تشهد المنظومة التعليمية أزمة حقيقية تُمثِّل تحديًا كبيرًا في تحقيق تطلعات الأجيال القادمة، حيث سلّط تقرير مجلس المحاسبة لعام 2024، الضّوء على جملة من القضايا التي تتعلق بالتحصيل التعليمي للتلاميذ، وعلى رأسها نقص ساعات الدراسة وانتشار الدروس الخصوصية وغيرها.
الوثيقة بدأت تقييم قطاع التربية منذ 2015 إلى 2023 مرورًا بتولي 3 وزراء للمسؤولية
ذكر التقرير الذي وُسِم بـ"المدرسة الجزائرية ورهانات الجودة (الإطار الاستراتيجي 2015-2023)" أنّ التقليص في ساعات الدراسة الرسمية في المدارس قد أدى إلى تقليص فرص التلاميذ في تحصيل المواد الدراسية بشكل كافٍ.
هذا النّقص دفع العديد من الأسر إلى اللّجوء إلى الدروس الخصوصية، ما أفرز فجوة تعليمية بين التلاميذ من ذوي الإمكانيات المختلفة، وزاد من الأعباء المالية على الأسر.
وأسفر هذا الوضع عن تدني مستويات تحصيل التلاميذ، مما يتطلب إصلاحات عاجلة لضمان تعليم عادل وجودة أعلى في المؤسسات التعليمية.
التربية في 2024 .. اختلالات 10 سنوات
عقب الإعلان عن الوثيقة الرسمية قبل نهاية عام 2024، فإنّ السؤال الجوهري الذي يمكن طرحه بإلحاح هو: هل تفرج الحكومة ورشة عمل لإعادة التخطيط للمناهج التربوية خلال 2025؟ أم ستبقى ملاحظات المجلس وتقييم التعليم لعقد من الزمن في الأدراج؟
الاعتماد على الدّروس الخصوصية كحلّ بديل لتحسين مستوى التعليم يعكس ضعف أداء النظام التعليمي الرسمي
كشف التقييم أنّ النظام التعليمي يعاني من فجوة كبيرة مقارنة بالدول المتقدمة، حيث تقل ساعات الدراسة في الجزائر بنحو 4 إلى 6 أسابيع عن المتوسط العالمي.
ويتطلّب الأمر تعديل المناهج لتكون أكثر مرونة وملاءمة، وتوفير محتوى تعليمي يعزز التفكير النقدي والإبداعي، مما يسهم في تحسين مستوى التحصيل العلمي وتطوير قدرات الطلاب.
كما لفتت وثيقة مجلس المحاسبة، إلى عدّة محاور تدور حول ثلاثية العملية التّعليمية: الأستاذ المكوّن والتلميذ والبرامج، خاصة في علاقتها بالارتفاع الكبير في الاعتماد على الدّروس الخصوصية كحلّ بديل لتحسين مستوى التعليم، وهو ما يعكس ضعف أداء النظام التعليمي الرسمي وفشل الإصلاح التربوي.
علاوة على ذلك، لُوحظ تدنّي مستوى التحصيل العلمي، خصوصًا في المواد الأساسية، مما يزيد من تعقيد الأزمة التعليمية في البلاد.
بالمقارنة مع الدول الأخرى، أشار المصدر إلى وجود فجوة كبيرة بين النظام التعليمي في الجزائر ونظم التعليم في الدول المتقدمة، ومردّ ذلك إلى نقص كبير في عدد ساعات الدراسة، بالإضافة إلى انتشار الدروس الخصوصية بشكل واسع.
وقف فريق إعداد هذه الوثيقة عند متوسّط عدد الأسابيع الدراسية في الجزائر؛ إذ يقلّ عن المتوسط العالمي بما يتراوح بين 4 إلى 6 أسابيع، مما يعكس الفارق الكبير في جودة التعليم بين الجزائر والدول الأخرى.
"التوقيت المدرسي"، من أبرز هذه الاختلالات أيضاً؛ حيث تؤكد الوثيقة أنّ أداء النظام المدرسي يعد من الأدنى عالميًا، بسبب عدم تحقيق الحد الأدنى من 32 أسبوعًا سنويًا، دون احتساب الانقطاعات المتكررة، بينما يبلغ متوسط مدة التعليم الابتدائي في الدول الغربية والأوروبية 36 إلى 38 أسبوعًا.
وكشف تقرير مجلس المحاسبة عن أزمة تعليمية حقيقية تتمثل في نقص ساعات الدراسة بنسبة 15% مقارنة بالمتوسط العالمي، إذ تؤثّر هذه الثّغرات بشكل سلبي على مستوى التّحصيل العلمي للتلاميذ ممّا يحدّ من فرصهم المستقبلية
وأكد التقرير أنّ هذا النقص، بالإضافة إلى انتشار الدروس الخصوصية بنسبة 74.5% في مادة اللغة الفرنسية، له تأثيرات سلبية على مستوى التحصيل العلمي للطلاب الجزائريين، مما يحرمهم من الحصول على التعليم الجيد الذي يستحقونه.
وفي هذا السياق، دعا المهتمون بشأن الإصلاح التربوي في الجزائر إلى ضرورة الاستفادة من التجارب الناجحة للدول الأخرى في مجال التعليم وتبني أفضل الممارسات لرفع مستوى النظام التعليمي في البلاد.
قُصور
ذكر الباحث في علم الاجتماع التربية، وليد سيغة، من جامعة الجزائر، أنّ هناك قصورًا في تنظيم الوقت المخصص للدراسة، مما يؤدي إلى نقص ساعات تدريس مادة الرياضيات.
وأشار في إفادة لـ"الترا جزائر" إلى أنّ المشكلة تتعلق بـ"عملية الحفظ والتلقين التي تُهمش التفكير النقدي وحل المشكلات، وهما مهارتان أساسيتان في مادة الرياضيات".
كما تحدّث الأستاذ سيغة عن بعض الممارسات البيداغوجية غير الكفء، حيث "يفتقر بعض المعلمين إلى التدريب الكافي على أساليب تدريس الرياضيات الحديثة والفعالة".
وأضاف أنّ "ضعف مستوى التحصيل في الرياضيات يؤدي إلى صعوبة فهم التلاميذ للمفاهيم الرياضية الأساسية وصعوبة حل المسائل"، مما يؤثر سلبًا على أداء التلاميذ في مواد أخرى، خاصة العلمية منها.
واقترح زيادة عدد ساعات تدريس الرياضيات في المناهج الدراسية لضمان حصول التلاميذ على الوقت الكافي لفهم المفاهيم وتطبيقها، بالإضافة إلى ضرورة تطوير المناهج لجعلها أكثر تفاعلية وتركيزًا على الفهم بدلاً من الحفظ والتلقين.
ترحيل أزمة.. من طور لآخر
على الرّغم من قدرة التلاميذ على القراءة والفهم، إلا أن الكثير منهم يواجهون صعوبات كبيرة في التعبير الكتابي باللغتين العربية والفرنسية، وفقًا للتقرير.
مشكلة تدني التحصيل التعليمي يتمّ ترحيلها من مرحلة عمرية إلى أخرى ومن طور تعليمي إلى آخر
ويرى الأخصائيون أنّ هذه الصعوبة تؤثر بشكل كبير على الأداء الأكاديمي بشكل عام، خاصة أن اللغة العربية هي لغة التعليم الأساسية.
وبالنّسبة لهذا الموضوع، يعتقد البعض أنّ مشكلة تدني التحصيل التعليمي يتم ترحيلها من مرحلة عمرية إلى أخرى، ومن طور تعليمي إلى آخر.
فقد كشفت أستاذة اللغة العربية، سعيدة بوذن، أنّ المشكلة تفاقمت مع مستوى الأداء اللغوي في التعليم المتوسط والثانوي، وصولًا إلى المرحلة الجامعية. وأوضحت في حديثها مع "الترا جزائر" أن مسألة الحفظ والتلقين تُهمش مهارات التفكير النقدي والإبداع الضرورية للتعبير الكتابي.
كما دعا البعض إلى تخصيص وقت كافٍ في المناهج الدراسية لتدريب التلاميذ على مهارات الكتابة المختلفة، مثل كتابة الفقرات والمقالات.
وتلقي هذه المشكلة بظلالها على الصعوبة في التحصيل في المواد الدراسية الأخرى، خاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث تُعتبر مهارات التعبير الكتابي أساسية للنّجاح في معظم المواد.
ومن بين تداعيات هذه المشكلة، صعوبة الاندماج في الحياة الجامعية والمهنية، حيث يواجه الطلاب الذين يعانون من صعوبات في التعبير الكتابي، العديد من العقبات في كتابة البحوث والمقالات الأكاديمية، وكذلك في التواصل الكتابي في بيئة العمل.
واقترح الباحث في علوم التربية، عبد الكريم صالحي، ضرورة إجراء تدريب مستمرّ للمعلمين، إضافة إلى تمكينهم من الأدوات اللازمة لتدريس مهارات الكتابة.
كما دعا صالحي في تصريح لـ"الترا جزائر" إلى تنويع الأنشطة الكتابية للتلاميذ، لتشمل كتابة القصص القصيرة، والمقالات، والتقارير، وغيرها. وأكد على أهمية التشجيع على القراءة بانتظام، لأنها تعمل على توسيع المفردات وتحسين القدرة على التعبير.
تكوين الأساتذة
تُعتبر ظاهرة الدروس الخصوصية من القضايا الملحة التي تواجه العديد من النظم التعليمية، وقد سلط تقرير مجلس المحاسبة الضوء على تفاقم هذه الظاهرة في المرحلة الابتدائية، خاصة مع تصدر مادة اللغة الفرنسية لقائمة المواد الأكثر طلباً لهذه الحصص التعليمية.
هذه الثّغرات تؤثّر بشكل سلبي على مستوى التّحصيل العلمي للتلاميذ ممّا يحدّ من فرصهم المستقبلية
وعلى الرغم من غياب دراسات معمقة حول أبعادها، إلاّ أنّه من الواضح أن الدروس الخصوصية أصبحت واقعاً ملموساً مرتبطاً بجودة التعليم العمومي. ووفقًا للتقرير، احتلت اللغة الفرنسية الصدارة في الطلب عليها من التلاميذ، تليها اللغة العربية والرياضيات.
يرجع تفاقم الظاهرة إلى نقص الإشراف في المؤسسات التربوية، وضعف الاستيعاب والنتائج الدراسية، بالإضافة إلى الضغوط الاجتماعية.
وعلى الرغم من أنها تضاف إلى الأعباء الأسرية، فإن الدروس الخصوصية تشكل ضغطًا نفسيًا على التلاميذ، إذ تؤثر كثرتها سلبًا على التحصيل الدراسي. لذا، يُوصى بتحسين جودة التعليم داخل المدارس، من خلال توفير الكتب والموارد اللازمة، وتدريب المعلمين، وتوفير بيئة تعليمية محفزة، بالإضافة إلى تقديم الدعم المناسب للتلاميذ.
من بين التحديات الأخرى، سلّط تقرير مجلس المحاسبة الضوء على تكوين الأساتذة وتحسين مستواهم، حيث ركز التقرير بشكل خاص على جودة التكوين القاعدي وآليات التربص، وكذلك تأهيل الأساتذة المتعاقدين.
كما بيّنت الوثيقة بعض الخلل في التكوين القاعدي، حيث لا يتناسب مع احتياجات الميدان التربوي، ما يؤدي إلى نقص في المهارات اللازمة لمزاولة مهنة التدريس.
أما برامج التربص الميدانية، فتعاني من نقص في التنظيم والوقت المخصص لها، وهو ما يؤثر سلبًا على جاهزية الطلبة الأساتذة للعمل في الميدان.
ثغرات.. 10 سنوات بـ 3 وزراء
الوثيقة بدأت تقييم قطاع التربية منذ عام 2015 إلى غاية 2023، أي خلال فترة وزيرة التربية السابقة نورية بن غبريط التي تولت الوزارة في 2014، في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. ثمّ تتابع التقييم مع الوزير عبد الحكيم بلعابد الذي شغل المنصب من آذار/ مارس 2019 حتى 2020، ثم الوزير محمد واجعوط حتى 2021. بعد ذلك عاد بلعابد إلى الوزارة في 2021، قبل أن يتمّ تعيين محمد الصغير سعداوي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.
في ظلّ الحاجة الماسة إلى تغطية العجز في قطاع التربية، لجأت الجهات الوصية إلى توظيف أساتذة متعاقدين، إلا أنّ هذه الاستراتيجية لم تنجح في سد الفجوة المعرفية والتكوينية بشكل كافٍ، حيث يعاني هؤلاء الأساتذة من نقص في التأهيل.
وفي هذا السياق، دعا رئيس المنظمة الجزائرية لأساتذة التربية، بوجمعة محمد شيهوب، إلى أهمية مراجعة هذا الخلل من خلال إخضاع الأساتذة لبرامج تكوين شاملة قبل توظيفهم.
وقال في تصريح لـ"الترا جزائر" إنّ ما ورد في التقرير حول البرامج كان دقيقًا، منتقدًا عدم تناوله للغايات والأهداف الأساسية للقانون التوجيهي للتربية وتطبيقاته.
وأشار إلى أن الجهات الوصية اعتمدت على نسبة 10 في المائة فقط من الأساتذة المتخرجين من معاهد عليا للأساتذة، بينما يتم سد الفراغ في احتياجات الأساتذة من المتخرجين من الجامعات، مما يخلق حالة من نقص الكفاءة لدى العديد منهم.
واعتبر أن هذه العملية تقتصر على سد الفراغ بأساتذة يفتقرون إلى المنهجية والخبرة التربوية، حيث يجب أن يحصل الأساتذة على تكوين شامل وكفاءات مؤهلة.
وقال شيهوب بأنه يتفق مع بعض التقييمات الواردة في تقرير "مجلس المحاسبة" حول ضرورة إعادة تقييم المناهج الدراسية وتغيير حجم الساعات الدراسية، داعيًا إلى تحديث المناهج كل 10 سنوات لتتناسب مع المتطلبات الجديدة في سوق العمل.
أرقام
كشف التقرير أنّ الأساتذة المتعاقدين في الجزائر يشكلون 90% من إجمالي الأساتذة في 2021، إلا أنهم لا يتلقون تكوينًا تحضيريًا قبل التوظيف، وذلك بسبب الطابع المؤقت لتوظيفهم وقلة الموارد المالية. بدلاً من التكوين الكامل، يتم تنظيم ندوات قصيرة لهم. كما أشار التقرير إلى توظيف أكثر من 60 ألف أستاذ متعاقد بين 2018 و2021 في الطورين الابتدائي والمتوسط بسبب نُقص المتخرجين من المدارس العليا للأساتذة.
كما سجّل التقرير عجزًا في أساتذة مادة الإعلام الآلي، مما حال دون تعميم تدريس هذه المادة في المؤسسات التربوية حتى عام 2022.
وأشار التقرير أيضًا إلى نقص أساتذة اللغات الأجنبية، حيث يوجد أستاذ واحد لكل 90 تلميذًا في المرحلة الابتدائية، وأستاذ واحد لكل 72 و75 تلميذًا في الطور المتوسط لمادتي الفرنسية والإنجليزية.