31-يناير-2025
 هجرة غير نظامية في الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

هجرة غير نظامية في الجزائر (فيسبوك/الترا جزائر)

كنّا في السابق نسمع عن قصص "الحرقة" على قوارب صيد صغيرة إلى الضفة الأخرى، من خلال ما يتداوله الناس أو تتداوله الصحف، وأحيانًا نسمع عنها مثل الحكايا العجائبية القديمة،  فأصبحنا نشاهدها صوتًا وصورة، حيث ينشر بعض المهاجرين الناجين فديوهات لهم على متن قوراب "الموت" مثلما يُطلق عليها، وهم يشقون الأمواج نحو المجهول، بل ولم نعد نشاهد في هذه الفيديوهات والصور شبابًا ومراهقين تقطعت بهم  سبل العمل والعيش الكريم، بل أصبح تداول فيديوهات تُظهر نساءً وأطفالًا ورضعًا مع ركاب زوارق الهجرة أمرًا مألوفًا جدًا.

الأكاديمي محمد المنصف سريدي لـ "الترا جزائر": الهجرة غير نظامية لعائلات بأكملها مردها تغير كبير في الملمح الاجتماعي لدى الجزائريين 

قبل أيام، استيقظت ولاية باتنة شرقي الجزائر قبل أيام، على خبرٍ صادم ٍمفاده فقدان تسعة أفراد من عائلةٍ واحدةٍ، هي عائلة عباس، حاولوا الهجرة بطريقة غير نظامية عبر البحر نحو الضفة الشمالية للمتوسط، انطلاقًا من ولاية تيبازة الساحلية وسط البلاد، وإن كانت هذه الحالة لا تعد الأولى من نوعها، إلا أنها تنبئ بتحوّل في ظاهرة "الحرقة" لدى الجزائريين إلى رحلات أسرية.

ما الذي يدفع عائلة بأكملها للمخاطرة بهذا الشكل بأبنائها على متن قارب صغير، بمحرك لا يقوى على مجابهة الأمواج؟ يتساءل  متابعون لهذه القصة المأساواية، فقد اختفت هذه العائلة المكونة من أسرتين صغيرتين، معظم أفرادها من النساء والأطفال، في مغامرة يعرفون خطورتها مسبقًا. فهل بلغ بها الجوع والفقر واليأس مبلغًا جعلها تفاضل بين الهجرة والبقاء؟ علمًا أن رحلة مثل هذه تكلف مبلغًا كبيرًا بالنظر إلى عدد أفرادها.

قد لا نتوقع أن "الحرقة" أصبحت مشروعًا في حدّ ذاته، فهو كان في السابق وجهة الشباب الباحثين عن إثبات الذات والعمل وإعالة أسرهم، وتحول الأمر إلى رحلة نحو المجهول، فبعد النجاة من أمواج البحر، فما ينتظر المهاجر هو مصير مجهول آخر، إذ لا يمكن توقّع ما سيكون مصيرهم هناك، فكل المغامرة مبنية على "رحلة قدرية" قد تنتهي بإلقاء القبض على المهاجر وإعادته إلى بلاده أو التشرد دون الحصول على فرصة عمل، وبالتالي فإن تحول الهجرة غير النظامية إلى مشروع في حدّ ذاته ليس للشباب فقط بل مشروعًا أسريًا أيضًا، هو أمر أصبح يثار في نقاشات اجتماعيين وخبراء.

رغم الجهود المبذولة من قبل مصالح الأمن المشتركة في إحباط محاولات الهجرة غير النظامية والحد من نشاط شبكات تهريب البشر، إلا أن الظاهرة تظلّ موجودة وتطورت بشكل يستدعي تدخل الجميع لتطويقها، بالنظر إلى أن الإقدام على "الحرقة" بحرًا لم يعد يقتصر على فئة الشباب الذكور فقط، إنما التحق به في السنوات الأخيرة القصّر والنساء، مما جعل بعض القوافل تضم عائلات بأكملها في تصرّف يصعب إيجاد أيّة مبررّات له، نظرًا لخطورة هذه الرحلات.

عدة حالات

لقد عاشت عائلة عباس بولاية باتنة  حالة من الترقب والهلع، جراء انقطاع أخبار تسعة من أفرادها منذ نهاية السنة الماضية، وهم الذين قرروا "الحرقة" بحرًا انطلاقًا من ولاية تيبازة، ضمن رحلة عبر قوارب الموت ضمت 18 شخصًا، رفقة أسرتيهما المكونتين من شقيقين وزوجتيهما وأبنائهما الأربعة إضافة إلى  ابن شقيق لهما،  حيث لم تتأكّد عائلتهم بولاية باتنة، لعدة أيام، إن كانوا قد تمكنوا من الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط أم أنهم قد أصبحوا في عداد الموتى الذين تبتلعهم مياه البحر الغادرة.

وفي نهاية كانون الثاني/جانفي الماضي، حُلت خيوط هذه القصة المأساوية، بعد العثور على جثتين متحللتين تنحدران من هذه العائلة بسواحل ولاية جيجل إلى جانب جثتين أخريين، وعُرف مصير هذه العائلة التي انقطعت أخبارها لأيام، وهو مايفتح قائمة جديدة من الأسئلة حول أسباب مغامرة هذه الأسرة بالأطفال والنساء في رحلة خطيرة مثل هذه دون الاكتراث بالعواقب؟

انتهت قصة 

في بداية العام الجديد، أفادت تقارير بالعثور في سواحل ولاية مستغانم غرب الجزائر ، على جثث أم وأربعة من أطفالها، بعد انقلاب القارب الذي كان يقلهم في رحلة غير نظامية باتجاه السواحل الإسبانية.

ونهاية كانون الأول/ديسمبر المنقضي، تداول جزائريون على مواقع التواصل الاجتماعي حادثة غرق قارب على متنه 32 جزائريًا انطلقوا في رحلة موت يوم السبت 28 كانون الأوّل/ديسمبر على الساعة الثامنة مساءً من  أحد سواحل ولاية بومرداس، حيث توفي 28 شخصًا بينهم عدة قصّر وامرأة حامل، وفق روايات عدة تم تداولها ضمن الصفحات التي تهتم بأخبار الحراقة.

ويُشار إلى أن أغلب هذه الحالات لم يتم تأكيدها من قبل هيئات رسمية، إلا أن إقبال عائلات على الهجرة غير النظامية عبر قوارب الموت أصبح أمرًا متداولًا، وبالخصوص في الولايات الساحلية التي تنطلق منها هذه القوارب، حتى وإن كان ما يزال ضمن  حالات منعزلة قد لا ترقى لتُصنف على أنها ظاهرة اجتماعية، وفق التقارير التي توردها الصحافة أو الأخبار التي يتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي.

وتتطابق تقارير أمنية تخصّ حالات مشابهة لهذه الحوادث ،ففي تشرين الأول/أكتوبر 2020 اعترضت المجموعة الإقليمية لحراس السواحل بولاية مستغانم قاربين للهجرة غير النظامية، وأوقفت 26 شخصًا في عرض البحر، كانبينهم امرأتان.

تغيّر؟

إلى هنا، يرى أستاذ علم الاجتماع العائلة بجامعة قالمة محمد المنصف سريدي أن رصد حالات هجرة غير نظامية لعائلات بأكملها مرده "تغير كبير في الملمح الاجتماعي لدى الجزائريين الراغبين في الحرقة التي تحمل بعدًا اجتماعيًا والقطيعة مع كل ما هو ماضٍ".

لكن الأستاذ سريدي لا ينكر أن هذه القطيعة تكون أحيانًا مؤقتة، لأنه عند الوصول إلى الضفة الأخرى نلمس عند البعض حنينًا للوطن والمجتمع الذي جاؤوا منه.

وأضاف سريدي أنه بمنظار علم الاجتماع فإن الهجرة غير النظامية تغيّرت حتى في أسبابها وأهدافها، حيث لم تعد تقتصر اليوم على هجرة اليد العاملة من أجل البحث عن القوت وتحسين وضع العائلة في الجزائر، وهي التي كانت موجودة لدى الأجيال السابقة، لأنها لم تعد اليوم متعلقة فقط بالغرب الجاذب، إنما أيضا بسبب رتابة الحياة الاجتماعية عند من يقبلون على فعل "الحرقة".

ولاحظت أستاذة علم الاجتماع بجامعة الجيلالي بونعامة بخميس مليانة الدكتورة أم الخير سحنون في دراسة قامت بها بعنوان "الهجرة غير الشرعية لدى الشباب الجزائري الأسباب والعوامل" أن الهجرة غير النظامية في الجزائر "لم تعد مقتصرة على فئة معينة، ولا جنس معين، حيث اقتحم الجنس الآخر هذا المجال، فكثيرا ما نشاهد أو نقرأ أو حتى نسمح عن أسماء لنساء وحتى قاصرات دخلن هذا العالم، بل حتى الأطفال والمراهقين وكبار السن دخلوا هذا العالم، وهو ما تؤكده الإحصاءات والأرقام.

ولاحظ الأستاذ سرايدي أن هذا التغير في "الحرقة" يظهر بكونها أصبحت تمس اليوم حتى الطبقة المتوسطة والمتعلمة، ولم تعد "حرقة" فردية إنما جماعية في مرات عدة، إضافة إلى أن أسباب "الحرقة" لم تعد بالضرورة اقتصادية كما كان في هجرة الأجيال السابقة حتى وإن ما تزال هي السبب الغالب في عدة حالات.

ولفت أستاذ علم الاجتماع والعائلة  بجامعة قالمة إلى أن الوضع الاجتماعي والطموحات المشروعة للأفراد ارتفعت، لذلك فمن يقبلون على "الحرقة" لا يملكون الوسائل المشروعة لتحقيق طموحاتهم في بيئتهم، ويعتقدون أن الهجرة غير النظامية هي الحل بالنسبة لهم لتحقيق هذه الأهداف، حتى وإن كان سبب هذه الطموحات أحيانا الانبهار الموجود في الغرب، والذي لا يعبر عن الحقيقة الموجودة في بعض المرات.

لكن الدكتورة أم الخير سحنون لاحظت أن للتنشئة الاجتماعية دورٌ في التحول الذي مس ظاهرة الهجرة غير النظامية في الجزائر، مشيرة إلى أن "تدهور قيمة العلاقات القرابية والاجتماعية وتجردها من المعنى الأخلاقي والديني وتحولها إلى علاقات مبنية على أساس المصلحة المادية في جميع التعاملات بين الأفراد" ساهم في  هذه الظاهرة.

وبيّنت سحنون أن "التجارب السابقة للأقارب والمعارف والتي كللت بالنجاح ساهمت في ترسيخ وتجسيد فكرة الهجرة غير النظامية من أجل تحقيق الأهداف المادية في وقت وجيز، و بالتالي فإن انتشار وسيطرة فكرة تحقيق الذات والبحث عن حياة أفضل، لدى فئة الشباب ساهم في تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية".

وأضافت أن "الشباب يلجأ إلى هذه الظاهرة بحكم احتكاكه بجماعة أقرانه من أصدقاء وأهل الذين سبقوهم للمهجر من خلال تحقيقهم لطموحاتهم خاصة المادية منها في وقت وجيز ولهذا  يغامرون في محاولات حتى وإن كانت بائسة بحثًا عن تحقيق هذا الربح السريع".

ضرورة الفهم

لكن  الأستاذ سريدي لا يرى في حديثه مع "الترا جزائر" أن لتغير التنشئة الاجتماعية وتجرد العلاقات الاجتماعية من معناها الأخلاقي والديني دور كبير في تغير ملمح الهجرة غير النظامية في الجزائر، بالنظر إلى أن الأمر بالنسبة له يتعلق في الأساس بمدى قدرة الفرد على تحقيق "مشروع الحياة" الخاص به بالطرق المشروعة، فإن لم تتوفر العوامل المساعدة لذلك يلجأ لتحقيق طرق أخرى ومنها الهجرة غير النظامية، لذلك لا بد من فهم هذا التغير للقدرة على معالجة  هذه الظاهرة معالجة حقيقية.

ويدعو سريدي لمعالجة إقدام عائلات على الهجرة غير النظامية ضرورة فهم هذه الظاهرة بكل تعقيداتها، وفهم تماثلات الأفراد الاجتماعية بالنسبة للعيش داخل البلد أو الهجرة منه، فالظاهرة ليست بسيطة، ولا يمكن تحميل الأسرة هذا التغير لأنها تبقى مؤسسة اجتماعية تعيش إرهاصات المجتمع ككل جراء غياب مشروع واضح المعالم، بالنسبة للمقدمين على "الحرقة".

ويشدد الأستاذ سرايدي على ضرورة القيام بدراسات ميدانية لفهم الروابط الاجتماعية المؤدية لظاهرة التغير في الهجرة غير النظامية في الجزائر.

 الأستاذة أم الخير سحنون ترى أنه من الواجب مراجعة الطرق المنتهجة لمكافحة الهجرة غير النظامية، لأنها تعتقد أن "السياسة المنتهجة للحيلولة دون تفشي ظاهرة الهجرة غير النظامية تبقى غير فعالة لأنها تظل عبارة عن تدابير احترازية".

الأستاذة أم الخير سحنون لـ "الترا جزائر": السياسة المنتهجة للحيلولة دون تفشي ظاهرة الهجرة غير النظامية تبقى غير فعالة

من المؤكّد أن "الحرقة" الجماعية لعائلة بأكملها تظل حالة معزولة لا يمكن تعميمها، إلا أنه في الوقت ذاته من الضروي عدم تجاهل هذه الحالات، كونها قد تعكس  الجانب الأخطر للهجرة غير النظامية كونها تستهدف الأسرة ككل التي هي أساس المجامع، ولا تقتصر على سلوك الفرد الواحد.