02-أكتوبر-2018

ما أصعب الكلام في بيئة لا تؤمن بالحريات (فايز نورالدين/ أ.ف.ب)

سقط صديقي "ن" على فمه، فلم يعد يكلّم النّاس إلا رمزًا. زرته في المستشفى، فكتب لي في ورقة: "تصوّر أنّ الجزائريين يستيقظون يومًا، فيجدون أنفسهم مثلي عاجزين عن الكلام". قلت: سنتخلّص حينها من خزّان كبير من الكلام غير الموزون وغير اللّائق وغير المجدي وغير اللّطيف وغير الصّادق، فقد بتنا نملك رصيدًا مخيفًا منه في الواقع وفي فيسبوك.

 لك أن تعاين المدن الجزائرية كلها، فلن تجد إمكانية لأن يكون الشابّ مرتاحًا مع صديقته، لا في حديقة ولا في فندق ولا في شقّة

كتب: "لماذا بات يستعمل الجزائريون أعضاءهم التّناسلية كثيرًا في كلامهم، فكأنّهم الوحيدون الذين يملكون ذلك في العالم؟". قلت: لعلّ العكس هو الدّافع إلى ذلك. قال: "كيف؟". قلت: إنّ الكبت الناتج عن عدم امتلاك الأعضاء التّناسلية أخفّ من ذلك النّاتج عن امتلاكها مع صعوبة استعمالها. لك أن تعاين المدن الجزائرية كلها، فلن تجد إمكانية لأن يكون الشابّ مرتاحًا مع صديقته، لا في حديقة ولا في فندق ولا في شقّة، فمن جهة ارتفعت المهور، ومن جهة تمّت محاصرة الفضاءات التي يلجأ إليها الشباب. 

اقرأ/ي أيضًا: خارج سكة القطار الجزائري.. مسارات خاطئة

قال، أقصد كتب: "آه لو يصاب الجزائريون بالبكم مثلي، سنستمتع بحملة انتخابية صامتة، وترتاح آذاننا من وابل الكذب". قلت: وسنشاهد عروضًا مسرحية ومسلسلات صامتة، وسنرتاح من وابل السذاجة. قال: "وسنسمع خطب جمعة صامتة، ونرتاح من وابل الاستغفال". قلت: سيشير الإمام حينها إلى السماء، وهو يتحدّث عن الله، فكيف يفعل، وهو يتحدّث عن الجنابة وخروج المني والمذي؟

ثم قال: "حينها سيحرص الأب على أن يبقى أطفاله في البيت، حتى لا يُحرج معهم، أو تكون فرصةً لأن يُغيّر العقلية، فيسمح لهم بأن يتحدّثوا عن أجسادهم من غير حرج". قلت: وستصبح المحطّات الفضائية صامتة، فنرتاح من وابل الثرثرة. فقال: "أما القنوات الإذاعية، فتغلق أثيرها لأنها تعتمد على الكلام".

وقلت: وستكون شركات الهاتف النقّال في طليعة الخاسرين، فقال: "وستتعزّز علاقة الكتّاب بالمفهوم الحقيقي لفعل الكتابة، ويتخلّصون من أوهام المنصّات"، فقلت: أما رئيس الجمهورية، فسيتخلّص من عقدة صمته، الذي بدأ منذ عام 2012، لأنها إذا عمّت خفّت. قال: "أخشى أن يعجبه الحال، فيأمر بديمومة الحالة، ويصبح الكلام خيانة للوطن والشهداء، فالرجل بات يرى كل معارضة له ولإرادته خيانة وطنية". قلت: ما أروع أن نشاهد مقابلة في كرة القدم، من غير صراخ وبذاءة زائدين.

تدخل صديق ثانٍ فقال: "لا تفرحوا كثيرًا، ذلك أن فيسبوك سيصبح أكثر قذارة وبذاءة ورداءة وسطحية وعدوانية، لأن الجزائريين سيعوّضون، من خلاله، وقد يتخذون من أعضائهم التناسلية رموزًا للتعبير عن حالات نفسية معينة".

"إذا حل الصمت على الجزائريين، يغدو فيسبوك أكثر قذارة وبذاءة، لأنهم سيعوضون من خلاله، وسيتخذون من أعضائهم التناسلية رموزًا للتعبير"

قال صديقي "ن"، أقصد كتب: "حينها سيصبح الدخول إلى فيسبوك مع الأسرة، في حكم الدخول إلى مبغى، فيحرص الواحد منا على إخفاء حسابه، كما يحرص على إخفاء عورته. قلت: كيف صار فمك الآن يا "ن"؟ كتب: "لقد حققت أمنية هدّدني بها محيطي منذ صغري: "نجيك نريّبلك فمّك" (سأحطّم لك فمك). ما أصعب الصمت، وما أصعب الكلام، في بيئةٍ لا تؤمن بالحرّيات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في علاقة الجزائريين بالنوم والكسل.. أسئلة يقظة

"المطبات" كسياسة ممنهجة في الجزائر