاصّة في ظلّ الحصار القانوني المفروض على وسائل الإعلام.
هنا، يعلّق الهادي أمقران، الأستاذ في العلوم السياسية من جامعة بجاية للعلوم السياسية في حديث إلى" الترا جزائر"، بأنّ كل شيء يومها كان يُوحي بأن جناح الرئيس القويّ سيُقدم على انتحارٍ سياسي، إذ أن الشارع في مدينة خراطة (منطقة القبائل الصغرى)، كان مصرًّا على مواصلة المسيرات والمظاهرات لمنع حدوث هذه "المهزلة"، على حدّ تعبيره.
توّغّل الرفض الشعبي من المدينة الصغيرة، متّجهًا نحو مدينة خنشلة جنوبي شرق الجزائر، ففي يوم 18 فيفري/ فبراير، وكان السبب؛ هو منع تنظيم تجمّع شعبي لأحد المرشّحين، بأوامر من رئيس المجلس الشعبي البلدي، فتوجّه مواطنون إلى مقرّ البلدية وأنزلوا يافطة كبيرة تحمل صورة الرئيس السابق، وكانت هذه ثالث حادثة سبقت انطلاق الحراك الشعبي عبر كامل التراب الوطني.
الشرارات الثلاث، فتحت شهية الناقمين على الوضع السائد في الجزائر، وأعطت قراءات أوّلية عن حجم الرفض الشعبي للرئيس السابق، ليتمّ إعلان يوم الجمعة 22 فيفري/ فبراير الماضي يومًا لتوحيد هذه الاحتجاجات، وتوجيه دعوة عامة للشعب الجزائري عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بالانضمام إلى مسيرات داعية لإسقاط العهدة الخامسة.
تجنّد مجموعة من النشطاء لإعلان أوّل يوم في مسيرة الرفض، وضمّت القائمة سياسيين وحقوقيين وطلبة الجامعة، فكانت سرعة الاستجابة للحراك غير متوقّعة، إذ تمركزت هذه المسيرات في العاصمة الجزائرية والمدن الكبرى ذات التعداد السكاني الكثيف، خاصّة في منطقة القبائل؛ وهذا التمركز له علاقة بالطابع السياسي والنضالي الذي تتميّز به المنطقة، ولكن طبيعة المطالب السياسية كانت موحّدة، وخارج دائرة المطالب الفئوية والمناطقية.
التهميش والثورة
عرف الحراك الشعبي في الجزائر عدّة تحوّلات، تقول فاطمة الزهراء عزوق، أستاذة علم الاجتماع والاتصال في جامعة أم البواقي، "وأصبح طقسًا يوميًا ولم يقتصر على الجمعة فقط، وصولًا إلى المدن الحدودية مع الجارة الشقيقة تونس مثل تبسة وبئر العاتر وعنابة، وهي مدن تعاني من مشكلات اقتصادية وتهميش سياسي".
وأوضحت الأستاذة عزوق في حديث إلى" الترا جزائر"، أن الحراك توسّع فيها كردّ فعل على سياسات التهميش لأوّل مرّة، وظهرت حركات احتجاجية موحّدة المطالب والتوقيت، وصولًا إلى مناطق الصحراء الجزائرية التي شهدت سابقًا احتجاجات مطلبية بسبب البطالة.
تستطرد المتحدّثة، أن الشباب في هذه المناطق (النعامة، أدرار، بشار، الأغواط تندوف، وتمنراست)، تجاوز ما يُعرف بالمؤسّسات العرفية؛ كالأعيان والعقلاء التي كانت تحكم المنظومة الاجتماعية في هذه الولايات، وأصبح الشارع يرفعُ شعار" كفى تهميشًا وتتفيهًا لعقول الجزائريين"، متجاوزًا المطالب الاجتماعية نحو المطلب السياسي، وهو رحيل النظام ورموز الفساد في عهد الرئيس بوتفليقة على حدّ قولها.
سقف المطالب
الملاحظ أيضًا، أن جغرافية الحراك الشعبي في الجزائر تختلف من حيث الانطلاقة، فما يُعرف عن مدن الصحراء مثلًا، أنها مدن بطيئة الحركة سياسيًا، عكس مدن الشمال والمركز، غم الاحتجاجات المارطونية التي ظهرت في السابق في مدن الجنوب وصمدت لعدّة أشهر مثل "احتجاجات البطالين" و"الغاز الصخري".
هنا، يشرح الباحث علم الاجتماع السياسي الأستاذ عمار دلهوم في تصريح لـ "الترا جزائر"، أنه خلافًا للثورة في سوريا التي بدأت من منطقة درعا أو تونس التي بدأت من الهامش أيضًا، من مدينة سيدي بوزيد الداخلية، واستمرّت الاحتجاجات لمدّة تجاوزت 11 يومًا، ثم انتقلت إلى مدن أخرى قبل أن تصل إلى العاصمة تونس، بدأ الحراك الشعبي في الجزائر من العاصمة الجزائرية، ثم انتقل إلى بقيّة المدن في العمق والهامش.
واعتبرت الأستاذة عزوق، بأنّ الجمعة الثالثة؛ أي يوم الثامن مارس/ آذار الماضي، وعقب تقديم ملف ترشّح الرئيس بوتفليقة، اشتعلت المدن الجزائرية دون استثناء رافضة هذه الخطوة جملةً وتفصيلًا، وهو ما دفع الرئيس السابق إلى الاستقالة على حدّ تعبيرها.
وأشارت المتحدّثة إلى أن انحياز المؤسّسة إلى الشارع، هو ما طمأن الشعب بأن السلطة الفعلية في البلاد غير موافقة على قرار ترشّح بوتفليقة، تجسّد ذلك في خطاب نائب وزير الدفاع قايد صالح.
نفس طويل
من الطبيعي أن يعرف الحراك الشعبي في السياق الجزائري تصاعدًا وتراجعًا أيضًا، يقول الصحافي مروان الوناس في حديث إلى" ألترا الجزائر"، فأعداد المتظاهرين كانت تعرف تباينًا بين مسيرة وأخرى، غير أنّها حافظت على استمراريتها على حدّ قوله.
يُقرّ الصحافي الوناس، الذي شارك في جميع مسيرات العاصمة الجزائرية حتى الآن، بأنّه بعد أربعة أشهر منذ انطلاق الحراك، ثبت أن الشعب يملك نفسًا طويلًا، موضّحًا أن تمركزه في المدن الكبيرة هو أمرٌ طبيعي، لأن الحواضر عادة هي القريبة من مؤسّسات الدولة ودوائر صناعة القرار ومقرّات وسائل الإعلام، وبرّر ذلك بالكثافة السكّانية في هذه المدن، ومستوى الوعي، واحتكاك الناس ببعضهم البعض على عكس ما نشاهده في القرى، يضيف المتحدّث.
تُسهم البيئة الاجتماعية التي تختلف بين البوادي والحواضر، في حدّة الحراك وقوّته، هنا يشير الوناس، أن المدن البعيدة عن مراكز صناعة القرار، تجعل المواطنين أقلّ تأثرًّا بما يدور في الساحة السياسية، وأقلّ إدراكًا لتبعات الأزمة التي تعرفها الجزائر على حدّ تعبيره.
التركيز على العاصمة الجزائرية بحسب المتحدّث، ليست خصوصية جزائرية، مردفًا: "أن عواصم العالم هي واجهة كل الدول الأخرى، لأنها مركز القرار السياسي، وتوجد بها غالبية مؤسّسات الدولة والدبلوماسيات، لذلك فهي تحمل رمزية كبيرة لذلك يتم التركيز عليها".
هدف واحد
في قراءة مغايرة، قال الناشط السياسي محمد سيدمو، أن انتشار الحراك في بدايته كاد يكون متساويًا في كل مناطق البلاد، تعبيرًا عن شعور موحّد جمع الجزائريين على أهداف محدّدة، تم تحقيقها بدءًا بإفشال مشروع العهدة الخامسة، ثم مشروع تمديد العهدة الرابعة، موضحًا في حديث إلى"الترا جزائر"، أن الحراك مع مرور الوقت، بدأ يتركز في مناطق معينة احتفظت بنواته الصلبة، وعلى رأسها العاصمة التي تمثّل مركز الثقل السياسي في أي حركة شعبية.
في الحراك الشعبي الجزائري، مراكز أخرى لا تقلّ أهميّة عن العاصمة، مثل ولاية برج بوعريريج التي تشكّل هي الأخرى صخرة في بناء هذا الحراك، بينما احتفظت منطقة القبائل كذلك بطابعها الثوري المتمرّد في مواجهة السلطة القائمة.
أما في الجنوب الجزائري، الذي يحتلّ رمزية خاصّة بفعل التهميش الذي طاله في سنوات الرئيس السابق، فكان الحراك قويًا في بداياته ثم بدأ يتراجع ليس لفتور الحماس الثوري، بل لظروف مناخية قاهرة بفعل الحرارة الشديدة التي أدّت إلى تراجع المسيرات النهارية وابتكار أساليب حراكية جديدة تتمثل في المسيرات الليلية، شهدتها هذه الولايات في شهر رمضان الماضي.
تُسهم البيئة الاجتماعية التي تختلف بين البوادي والحواضر، في حدّة الحراك وقوّته
أخيرا، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك، دورًا بارزًا في الثورة الشعبية السلمية، كما أسهمت في التصعيد والتمدّد الجغرافي للحراك، وساهمت في بروز تنافس مناطقي حول تقديم أفضل جهد نضالي وشعبي وتنظيمي في المسيرات، خاصّة على مستوى الشعارات، التي عمدت في كثير من الأحيان إلى إظهار المطالب السياسية في صورة ساخرة وتهكّمية.
اقرأ/ي أيضًا: