07-مايو-2018

إعلان السلطات الجزائرية تخصيص يوم وطني لحرية الصحافة ليس إلا ضحكًا على الذقون (Flickr)

ما يُميّز الصّحافة الجزائرية المكتوبة، أنها ولدت في الزّمن الاستعماري، في شكل مبادرات من طرف أفراد مثل أبي اليقظان، أو من طرف هيئات مثل "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين". وكانت العناوين الصّحفية التي أثمرتها تلك المبادرات تتعرّض للرّقابة الصّارمة، التي كانت تؤدّي إلى غلقها من حين إلى آخر، فتظهر من جديد بعناوين مغايرة.

ظهرت الصحافة الجزائرية في ظروف الاستعمار الصعبة، كمبادرات من أفراد أو هيئات، وتحت رقابة الاستعمار الصارمة

إنّ مراعاة عوامل موضوعية، مثل قلّة الإمكانيات المالية والتّقنية، وقلّة التّجربة لدى الجزائريين، وانتشار الأمّية وندرة التّعليم بينهم، وتعسّف القوانين الاستعمارية السارية، التي كانت تعتبرهم مواطنين بلا حقوق، ومنها الحقّ في الإعلام؛ تجعلنا ندرك أن مشروع إطلاق صحيفة كان يُعدّ خطوةً في حكم المعجزة.

اقرأ/ي أيضًا: مطالب بتصنيف الصحافة ضمن المهن الشاقة في الجزائر

غير أنّ المفارقة تمثّلت في كون حكومة الاستقلال الوطني "1962"، عوض أن تشجّع المبادرات المستقلّة على أساس أن الاستقلال يعني استرجاع حرّية التعبير، راحت تحتكر الصّحافة، فصارت كلّ الجرائد، على قلّتها، حكومية. أي أنها كانت تموّل من طرف الحكومة، ولا تخدم إلا سياساتها وتحرّكاتها، في انعدام واضح للفرق بين حرّية الإعلام بين فترة الاحتلال والفترة الأولى من الاستقلال.

حين نقرأ بعض مذكّرات الصحفيين الفاعلين في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، مثل محمد سعيدي الذي رأس تحرير جريدة "الشّعب" الحكومية، نكتشف أن وزير الإعلام كان يقرأ افتتاحيات الصّحف الحكومية قبل نشرها. فيحذف الكلمة أو الجملة التي يراها لا تناسب الخطّ الافتتاحيّ للحكومة ويضيف ما يراه مناسبًا. أمّا المواضيع التي تشير إلى الفساد المستشري في القطاعات كلّها، أو تعطي الكلمة للمعارضين، أو تنتقد السّياسة القائمة؛ فلم يكن مفكّرًا فيها أصلًا.   

مع إقرار التعدّدية السّياسية والإعلامية في دستور شباط/فبراير 1989، زالت هذه المفارقة لأوّل مرّة، بحيث أصبح متاحًا للأفراد والأحزاب والهيئات والمنظمات بعث عناوين صحفية إلا من أبى. بل إن حكومة مولود حمروش الإصلاحية أطلقت مبادرة تاريخية، هي السماح للصحفيين المنتمين إلى صحف حكومية بإطلاق صحف خاصّة، مع منح معتبرة. فخرج من معطف صحف ومجلّات "الوحدة" و"الشّعب" و"المساء" و"النّصر" و"الجمهورية" و"المجاهد"، صحافيون استثمروا في خبراتهم من جهة، وفي تعطّش الفضاء الجزائري إلى منابر حرّة من جهة ثانية.

ولا تزال بعض الثمار الإيجابية لتلك المبادرة سارية المفعول حتى اليوم، منها صحف مستقلّة رافقت اللحظة الجزائرية بكلّ تحوّلاتها وانزلاقاتها وأوجاعها وأحلامها، خلال فترة العنف والإرهاب، ثم في ما تلاها في زمن المصالحة. تأتي في مقدّمتها جريدة "الخبر"، التي أزاحت الصحف الحكومية من صدارة المقروئية، وشكّلت مرآة لهواجس الشارع الجزائري، ومنبرًا لفضح تجلّيات الفساد الحكومي.

وانتهت تلك الحظوة بتوقيف المسار الانتخابي، وإقرار حالة الطوارئ عام 1992، حيث عاد احتكار الحكومة للمجال الإعلامي. وبات إطلاق جريدة خاصّة جديدة، ما عدا تلك التي أطلقت زمن التعدّدية، أو تلك التي تملك ولاءً حقيقيًا للخيارات الرّئاسية والحكومية، وللوبي المال والأعمال الذي شكّلته تلك الخيارات؛ هو من أصعب المشاريع وأندرها.

مع الإشارة إلى معطًى ضارب لحرّية الصّحافة في الصّميم، هو أن توزيع الإشهار محتكر كلّية من طرف الحكومة، وهو لا يتمّ بناء على مقروئية الجريدة، كما يقتضي المنطق الإشهاري، بل بناء على مدى ولائها للنّظام القائم واستعدادها لترويج مقولاته وتلميع سياساته.

عرفت الصحافة الجزائرية بعض الانفتاح والحرية منذ 1989، حتى جاء عام 1992 وإقرار حالة الطوارئ، لتنتكس على أعقابها مرة أخرى

إنه مقام يضعنا أمام عدّة مقارنات داعية إلى التأمّل والحزن. منها أننا عدنا، بعد نصف قرن من الاستقلال الوطني، إلى نفس المضايقات التي كانت تعانيها الصّحافة الخاصّة زمن الاحتلال. مما يجعل احتفال السلطة الآن باليوم العالمي لحرّية الصحافة، الموافق للثالث من شهر أيار/مايو، ومبادرتها إلى إقرار يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر يومًا وطنيًا لحرّية الصّحافة، ضربًا من ضروب الاستهزاء والضّحك على الذّقون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قضية "الخبر".. الصحافة الجزائرية على مفترق طرق

الصحف الجزائرية.. صراع البقاء