24-يوليو-2022
جزائريون مجنّدون في الجيش الفرنسي - 1959 (الصورة: Getty)

جزائريون مجنّدون في الجيش الفرنسي - 1959 (الصورة: Getty)

تُتداول عبارة "حزب فرنسا" في الأوساط الإعلامية والسياسية منذ فترة على نظاق واسع، كلما دار حديث حول نظام الحكم والقوى الخارجية المتحكمة فيه، إذ يوظف هذا المصطلح في تصنيف فئة من السياسيين والمثقفين ورجال الإعلام والصحافة ومسؤولين في الجهاز التنفيذي وضباط سابقين، يعملون لصالح الجهة الفرنسية، ويشكلون في لغة السياسة "الطابور الخامس" في الدولة.

“حزب فرنسا" عبارة تُطلق على الأفراد أو المنتمين إلى تيارات فكرية سواءً من السلطة أو المعارضة يتبنون الثقافة الفرنسية ويدافعون عن مصالح فرنسا الثقافية والاقتصادية 

في هذا السياق، يُبرز  مصطلح "حزب فرنسا" بقوة خلال المواعيد السياسية والانتخابية، أو نتيجة سجالات أيديولوجية حتى ولو كان مصدرها نقاش ذو طابع فكري أو أدبي، على غرار تصريح لكاتب مشهور أو اعلامي يستفز الساحة الإعلامية، حول تصريحات ياسمينة خضرة الأخيرة، أو ما يكتبه كمال داود على أعمدة صحيفة "لوبوان" الفرنسية.

حزب فرنسا

وتطلق عبارة“حزب فرنسا" على الأفراد والتيارات الفكرية سواءً كانت تنتمي إلى منظومة الحكم أو خارج السلطة أو إلى المعارضة، أغلبهم يدافع عن اللغة الفرنسية ويتحدثها ويتبنى الثقافة الفرنسية أو يدافع عن المصالح الثقافية والاقتصادية الفرنسية، على حساب المصالح الوطنية والهوية الوطنية وثوابت الأمة.

وفي ظل تعميم استخدام منصات سوشيل الميديا في الشأن السياسي والثقافي، تم تنميط العبارة وتعميم استعمال "حزب فرنسا" على كل مواطن جزائري يتحدث اللغة الفرنسية سواءً في خطاب رسمي أو تدخل على القنوات الفضائية، أو كان مزدوج الجنسية.

متى ظهر هذا المصطلح؟

 يعود أول استعمال لكلمة "حزب فرنسا" إلى السنوات الأولى بعد الاستقلال، نظرًا إلى وجود خلفية تاريخية ترتبط برؤية التيار الاستقلالي نحو أفراد من التيار الاندماجي الذين انضموا إلى الثورة ابتداء من سنة 1955-1956.

وبعد مرور ثلاث سنوات من تعيين أحمد بن بلة رئيسًا للجمهورية، اشتد الصراع بينه وبين وزير دفاعه هواري بومدين، إذ تباعدت الرؤى بين الرجلين في مسائل عديدة، لكن أهم الملفات التي شكلت نقطة تصادم وتباعد بين بن بلة وبومدين هي مسألة بناء المؤسسة العسكرية.

وبحسب بعض المؤرخين، لم يرغب بن بلة في تحديث أو عصرنة المؤسسة العسكرية، بل توجس من تقوية العسكر، إذ عمل على تعطيل أي مشروع تطوير للجيش أو إعادة ترتيبه وتشكليه، في مقابل ذلك، ونظرًا إلى الخلفية والتكوين العسكري، كانت رغبة هواري بومدين في تطوير المؤسسة العسكرية وفق معاير الجيوش الحديثة، وشكل اعتداء المغرب على الأراضي الجزائرية سببًا قويًا لدوافع وطموحات هواري بومدين.

وفي ظل النزاع الذي كان قائمًا بين الرجلين، حاول هوري بومدين إبعاد بعض المجاهدين المنتسبين إلى الجيش والاعتماد على ضباط صف شباب، منهم من تلقى تكوينا عسكريًا في المدارس العسكرية الفرنسية وهم الفارون من الجيش DAF، وبعض الضباط من بعثات قيادة الأركان بتونس إلى كل من مصر وسوريا والعراق والأردن. ميزة هؤلاء الضباط كما ذكره خالد نزار في الجزء الأول من مذكراته، أنهم أكثر انضباطًا والتزامًا بالتراتبية واحترام التسلسل الهرمي العسكري، لذا اعتمد عليهم بومدين في عصرنة الجيش وبنائه وتطويره.

في هذا السياق، أورد الهاشمي لعرابي في مذكراته "مذكرات جزائري سعيد" كيف وجد هواري بومدين صعوبات في تنظيم ميزانية وزارة الدفاع خلال اجتماعات المجلس الوطني الثوري، وقدم لعرابي صورة عن تلك العراقيل والمتمثلة في ذهنيات بعض القادة العسكريين، حيث هَدد أحد قدماء المجاهدين الذي يَحمل رتبة عسكرية، موظفًا شابًا استقدمه هواري بومدين لإعداد وتنظيم ميزانية وزارة الدفاع الوطني أو مختلف المصالح الأمنية.

من جانبه، أدرك أحمد بن بلة الورطة التي وقع فيها، بعد إعدام العقيد شعباني وهو من مجاهدي جيش التحرير الوطني الذين التحقوا بالجيش الوطني الشعبي، فحاول تلويث هواري وأطلق عليه عبارة "حزب فرنسا"، كان بومدين قد باشر عملية ترتيب وتنظيم القوات العسكرية، مستعينًا بضباط تلقوا تكوين عسكري بالمدارس العسكرية الفرنسية، وفرّ أغلبهم ابتداءً من أواخر 1957، والتحقوا بمعسكرات قيادة الأركان بتونس على غرار عبد القادر شابو، ومحمد زرقيني عبد الله بلهوشات وسليم سعدي وعبد المالك قنايزية وخالد نزار وغيرهم.

من ناحية أخرى، يؤكد رشيد بن يلس، الجنرال السابق والأمين العام الأسبق لوزارة الدفاع سنة 1984، أن بومدين استعان بكل الضباط وصف الضباط الذين تلقوا تكوينًا عسكريًا بالمدارس الفرنسية أو الضباط الذين درسوا في المعاهد الحربية والعسكرية في المشرق العربي.

وأشار بن يلس أن ضباط المشرق العربي كانوا مزدوجي اللغة وتلقوا تعليمًا أحسن بكثير من الفارين من الجيش الفرنسي، كما كشف صاحب كتاب "في أروقة السلطة" أن هؤلاء الضباط لم يكونوا أكثر عددًا، حيث لم يتجاوز عددهم مائة ضابط، كما استبعد بن يلس قدرتهم على السيطرة على الجيش.

 ذكر بن يلس في كتابه أيضًا أن هؤلاء الضباط لم يشكلوا تجانسًا في جسد المؤسسة وأن المظلومية التي كانوا محل اتهام بها (الفارون من الجيش الفرنسي) هي ما كانت تجمعهم، ولم ينفِ بن يلس شعور الضباط الفارين من الجيش الفرنسي من عقدة التفوق على من تلقوا تعليمًا في المشرق العربي.

بدوره يكذب الأمين العام السابق بوازرة الدفاع (1984) أية محاولة للمساس بالانتماء الوطني أو الطعن في وطنية هؤلاء الضباط، الذين قدموا دعمًا معنويًا وتكوينيًا في تونس وسقط البعض منهم في ساحة المعركة شهيدًا.

وقال بن يلس أن موضوع "الضباط الفارين من الجيش الفرنسي" شكل قضية استغلال سياسي، فخلال مؤتمر عقد بالجزائر العاصمة سنة 1964 ظهر مصطلح حزب فرنسا، حيث حاول أحمد بن بلة إضعاف هواري بومدين عبر قوله أمام المتدخلين إن بومدين يفضل الضباط الفارين من الجيش الفرنسي أو "دفعة لاكوست" من أجل زعزعة الحكم.

الخبارجي وعطلة باريس

من جهته، وفي سياق توظيف مصطلح "حزب فرنسا" قصد "تشويه" سمعة الأشخاص، نستحضر شواهد من اتهام الصحفي والإعلامي خالد درارني ولو ضمنيًا أنه "خبارجي"، حيث جاء ذلك في خطاب لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون خلال حديثه عن صحافي معتقل أصدرت عدة منظمات حقوقية دولية بيانات بشأن اعتقاله، وفُهم من كلام الرئيس أن من يقصده بكلمة "خبارجي" أو مخبر،  هو الصحافي خالد درارني لا غيره.

كان خالد درارني صحفيًا فرانكفوني اللغة، ومن عائلة ثورية، حيث سُميت أحد شوارع العاصمة باسم عمه الذي استشهد خلال الثورة التحريرية، وهو أول صحفي جزائري افتك تصريحًا من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعترف فيه بأن الاستعمار جريمة ضد الإنسانية.

ولأن درارني صحفي معتمد يشتغل لصالح بعض القنوات الفرنسية وتربطه علاقات مهنية كأي صحفي بالسفارات في الدول الأوربية، شنت مواقع التواصل الاجتماعي حملة على خالد واعتبرته من "حزب فرنسا" أو "خبارجي"، كونه ظاهريًا يحمل ثقافة فرنسية ويتحدث اللغة الفرنسية خلال أداء وظيفته الإعلامية، فدفع خالد الثمن بسبب خياراته تلك سجنه لمدة سنة كاملة.

القنوات نفسها والمواقع التي شنت الحملة ضد خالد درارني، قامت باتهام عبد المجيد تبون سابقًا خلال  فترة ترأسه للحكومة عبد العزيز بوتفليقة، وقد استخدمت تهمة الولاء إلى فرنسا ذريعة لمهاجمة تبون الذي باشر في فتح تحقيقات حول ممارسات الفساد، وبدأ حملة تنظيف ومكافحة الرشوة.

فخلال سفره إلى باريس في ذلك الوقت، شنت قنوات إعلامية ومواقع تواصل اجتماعي بشكل منتظم حملة تخوين ضد الرجل، وقالت إنه التقى بوزير الحكومة الفرنسي إدوارد فيليب دون إعلام الرئاسة، في رسالة مضمونها تلقي الأوامر من باريس، وتوضح جدًا أن اللعب على وتر حساس كالعمالة إلى فرنسا كان يهدف إلى ابتلاع الطعم وتخوين تبون وكان يقف وراء الحملة  بعض المسؤولين ورجال الاعمال هم الآن وراء القضبان بسبب الفساد والاختلاس والرشوة.

 

عبارة "حزب فرنسا" توظف سياسيًا لتصفية الحسابات وتشويه صورة الأشخاص

على العموم، فإن عبارة "حزب فرنسا" وإن كانت وهمًا أم حقيقة، تبقى خاضعة دائما للاستغلال السياسي والتوظيف في تصفية الحسابات بين عناصر النظام أو تدنيس الأشخاص، ولعلنا نستحضر أيضًا مثالًا آخر في هذا المقام، وهو اللقاء الوهمي الذي روجت له وسائل إعلام عديدة خلال فترة الحراك الشعبي، حيث قيل إنه جمع بين كل من الفريق المتقاعد محمد مدين والسعيد بوتفليقة ولمين زروال في حضور عناصر من المخابرات الفرنسية، وهذا أكبر مثال على هذا الاستغلال المبتذل لهذه العبارة.